عزمي بشارة *
يصعب تفسير شدة حملة التحريض الأخيرة على المواطنين العرب في الداخل، وعلى تيارهم الوطني بشكل خاص، بفتح التحقيق ضد نائب عربي في البرلمان بتهم أمنية. ولا شك في أن المؤسسة الصهيونية بيسارها ويمينها تصفّي حساباً طويلاً مع أفكار طرحت ووصلت أخيراً حد التفتّح بألف لون وزهرة، وشكلت اقتراح مشروع فعلي للجماهير العربية. ولا يوجد مشروع يمكن تسميته مشروعاً شاملاًَ للجماهير العربية تتميز به سوى: أولاً، ان الدولة لكي تكون ديموقراطية ولكي تتحقق فيها المساواة يجب ان تكون لجميع مواطنيها، وهذا يعني ان المساواة والديموقراطية إذا طرحت بشكل مثابر وصحيح لا يصح ان تكون اندماجية في الصهيونية أو على هوامشها، بل مناقضة ومنافية لها. وثانياً، انه في هذه البلاد تعيش قوميتان واحدة منهما هي قومية الأصلانيين، وأن العرب الذين بقوا هم جزء من القومية الأصلانية. لا يوجد مشروع آخر. وهم يعلمون بأن هذا المشروع لم يعد حزبياً بل أصبح إرث كل شاب وفتاة عربية يرفضان التخلي عن عروبتهم وعن المساواة الكاملة، ويرفضون نظام الوصاية الاستعماري الطابع.
ويصادف المواطن العربي عشرات الأنواع من الوصاية لا يكاد يدركها لكثرتها، نذكر منها ثلاثة فقط:
1 ــ وصاية على الحقوق: يعتبر كل حق للعرب في هذه البلاد منحة ومنّة من الدولة اليهودية توجب التسبيح بحمدها والتهليل للفرق في مستوى المعيشة والحقوق السياسية بين المواطنين العرب داخل الخط الأخضر وفي قطاع غزة مثلاً، أو توجب التعبير عن امتنانهم لضمان حق الكلام وحرية الرأي قياساً بالدول العربية، وتمتّعهم بديموقراطية إسرائيل في مقابل فقدانها في العالم العربي.
والحقيقة أن هذه الوصاية قد انطلت على بعضنا في الداخل ممن تذوّقوا فكرة الفخر بإسرائيلية غير قائمة إلا في خيالهم. أما المشاهد العربي المستسلم لمصيره، أو المعتدل على الأقل، فيرى عرباً في الداخل يعبّرون عن رأيهم بحرية في التلفزيون فيحسدهم على هذه النعمة، ويرى رئيساً إسرائيلياً يحاكم فيحسدنا على هذه النعمة.
ولا شك في أن هذا الموقف يتضمن محواً للتاريخ بمعنى التعامل مع إسرائيل كدولة كانت دائماً هنا، وهاجرت إليها أقلية عربية باحثة عن حياة أفضل. وهذا يعني ان هذه الأقلية يجب ان تكون موالية لإسرائيل، وطنها الجديد الذي هاجرت إليه، مقارنة مع الحياة في بلدان الأصل. يسقط هنا طبعاً الوعي التاريخي بأن هذه الديموقراطية هي ديموقراطية قامت على خرائب شعب، وهي تعيد إنتاج ذاتها كديموقراطية داخل حدود جماعة وهوية استيطانية، وأنه يتم التسامح مع العرب في إطار هذه الحدود فقط. وعند أي تحدٍّ لهذه الحدود تسقط الديموقراطية الإسرائيلية في الامتحان، إن كان ذلك بإطلاق النار على متظاهرين عرب أو بنزع حصانة نائب ومحاكمته، وأخيراً في الجوقة الإعلامية المنسقة التي تخرج دفــــــــــعة واحدة مثل قبيلة بدائية تقرع طبول الحرب.
