عبد الحسين شبيب *
منذ تولّيه رئاسة الجمهورية الإسلامية في إيران دأب محمود أحمدي نجاد على إرساء تقاليد جديدة في التعاطي مع الأزمات التي تواجه بلاده، وهو الذي تقلّد سدة السلطة التنفيذية في واحدة من أكثر اللحظات التاريخية حراجة: تحوّلات داخلية ونقاشات طالت المحظورات فتحها عهد الرئيس السابق السيد محمد خاتمي ونجحت القيادة العليا في استيعابها تدريجاً ليفاجأ المتابعون للشؤون الإيرانية بتجييرها لقدوم رئيس جديد من الاتجاه المقابل لخاتمي وبتفويض شعبي كبير، وتحولات خارجية معظمها يحيط بإيران ويستهدفها، من غزو أفغانستان إلى غزو العراق وما تلاهما من طرح البرنامج النووي الإيراني في عواصم القرار العالمي في محاولة للحد من حق الجمهورية الإسلامية في تأدية دور في القضايا ذات الصلة بموقعها الجيوسياسي، أو بتأثيرها في أماكن بعيدة نسبياً عن مجالها الجغرافي، لكنها متصلة بمجالها العقائدي الديني، أو بتحالفاتها السياسية، وذلك بما يتناسب وإمكانيات هذا البلد الصاعدة قوته بوتيرة مخيفة لمن يعتبره خطراً على مصالحه (الولايات المتحدة أولاً) ووجوده (إسرائيل أولاً).
ويتضح من تحليل مجموعة من الوقائع أن الرئيس نجاد يتعاطى مع الملفات الساخنة والحساسة انطلاقاً من مجموعة قواعد ومقاربات أبرزها التالي:
أولاً، المتغيرات العالمية التي تتوالى لغير مصلحة القوى المهيمنة على الشؤون الدولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الغارقة كلياً في المأزق العراقي، يقابله تصاعد لقوى أخرى، مثل روسيا والصين، تطلق دعوات إلى إعادة التوازن لنظام العلاقات الدولية.
ثانياً، الحرص الإيراني على التعبير عن تضخّم (إيجاباً) القوة الإيرانية في المجالات كافة: عسكرياً واقتصادياً وعلمياً، ما يحتّم تضخيم حجم تأثيرها في القضايا الإقليمية والدولية.
ثالثاً، التمسك الحرفي بمبادئ الاستقلال والسيادة والعزة والاقتدار والكرامة التي تعتبر بمثابة قيم أو محددات للسياسة الخارجية الإيرانية، ورفض أي مسّ ولو شكلي بهذه المبادئ أو إظهار أي تراجع إيراني في التعبير عنها عملياً.
ويمكن القول إن الاختبار الأول الذي خاضته السياسة الخارجية الإيرانية في عهد الرئيس نجاد بناءً على المعطيات الآنفة الذكر تمثل في تحدّيه الصارخ للمجتمع الدولي عندما أطلق تصريحاته الشهيرة المشككة في المحرقة اليهودية إبان الحرب العالمية الثانية، والأخرى الداعية إلى إزالة النظام الصهيوني العنصري عن الخريطة السياسية للعالم، الأمر الذي شكل صدمة في الأوساط العالمية التي كانت تقع تحت تأثير رهاب أو إرهاب منظم لا يرفض أي تشكيك فحسب بل أي نقاش علمي في موضوع المحرقة، فضلاً عن الدعوة إلى إزالة «دولة». على أن النقطة التي ركّز عليها المتابعون للشأن الإيراني في تلك الفترة هي استغرابهم كيف يقدم نجاد على إثارة «العالم» ضده في لحظة يفترضون أنها عصيبة ــ آنذاك ــ يمر فيها برنامج إيران النووي مع وصول المفاوضات مع الأوروبيين إلى طريق مسدود وتهديدهم بإحالة الملف على مجلس الأمن الدولي وتلويحهم بالعقوبات على طهران. واعتُبر كلام نجاد عن إسرائيل «سقطة» في إدارة الأزمات، باعتبار أنه يقدم مبرراً كافياً ــ من وجهة نظرهم ــ لتسويق الهواجس المطروحة في شأن امتلاك إيران طاقة نووية لجهة تشكيلها خطراً وجودياً على إسرائيل مع رئيس كهذا يطالب بإزالتها، فكيف إذا حوّل الطاقة النووية المدنية إلى قنبلة نووية؟
طُرحت حينها تساؤلات عمّا إذا كانت خطابات نجاد تلك نصوصاً إيديولوجية تنتمي إلى بدايات عهد الثورة الإسلامية ولا تتفق مع النمط البراغماتي في التصرف السياسي (الفرق بين خطاب الثورة وخطاب الدولة)، أم هي زلّات لسان وحماسة لا يفترض أن تصدرا عن رئيس دولة، أم هي عملية ممنهجة يتقصّد من ورائها نجاد تحقيق أهداف معينة؟ لاحقاً تبين أن جميع التوصيفات التي أُطلقت عبّرت عن قصور في مقاربة طريقة التفكير الإيرانية التي يعبّر عنها قادة طهران.
