رشيد أسعد *
مع إعلان إيران بالأمس القريب أنها بدأت تخصيب اليورانيوم بمستويات صناعية، يبدو أن السباق سيستمر محموماً بين منجزات إيران التقنية والعقوبات المفروضة عليها غربياً عبر مجلس الأمن. ويبدو بشكل واضح أن الملف النووي الإيراني سيبقى الملف الأبرز والأخطر على الساحة الدولية لوقت غير قصير، حيث تتفاوت التقديرات والتسريبات في شأنه من تكثيف العقوبات المفروضة إلى توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية وربما إلى توجيه ضربة عسكرية شاملة..
يشكّل اليورانيوم المخصّب الوقود النووي لتشغيل المفاعلات. وتخصيب اليورانيوم هو آلية لزيادة نسبة اليورانيوم القابل للانشطار في خام اليورانيوم. يتم ذلك عبر ما يُسمى دورة الوقود النووي الكاملة، انطلاقًا من استخراج هذه المادة من الطبيعة وتنقيتها وتحويلها إلى الحالة الغازية، وصولاً إلى ضخّها داخل سلسلة من أجهزة الطرد المركزي ذات الشكل الأسطواني التي تدور حول محورها بسرعات هائلة تفوق سرعة الصوت. خلال هذا الدوران، يُطرد اليورانيوم غير القابل للانشطار لتزداد نسبة القابل للانشطار الذي يكون مسؤولاً عن توليد الطاقة المطلوبة داخل المفاعلات.
والفارق بين التخصيب البحثي والتخصيب الصناعي فارق كمّي وليس نوعياً. عندما بدأت إيران بالتخصيب، شغّلت سلسلة واحدة من 165 جهاز طرد مركزي حيث وصلت نسبة التخصيب إلى 3,5 في المئة. كان الهدف من تلك الخطوة بحثياً لمعرفة مدى النجاح التقني في الآليات المستخدمة ولمعرفة مستوى نقاء ونظافة اليورانيوم المخصّب الناتج. لم تكن الكمية المنتجة آنذاك كافية أو هادفة إلى تشغيل المفاعلات. أما اليوم، عندما تعلن إيران أنها بدأت بتشغيل آلاف أجهزة الطرد وأنها تطمح إلى تشغيل 54 ألف جهاز في القريب، فإن هذا يعني زيادة كمية اليورانيوم المنتج بشكل يكفي لتشغيل مفاعلات توليد الطاقة. ويحصل ذلك بوضع تلك الأجهزة الكثيرة في حلقات متسلسلة متوازية (خطوط إنتاج)، وكلما زاد عدد الحلقات زادت كمية الإنتاج. بالنسبة إلى الفارق النوعي، فإن المقصود به تحديداً هو الفارق في نسبة تخصيب اليورانيوم الذي يشكل حداً فاصلاً ما بين النووي السلمي والنووي العسكري.. لاستخدام اليورانيوم في صناعة قنبلة نووية، يجب أن تصل نسبة التخصيب إلى ما يفوق 90 في المئة، وهذا يحتاج إلى سلسلة من أجهزة الطرد تزيد على 3 آلاف جهاز متصلة وفق شروط سرعة دوران عالية التقنية والحساسية. وبالتالي، ما أعلنته إيران يشير إلى إنتاج كميات أكبر بنسبة تخصــــــــيب واحدة للاستخدام السلمي الصناعي فقط.
تتعدد الاستخدامات السلمية الصناعية للطاقة النووية، ويشكل توليد الطاقة الكهربائية أهمها على الإطلاق. عندما تنشطر ذرات اليورانيوم داخل المفاعل النووي، تتولد طاقة حرارية هائلة تحوّل المياه إلى الحالة البخارية تحت ضغط كبير. يمر هذا البخار عبر فتحات ليضرب توربيناً ضخماً فيدور بالسرعة المناسبة لتوليد الكهرباء بكميات كبيرة لفترات طويلة. لتقريب الصورة وإدراك أهمية تلك الطاقة المولَّدة، فقد تمّ استخدام حوالى 5 كلغ من اليورانيوم في قنبلة هيروشيما الشهيرة. إن الطاقة الناتجة من ذلك الانفجار خلال جزء من الثانية، يمكن استخدامها داخل المفاعل النووي بشكل مسيطر عليه وبامتداد زمني طويل، حيث يمكن هذه الطاقة أن تضيء مدينة كبرى لفترة عام كامل على الأقل..