لماذا نتحدى هذه الحدود ونحاول توسيعها باستمرار؟ لم لا نقنع بالعيش في مستوى الحياة الإسرائيلية ضمن هذه الحدود، وكمواطنين من الدرجة الثانية فهذا على كل حال أكثر من خبزنا كفاف يومنا. والحقيقة أنه في هذه الأثناء تتحول القرى والمدن العربية الى جيتوات وأحياء فقر، ونظام التأمينات الاجتماعية الإسرائيلي يحمي الفقراء من الجوع ولكنه يكرّس فقرهم، ومن ناحية أخرى وخلافاً لآفاق التطور العربي فإن الأفق في إسرائيل مسدود تماماً أمام المثقفين العرب والطبقات الوسطى العربية والبورجوازية وغيرها. لا مجال للتطور في الحدود التي تضعها إسرائيل. ويجب توسيعها باستمرار. وحتى من دون ذاكرة تاريخية ليس صحيحاً ما يقوله بعض المعتدلين العرب الذين يلوموننا على أننا لا نكتفي بدور قوة احتياط لمعسكر السلام الإسرائيلي، وأن على العرب في إسرائيل أن يشكروا ويسبّحوا بحمد الواقع الإسرائيلي وأن يفرحوا به. إنهم يبررون اعترافهم ليس فقط بإسرائيل بل أيضاً بطابعها الصهيوني، ويــــــبررون أيضاً التنازل عن حق العودة لكي تحافظ على هذا الطابــــــــع، ومن وجهة نظرهم يجب أن يقتصر دور عرب الداخل على تأييد هذا المسعى. ولذلك يرى بعض العرب أن «العربي الجيد» في نظر المؤسسة الصهيونية هو العربي الجـــــــــــيد فعلاً، أي المريح لهم أيضاً في هذه المرحلة.
2 ــ وصاية على علاقة العرب مع هويتهم العربية: لا تكتفي إسرائيل بوجود عملاء أو أصحاب مصالح مرتبطين مباشرة بها وبسياستها، بل تحاول أن تفرض حدوداً بين المواطن العربي وبين بقية العرب بحيث لا يصح له التضامن مع أعدائها، وكأن أعداءها هم أعداؤه، وقد يكون العدو في مرحلة هو الشعب الفلسطيني أو السلطة أو لبنان أو سوريا أو المملكة العربية السعودية الخ. يرفض الوعي التاريخي ان تجعل إسرائيل من المنطقة العربية عدواً لعرب الداخل. ولكن حتى من دون وعي تاريخي يُسأل السؤال: كيف يمكن الوقوف مع المعتدي وعدم التعاطف مع ضحية العدوان؟ طبعاً تفضل إسرائيل ان يشكل مواطنوها العرب جسر سلام مع العرب، ولكنه يجب أن يكون جسر سلام لإسرائيل لا للعرب. في هذه الحالة تصبح العلاقة مع العرب محمودة لأنها تسخّر كأداة تطبيع في خدمة إسرائيل. أما العلاقة الطبيعية الراغبة في التواصل مع المجتمعات والدول العربية من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية فهي مرفوضة ويتم التحريض عليها لأنها تشبّ عن الوصاية الدخيلة.
لقد حرّضت إسرائيل ضد أي محاولة عربية محلية جدية لنسج علاقات مع العرب خارج نظام الوصاية. وكان دائماًَ عملاء ومخبرو إسرائيل العرب من سياسيين وغير سياسيين، على رأس حملات التحريض على هذا النوع من العلاقات مع العرب الذي لا يدخل ضمن نظام الوصاية. ولكن السلطة لم تسامح فمنعت وحرمت وسنّت القوانين لكي تمنع تواصلنا. وقد بلغت الوصاية بها أنها باتت تترجم كل علاقة مع العرب تخرج عن إطار الوصاية إلى علاقة أمنية. وهذا، كما يبدو، سهم أخير في الجعبة التي استنزفت الأدوات الدستورية. هذه الرمية الأخيرة والخطيرة التي تتكشف فيها الأنياب يجب ألا تخيف الوطنيين، إذ من الصعب استخدامها بكثافة، ومن الواضح أنها تستخدم حالياً في حالة فردية يعتبرونها حالياً خطيرة سياسياً بشكل خاص، وأفضل طريقة لإحباطها هي ألا يسمح لها أن تؤثر في الموقف. فتعليم الناس درساً بشخص لا يعني أن يتصرف كل الناس بموجب ذلك، وإلا يكونوا قد نجحوا في تلقين الناس درساً فعلاً.
