تجّار الهيكلفايز فارس

في البدء كان القتل.. منذ قابيل وهابيل. وكانت الناس تلوذ بالمنتصر الذي أقنع نفسه والآخرين أنه الأقوى. وجلس على عرشه وأجلس إلى يمينه المؤرخ وطلب منه أن يكتب التاريخ.. تاريخ المنتصر أي الأقوى. والتاريخ صنعته الحروب، بين انتصار وانكسار. منهم من مارس الغزو والنهب والعربدة والسبي وحرق الأخضر واليابس زرعاً وكتباً ومدنيةً بسبب جوع مزمن أو طمع أو رغبة في الانتقام والاقتصاص من الآخرين. ومنهم من مارس الحرب من أجل «عولمة» فكرية اجتماعية اقتصادية شاملة، بسبب رغبة في التواصل والتوسع والانتشار على خلفية موزعة بين ذلك الشعور بالتفوق على الآخرين واعتقاد راسخ بجدوى التناضح الحضاري. ومنهم من انتفض على الظلم والطغيان وحارب من أجل إحقاق الحق واسترداد إحساسه بكرامته وحريته وسيادته على أرضه. فكان عليه أولاً أن ينتصر على معاناته الذاتية حتى يتمكّن بعدها من الانتصار على الباطل. لأنه لا يدوم انتصار على الآخر من دون تحقيق الانتصار على الذات بكل أبعادها. والتاريخ هو أفضل شاهد.
الأقوياء المنتصرون في لبنان فئتان:
فئة عاشت وعانت خلال عقود من الظلم والحرمان والإهمال إلى درجة الاحتقار، حتى لم يعد أمامها، وهي الأصيلة الغنية بماضيها، سوى الانتفاضة على حاضرها الأليم وصنع مستقبل تراه أفضل لها وللآخرين. فجاهدت من أجل الانتصار على ذاتها أولاً وتخلّصت من نقاط الضعف والهوان والانكسار الكامنة فيها، ثم قامت إلى العمل الدؤوب على تهيئة نفسها وتعبئة قدراتها وتنظيم صفوفها من أجل التصدي للواقع المرير ومواجهة المعتدي الغاصب.. وانتصرت عليه، مثنى وثلاث ورباع، والآتي أعظم. وفئة متسلّطة مهيمنة ادّعت الانتصار بسبب قدرتها الفائقة على اقتناص الفرص والصعود في قطار التاريخ وفي يدها المرفوعة عالياً تذكرة سفر اشترتها بالمال من وكلاء السفر والسياحة في هذا العالم البائس. هذه الفئة قطفت وما زالت تقطف ثمار جهد وتعب الآخرين في وطن مركب تركيباً عجيباً.. شعبه في حيرة من أمره يبحث من دون جدوى عن دولة عادلة توحّده وقائد حقيقي ينتشله من مستنقع التاريخ. وغاب عن أذهانهم أن القوي قويٌّ لأنه تفوّق وانتصر على قوي آخر. هو يدّعي القوة والتفوق عندما ينتصر ويتفوّق على من هم أدنى منه. وانتصاره لا يدوم، لأنه تأسس على وعود كاذبة واستغلال ظرفي وعلاقات هشّة.
سنتان من العبثية والفوضى المنظّمة الخلّاقة خوفاً ورعباً وإرهاباً دولياً دكّت البلاد وشلّت العباد على نحو لم نشهده خلال حرب سمّيت أهلية، حيث تساوى الجميع في تأدية الأدوار إلى حد كبير من أجل تسجيل أو تحقيق انتصار ما على الآخر والفوز بالسلطة. وبدا كل طرف من أطراف النزاع وكأنه يسعى إلى إرضاء صاحب القرار الدولي الذي يموّله ويشجّعه ويدفع به إلى الاقتتال الأهلي من دون جدوى أو فائدة وطنية تستحق الذكر. واستحى الكبار واستحى بأمر منهم الصغار مضطرين مجبرين.
أوضاعنا اليوم مختلفة وإن كانت أسباب الصراع متشابهة. فالشرارة الأولى انطلقت في الحالتين من صيدا مدينة الشهيدين معروف سعد ورفيق الحريري. في الحالة الأولى حصل كل شيء بشكل مفاجئ وأُدخل الجميع إلى حلبة الصراع غصباً عنهم. ولم يكن من الممكن إيقاف «لعبة الحرب» إلا بأوامر عليا لا تحتمل نقاشاً أو مراجعة ما. أما في الحالة الثانية فقد حصلت الأمور وكأن كل شيء كان معلوماً.. كان معروفاً أقلّه عند من سمّي فريق الأكثرية النيابية، قابله فريق تكوّن وتتطوّر مع تطوّر الحدث الكبير الذي خلّف وراءه أحداثاً أقل شأناً. وكأني بالحدث الكبير لم يكن كافياً، كما حصل في الماضي، لإخضاع البلد وتحطيم كل الأفكار والمعتقدات التي أثبت بعضها أنه قادر على المواجهة ومنع الانهيار الكليّ ورفض التسليم بالأمر «الموقّع». الحروب ككل النزاعات، في حاجة إلى طرفين راغبين فيها مستعدين لها حتى تشتعل وتستمر وتدوم. إذاً هي غير ممكنة وغير قابلة للاشتعال إذا كان أحد الطرفين لا يرغب فيها، وبخاصة في الحروب والصراعات الداخلية.
غداً سيذوب الثلج فوق قمم جبال لبنان الشامخة، وسيعلن ويقول آخرون كثر ما لم يعلنه ويقوله الرئيس نبيه برّي والسيد حسن نصر الله بالأمس، وسيعرف الناس من هم تجّار «الهيكل» ومن هم خدّامه. غداً أو بعد غدٍ سيُعلن إفلاس مشاريع الشرق الأوسط الجديد والكبير والأكبر. فإما يكون هذا المشرق عربياً وإما لا يكون. غداً سنشهد ولادة دول عظمى ونشوء مجموعات قارية وتحالفات ثنائية وثلاثية جديدة تضع حداً لعولمة أميركية لم تتمكن خلال عقدين من بناء أساساتها.