فالصراخ العالمي الذي هبّ في وجه نجاد والدعوات إلى مقاطعة إيران وطردها من الأمم المتحدة وفرض حظر على سفر الرئيس الإيراني بدت بمثابة ظاهرة صوتية يمكن أن ترعب دولاً أخرى غير إيران، التي أراد رئيسها أن يقول لمن يهمه الأمر إن الجمهورية الإسلامية وفي إطار ممارستها لسيادتها واستقلاليتها ليست معنية بأي محرّم أوروبي أو أميركي أو عالمي يفرضه اللوبي اليهودي في أي مكان، وإذا كان من أحد على وجه الأرض يريد أن يرتعب فهذا شأنه وليس لإيران علاقة به.
أما إذا كانت مثل هذه المواقف تضيّق الخناق على إيران في المداولات في شأن برنامجها النووي فإن الفريق المتابع لهذا الملف في طهران يعرف تماماً أن أي خطوة تصعيدية يمكن أن تتخذ من قبل الولايات المتحدة وحلفائها ضد إيران لا يقرّب منها أي كلام في شأن المحرقة وإسرائيل، بل على العكس تماماً، فإن إظهار إيران عدم اكتراثها وتمسّكها بخطابها أظهرا تصميم القيادة الإيرانية على عدم التراجع عن أي حق لها في أي مجال. وبالتالي فإن الحصيلة التي خرجت بها تصريحات الرئيس نجاد بيّنت ضعف الولايات المتحدة لا قوتها. وفي المقابل فإن كسر هذا «المحرم الدولي» حول المحرقة أحدث ردة فعل إيجابية في العالم الإسلامي لمصلحة القيادة الجديدة في طهران، وخصوصاً أنها جاءت في ذروة الغضب الإسلامي من الإساءة الأوروبية للرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) من خلال الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت في الصحافة الدنماركية واعتبرت تعبيراً عن «حرية الرأي»، فكانت معادلة صائبة في توقيتها ومضمونها تلك التي صاغها الرئيس نجاد.
الاختبار الثاني الذي خاضه نجاد وفق منهجية العمل نفسها هو احتجاز البحارة البريطانيين بسبب انتهاكهم المياه الإقليمية الإيرانية. لوهلة اعتقد من يصنّفون أنفسهم خبراء ومحلّلين استراتيجيين أن طهران تلعب بالنار وأنها تساعد على تقريب موعد الضربة العسكرية لها! وأنها ترتكب خطأ مميتاً في مثل هذا التوقيت الذي تتطاير فيها التحليلات من عواصم مختلفة باقتراب لحظة الحرب بسبب عدم اكتراث طهران لقرارات مجلس الأمن (1696 و1737 و1747) التي تدعوها إلى وقف أنشطتها في ما يتعلق بتخصيب اليورانيوم. أيضاً طرح سؤال مماثل: ماذا يريد الرئيس نجاد، وهل يدري ماذا يفعل؟
لفترة وجيزة لا تليق بتاريخ إمبراطورية لم تكن تغب عنها الشمس صعّدت بريطانيا من لهجتها فدعا رئيس وزرائها لممارسة ضغوط أقوى، وأعلنت وزيرة خارجيته تجميد علاقاتها مع طهران إلا في ما يخص السعي لإطلاق البحارة. كانت الردود الإيرانية تظهر مزيداً من الاستخفاف بهذا الكلام الذي سرعان ما خبا لمصلحة الحديث عن التفاوض. انتهت الأزمة بمؤتمر صحافي قلّد فيه الرئيس الإيراني بحّارته أوسمة لقيامهم بواجبهم في صيانة الحدود البحرية لإيران، وأعلن إطلاق البحارة هدية للشعب البريطاني في ذكرى ولادة الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، ووبّخ طوني بلير لأنه «غير قادر على تفهّم
الرحمة الإسلامية التي أبدتها إيران بالعفو عن أخطاء جنود البحرية البريطانية».
تهافتت التحليلات التي لم تجرؤ على مقاربة الأزمة في ذروتها بقدر من الموضوعية تقر بأن إيران تعرف ماذا تفعل، وأجمعت الآراء على أنها خرجت منتصرة.