في الملف النووي الإيراني، يتداخل التقني بالسياسي والاقتصادي، ويتداخل المحلي بالإقليمي والدولي. من الوجهة الإيرانية، وبعد هذا الإنجاز التقني الجديد، يبدو التراجع صعباً، إن لم نقل مستحيلاً. فعلى المستوى المعنوي، أنْ تصبح إيران داخل النادي النووي الصناعي يشكل مصدراً للاعتزاز الوطني والقومي. أما على المستوى الاقتصادي، ومع التوقّع العلمي لنضوب النفط والغاز في العقود المقبلة، يبدو أن الطاقة النووية تشكل أساس الطاقة البديلة، وخاصة مع النمو الديموغرافي الاستهلاكي في إيران. ويجب هنا احتساب الوفر الاقتصادي النفطي الذي يوفّره توليد الكهرباء عبر شطر اليورانيوم ومدى تأثيره في أية دورة اقتصادية ومشاريع تنموية. من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال الكلفة الباهظة التي وضعتها إيران إلى الآن في مشروعها النووي لإدراك استحالة تراجعها. على المستوى السياسي، تدرك إيران جيداً أن أي تراجع ستليه تراجعات أخرى في الملف النووي نفسه أو في ملفات أخرى. وتدرك أن قبولها بالتخصيب خارج أراضيها سيؤدي إلى نوع من التبعية السياسية للجهات الدولية المخصِّبة، ويمكن أن يعرضها للابتزاز السياسي إلى حد حرمانها الوقود المخصّب. وأفضل دليل على هذا قضية قطع الغيار لطائراتها المدنية والعسكرية.. ثم جاء أخيراً التذبذب الروسي في تسليم الوقود النووي لتشغيل مفاعل بوشهر ليزيد من قناعة إيران بضرورة إنتاج هذا الوقود محلياً، فربما تكون شبكة المصالح الروسية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً أهم وأمضى من شبكة المصالح معها.
من الوجهة الأميركية ومعها جزء من المجتمع الدولي، هناك جدار عالٍ من عدم الثقة بإيران. هناك محاكمة للنيات الإيرانية مبنية على قناعة ولو من دون دليل على أن الوجهة النهائية للمشروع النووي الإيراني هي وجهة عسكرية. فمن يخصّب إلى نسبة 5 في المئة باستطاعته أن يكمل إلى ما فوق 90 في المئة لتصنيع قنبلة. وأكثر ما يخشاه هؤلاء، أن تعالج إيران النفايات النووية (اليورانيوم المستنفد) المتبقية داخل قضبان اليورانيوم في المفاعلات، إذ إن معالجة هذه النفايات هي الطريق لإنتاج مادة البلوتونيوم الحساسة والأساسية في صناعة أي سلاح نووي (كما حصل مع كوريا الشمالية).. لكن، كما يظهر إلى الآن، فإن العقوبات المتدرجة ضد إيران في مجلس الأمن لم تؤتِ ثمارها المطلوبة. فبعد كل قرار تأتي إيران بإنجاز جديد ضاربة عرض الحائط بتلك القرارات، معتبرة إياها منحازة وغير موضوعية.. لذلك لا بد للولايات المتحدة ومن معها من اتخاذ إجراءات جديدة ربما تكون على شكل عقوبات دولية أكثر صرامة تصل حد الحصار بمختلف أشكاله وصولاً إلى حافة الهاوية بين الطرفين..
إضافة إلى كل ما ذُكر، لا يمكن إطلاقًا إغفال أو غضّ الطرف عن إسرائيل التي تعتبر أن إيران النووية تخلق مشكلة وجودية خطيرة لكيانها. وهي تعتبر أن هذه القضية أكثر جاذبية لابتزاز العالم من قضيتي الهولوكوست ومعاداة السامية. لذلك تعمل جاهدة على تشكيل الرأي العام الدولي والتأثير في القرارات الدولية للوصول إلى مواجهة إيران بكل الأساليب المتاحة. والخطير في هذا الشأن أن إسرائيل ألمحت في بعض الدراسات الصادرة عن مؤسساتها الأمنية، إلى أنه في حال فشل المجتمع الدولي في مواجهة إيران، فسيكون الخيار النووي التكتيكي لضرب المدن الإيرانية خياراً متاحاً ومشروعاً إزاء ما تتعرض له من تهديد وجودي!
لقد وصل الملف النووي الإيراني إلى حدود المأزق بكل ما تحمله كلمة مأزق من معنى. فإيران لا تريد شيئاً من المجتمع الدولي سوى عدم التعرض لمشروعها النووي السلمي. أما الولايات المتحدة وبعض المجتمع الدولي فلا يريدون شيئاً من إيران سوى وقف مشروعها النووي.. إنها معركة إرادات خطيرة، وأخطر ما فيها أنها مفتوحة على جميع الاحتمالات بما فيها الاحتمال العسكري مع كل ما يليه من تداعيات كارثية.
* كاتب لبناني