وجيه قانصو *
ليس التطرف وليد التفلّت الديني، فالمتطرفون متديّنون بعمق، وما نراه تطرفاً في ممارستهم، يرونه ويفهمونه فعلاً إيمانياً وانصياعاً لأمر الله. هذا يعني أن التطرف الديني ليس شيئاً يضاف إلى التدين، بل يستمد قوته وصلابته واندفاعه من سلوك ديني يرتكز على قواعد ومبادئ فهم خاصتين للدين.
وليس التطرف أيضاً نابعاً من مشكلة أخلاقية كما يظن البعض. فالمتطرف لا يقصد الشر لذاته، ولا يحمل دواعي إجرامية بمعنى رغبته في انتهاك المبادئ الأخلاقية. بل لو أخذنا بتعريف إيمانويل كانط للأخلاق بأنه السلوك الذي يمليه الواجب، يكون سلوك «المتطرف» من مصاديق هذه القاعدة، لأنه يفعل ما يمليه عليه الواجب، الذي هو في نظره الأمر الإلهي.
كذلك فإن التطرف ليس حالة التباس معرفي، كأن يقال بأن «المتطرف» جاهل أو مشتبه أو ملتبس، بل نراه على العكس من ذلك، يعرف ماذا يقول وماذا يريد. فما نراه بدعةً أو امتهاناً لكرامة الإنسان، هو بنظره مشروع إنساني ومن صميم تعاليم الدين، يهدف إلى تطهير البشرية من لوثات الشرك والعيش وفق إرادة الله. بهذا فإن الوضعية بين «المتطرف» وخصومه، ليست وضعية جهل ومعرفة أو وضعية خرافة وعقل، بل هي وضعية اتهام واتهام مضاد، ودليل عقلي ونقلي مقابل دليل عقلي ونقلي آخر.
المشكلة أنه لا توجد مرجعية مستقلة ذات قبول مشترك من الجميع قادرة على حسم النزاع والانتصار لأي من الطرفين. ولا يمكن اعتبار النص الديني فيصلاً في هذا المجال، إذ إن النص الديني واحة خصبة للتأويل والتأويل المعاكس، ولا تخلو أية حركة دينية في التاريخ، متطرفة كانت أو معتدلة، من مهارة في توظيف النصوص لمصلحتها.
من هنا يمكن القول إن توصيف سلوك معين بأنه تطرّف، يكون وفق منظومة قيم وقواعد تفكير معينة، وفي إطارين زماني ومكاني معينين، في حين يمكن اعتبار هذا السلوك مقبولاً وفق منظومة أخرى، وفي زمان ومكان آخرين أيضاً. بهذا لا يعتبر «التطرف» خرقاً لقيمة أخلاقية أو دينية أو عقلية، بل هو اختيار بين طريقة حياة وطريقة حياة أخرى، بين نمط قيم ونمط قيم آخر، بين ميزان من الترجيحات وميزان آخر.
وبالتالي يتحول السؤال عن التطرف، إلى السؤال عن المنظومة الدينية التي تولد منطِقَهُ وتنتج أحكامه ورؤاه وتطلق باعثيته وتضمن فعاليته واستمراره.
في رأيي المسألة تعود إلى معنى علاقة الإنسان بالمتعالي وطبيعتها، التي تنعكس بدورها على علاقة الإنسان بالإنسان وعلى رؤيته للوجود والعالم. بعبارة أخرى، لسنا أمام دين مقابل دين، إذ التطرف قابل للانبثاق والتفجّر داخل أية منظومة قداسة مهما تسامت قيمها وتوافرت نصوص التسامح في داخلها، بل أمام آليات إنتاج للمعنى الديني مقابل آليات أخرى، وأمام تفاوت بين نظام قيم أولية مقابل نظام قيم آخر، أي نحن أمام منظومتي إيمان متناقضتين داخل كل دين وملّة ومذهب.
منظومة الإيمان الأولى، ولنسمّها إيمان الحقائق النهائية (Ultimate Truth)، تقوم على التماهي مع الحقيقة المُنجزة داخل تقليد ديني خاص، أي التكيّف مع وضع ديني منجز اكتملت فيه كل تمظهرات الحقيقة والحق. أما منظومة الإيمان الثانية، ولنسمّها إيمان الحقيقة الكادحة، فتقوم على البحث الدائم عن الحقيقة وعدم الرضا بنهائية أي معنى أو كشف، بل هنالك دائماً مجالات خصبة جديدة قابلة أن توفر شرطاً إنسانياً أرقى وحياة روحية أسمى. يتميز إيمان الحقائق النهائية، بأنه يقوم على ادعاء جملة حقائق مؤكدة ومثبتة بنحو جازم، إيمان النهايات القصوى، ودين الحقائق المكتملة التي لم يعد وراءها أو فوقها أية حقيقة أو معنى. هذا الإيمان يسلب عن المرء إرادة الاختيار بين المعاني أو حق إنتاج حقيقته، بل ينحصر خياره بقبول الحقائق والتسليم بها.
إيمان الحقائق النهائية أيضاً، يحدّ من التفكير، حيث لا تعود هنالك معاني مجهولة أو مناطق وعي مختبئة، بل كل شيء معلوم. ولا تعود المعرفة اكتشاف وابتكار وإبداع، بل فعل دفاع وتهيئة مقدمات مُقنِعة لنتائج محسومة سلفاً.