وبمعزل عن التقديرات بأن الجمهورية الإسلامية حققت انتصاراً مزدوجاً، وأنها «كانت تختبر مدى تصميم بريطانيا على الرد على هذا العمل الاستفزازي، وحصلت على الرد وهو أن بريطانيا لن ترد بقوة» (جون بولتون)، وبمعزل عن إشادة كبريات الصحف البريطانية بنجاح الوسائل الدبلوماسية التقليدية في إطلاق سراح عناصر البحرية، التي «تُبيّن أن المناقشة أفضل بكثير من المواجهة» (الإندبندنت)، و«يمكن أن تكون مجدية في المستقبل لأنه لا بديل من التفاوض المباشر وخصوصاً مع نظام إسلامي ثوري في إيران» (الغارديان)، وأن «أفضل عبرة يمكن استخلاصها من هذه القضية... هي أن الولايات المتحدة وحلفاءها يمكنهم التصدي بالطريقة نفسها للطموحات النووية والإقليمية لإيران» (فايننشال تايمز)، فإن كل ما تقدم فيه قدر من الصواب، وقدر من الخطأ أيضاً. فإيران لم تطلق البحارة حصيلة مفاوضات جرت مع بريطانيا، بل في اللحظة التي جرى فيها الكلام على مفاوضات أُطلق سراحهم، لأن إيران في ما يبدو أرادت أن تلقّن من يهمه الأمر درساً في أصول التعاطي معها، ومن خلال إهانة دولة كبرى اسمها بريطانيا. وعلى رغم النفي الأميركي بأنه لا علاقة لأزمة البحارة بالإفراج عن الدبلوماسي الإيراني الذي كان مختطفاً في العراق، لا يصدق أحد أنها مجرد مصادفة أن يتم إطلاقه بالتزامن مع إطلاق البحارة، ومع سماح الأميركيين لدبلوماسي إيراني بزيارة خمسة إيرانيين معتقلين في العراق منذ كانون الثاني الماضي، بل إن الانطباع الذي كوّنته الأطراف المعنية أن إيران تلاعبت ببريطانيا من أجل الإفراج عن الدبلوماسي المخطوف والخمسة الآخرين، أي إن بريطانيا أصبحت مكسر عصا لدى طهران.
الاختبار الثالث وربما الأكثر أهمية، ذلك الذي حصل ويتعلق بجوهر الأزمة الراهنة. ففي وقت يطالب فيه المجتمع الدولي إيران بوقف تخصيب اليورانيوم، فإذا بالجمهورية الإسلامية تحتفل باليوم النووي الإيراني معلنة أنها أصبحت دولة نووية قادرة على تخصيب اليورانيوم على المستوى الصناعي، بل أفصحت عن خطتها لتركيب خمسين ألف جهاز طرد مركزي، في حين أن الاستنتاجات الأولية التي خرج بها الخبراء في مجال هذه الطاقة أن مجرد الوصول إلى التخصيب الصناعي عبر تركيب ثلاثة آلاف جهاز طرد فقط يتيح لإيران القدرة خلال ستة أشهر إلى عام حداً أقصى لإنتاج اليورانيوم الذي يستخدم في صناعة قنبلة نووية. على أن الأهم في ما تقدم هو مواكبة طهران لهذا الإنجاز العلمي التقني بتصعيد في خطابها السياسي حيث هددت بالانسحاب من معاهدة الحد من الانتشار النووي إذا ما تزايدت الضغوط الأميركية والأوروبية عليها، ورسمت سقفاً لا عودة عنه وهو رفض أي تفاوض على الحق في امتلاك دورة الوقود النووي الكاملة، والاستعداد فقط للتفاوض في مخاوف أولئك الذين يثيرون هواجس معينة.
خلاصة الأمر أن إيران فاجأت العالم مجدداً بقدرتها على التحدي من دون أن تبدي أي خوف ممن يحذر من عواقب مثل هذه الخطوة. أيضاً لأن طهران تعرف أن الاعتداء عليها إذا ما تقرر لن يكون له علاقة بالتخصيب الصناعي، بل ربما بلوغ هذه المرحلة قد يلجم الخيارات الحربية للولايات المتحدة ومن يدفع في هذا الاتجاه. ثم إن القيادة الإيرانية بهذا الإعلان تظهر كم أن الفريق الذي يقابلها يعاني عجزاً وإرباكاً في خياراته لدرجة أن كوندوليزا رايس تبدي استعدادها للقاء نظيرها الإيراني في المؤتمر الوزاري حول العراق شرط وقف التخصيب، فيما طهران تخصب صناعياً ولا تعلن حتى الآن موافقتها على المشاركة في هذا المؤتمر. ولهذا الإحساس الإيراني بالقوة ما يبرره. ففضلاً عن إمكانيات القوة الفعلية التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية، فإن رباعي الأزمة الأساسيين: جورج بوش وطوني بلير وجاك شيراك وإيهودا أولمرت يعانون أوضاعاً داخلية صعبة للغاية. اثنان منهم هما شيراك وبلير سيغادران السلطة في الشهرين المقبلين على التوالي، وأولمرت ينتظر نتائج التحقيق في هزيمة تموز في لبنان، وبوش مكبّل بقيود الديموقراطيين وبالمأزق العراقي، لتبدو القيادة الإيرانية الطرف الوحيد الأقوى على مستوى الوضع الداخلي، وهذا مؤشر إلى حسن التوقيت الذي تختاره الجمهورية الإسلامية في مواجهة خصومها والتلاعب بهم، من دون أن تسقط من حسابها الجهوزية الكاملة لأي مغامرة عسكرية ضدها في الوقت الضائع بين انتقال السلطة.
* صحافي لبناني