إيمان الحقائق النهائية، يخلق فيك شعوراً بالاستحواذ أو الاصطفاء، أي إن الحقيقة صادف وجودها حصراً ــ ولحكمة لا نعلمها ــ بين عائلتك وعشيرتك وملّتك. وخارج هذا المكان هنالك الخواء والفراغ، بحيث لا يتعدى وجود الآخر وجوده الفيزيائي أو المكاني، أي وجود شيء، لا وجود مجال إنساني وروحي آخر وذاكرة تجارب غنية، ليس فقط في العلاقة الأرضية، بل في العلاقة مع الله.
باختصار، إيمان الحقائق النهائية، يلغي ذاتك لأنه يلغي حريتك في الاختيار وفي التعبير وفي تحديد مجال وجودك، وهو أيضاً يلغي الآخر ويلغي حقيقته. فيصبح هذا النوع من الإيمان منبعاً للتطرف الذي يتمكن من النمو والتكاثر بصمت داخل منظومة كهذه، ويبقى متربّصاً الشرط الاجتماعي والسياسي ليطلق شرارة انفجاره ويحرّك توتره العالي. مع هذا النوع من الإيمان، الذي هو نمط التديّن السائد حالياً في بيئتنا الدينية، يصبح كل واحد منا ومن دون استثناء مشروع «متطرف».
أما إيمان الحقيقة الكادحة، فلا تعود فيه الحقيقة الخاصة داخل أي دين أو مذهب، مركزاً أو محوراً للحقائق والقيم الكونية، بل هي أحد تجلّيات الحقيقة ومظهر من مظاهرها اللامتناهية، كما هي حال بقية الحقائق والقيم الروحية الحاضرة في الأديان والمذاهب الأخرى. إنه انتقال من التمحور حول الحقيقة الذاتية الخاصة، إلى التمحور حول الحقيقة الأوسع التي تكاد تتوزع على جميع التقاليد الدينية بالتساوي. بذلك تصبح الحقيقة فعل مشاركة مع الآخرين في هذا العالم، حيث حقيقتي وحريتي تتوقف على حقيقتهم وحريتهم، ويكون اكتشافي لحقيقة الغير هو اكتشاف لحقيقتي أيضاً.
بذلك، لا يعود الإيمان شيئاً يُتلقّى من الخارج، بل هو ميدان تجربة الوعي والباطن مع المتعالي. ويصير الإيمان عملية إنتاج وابتكار وفعل كشف، وجزءاً من السعي لتحقيق إمكانات وجود الذات في هذا العالم، بحيث يتولد من كل تجربة خاصة، صورة إيمان فريدة لا تقبل التكرار في الآخرين. فلا تعود العلاقة مع الله، حقيقة جاهزة نتربّى عليها، بل حقيقة نسعى ونكدح دائماً للوصول إليها، ولا تعود معرفة الله فعل خضوع لكلمة «إعلم» أو «ينبغي»، بل يُعرف بالاختبار الذاتي والتحسس والتنوير الباطني. بذلك يخرج الإيمان من منطقة الأمان الراكدة، إلى منطقة الخطر الدائم، والأثمان الغالية، «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين» (البقرة، 155)، و«أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون» (العنكبوت، 2)، و«بع كل ما عندك واتبعني» (مرقس، 10: 21)، و«من حفظ نفسه خسرها ومن خسر نفسه في سبيلي حفظها» (متى، 10: 39).
حس المشاركة مع الآخرين يلغي في داخلنا النزعة الطهرية، ويزيل التفكير بقسمة العالم إلى دار إيمان ودار كفر، لأن مدار الحقيقة الإيمانية ليس خارج الإنسان بل داخله وفي باطنه، فلا يتموضع الإيمان في معسكر مقابل معسكر آخر، أو في مجال قوة وسيطرة، بل تصبح معركته هي معركة الذات مع نفسها، بين نوازع تتمحور حول الأنانية والذاتية وبين نوازع تتمحور حول الحق والخير والحب، حول الله: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» (الرعد، 11)، و«ليس النجس ما يدخل إلى جوف الإنسان بل النجس ما يخرج منه» (مرقس، 7: 20).
من هنا لا يمكن محاربة التطرف بأدواته، لأنه بذلك يجرّنا إلى اللعب في ملعبه. بل يكون بخلق مجال إيماني جديد، يجعل من الواقع الباطني المتنوّر مدخلاً لفهم العالم وتغييره، أي ليست المعركة مع «المتطرف» هي معركة إما أنا وإما هو، بمعنى معركة إلغاء، فهذه مواجهة تجرني إلى دائرته لأصبح مثله، بل معركتي الإيمانية، هي نقل الصراع من مجال السلطة والقهر والإكراه والحشود العسكرية، إلى المنطقة الباطنية للإنسان، التي تُنَصِّبُ الإنسان مطلق الإنسان، مدخلاً لمعرفة الله وللوصول إليه: «أفضلكم عند الله أنفعكم لعياله» (حديث شريف)، و«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (حديث شريف). و«إن السبت جعل للإنسان لا الإنسان للسبت» (مرقس، 2: 27)، «امض أولاً فصالح أخاك وحينئذ ائت وقرب قربانك» (متى، 5: 24).
* باحث واساذ جامعي