3 ــ الوصاية الأخلاقية: وهي أخطر أنواع الوصاية لأنها تفرض تفوقاً أخلاقياً للصهيونية و«اليشوف» على العرب، الذين لا ينتظرون فقط الرضى من اليسار الصهيوني ومنحهم علامة «العربي المعتدل» أو «الجيد» أو «المتطور» أو «العقلاني» «الذي لا يبدو حتى عربياً»، بل يخشون أشد الخشية ويصابون بالهلع من الهجوم الكاسح إذا تم على شكل جوقة تحريض صهيونية. إن أخطر ما يمكن أن يحصل للمستعمَر هو أن يجمع بالطبل ويجزر بالعصا من قبل المستعمِر، أو أن يضيع عقلة من تربيت الإعلام الإسرائيلي على كتفه، أو أن يفقد شجاعته من التحريض عليه وإدانته كما فعل المستعمرون في الماضي ضد كل من لم يعجبهم من قيادات المستعمَرين في العالم الثالث كله.
ليست إسرائيل ديكتاتورية، بل هي ديموقراطية يهودية، وكيان استعماري في كل ما يتعلق بسلوكها مع العرب، بما في ذلك مواطنوها الذين وُجدوا على الأرض بعدما انتهت حرب عام 1948، أي ما بقي من الأغلبية العربية في هذه البلاد.
يستمد هؤلاء حقهم في الوجود على الأرض من وجودهم الفعلي عليها جيلاً بعد جيل. وبهذا المعنى، مضافاً إليه البعد الثقافي والديني والقومي وغيره، هذا هو وطنهم. والمقصود أن وطنهم ليس إسرائيل، بل البلد الذي قامت على أنقاضه دولة إسرائيل. ولذلك وطنيتهم ليست وطنية إسرائيلية بل فلسطينية.
ولكن التناقض يكمن في أن حق الوجود على الأرض بموجب قانون المحتل يستمد من كونهم مواطنين في الدولة التي احتلت أرضهم لا كأبناء الوطن الذي احتُلّ. هكذا تقلب السياقات التاريخية رأساً على عقب. ويصبح المواطن في حاجة إلى أن يثبت بالأوراق الإسرائيلية حقه في الوجود في هذه البلاد. من شهادة الولادة وحتى بطاقة الهوية والجواز، وأن يحمل بعضها في جيبه دائماً خشية المباغتة البوليسية، ولتمييزه من سكان المناطق المحتلة عام 1967 الذين يمنع وجودهم في هذا الجزء من الوطن من دون تصريح.
من دون جنسية إسرائيلية أو «بطاقة هوية» إسرائيلية يسمح للعربي في أفضل الحالات أن يبقى سائحاً مدة ثلاثة أشهر في وطنه، وذلك في حال حصوله على تأشيرة دخول. وهي تأشيرة يسعى للحصول عليها الكثير من فلسطينيي الضفة والقطاع الموجودين في الخارج، وقسم منهم يُعاد من المطار حتى بعد حصوله عليها، فحتى الجواز الأجنبي لا يسعفه أن يتحول إلى سائح «عادي» في بلده على الأقل.
لقد تحولت المواطنة في كيان استعماري إلى أداة تهجير، إلا إذا أدّى الفلسطيني اللعبة على ملعب هذا الكيان وبموجب قوانينه لتنجح أقلية فقط في البقاء على الأرض كما يسمح التوازن الديموغرافي، والمحاكم الإسرائيلية، وكذلك القانون. عليك أن تثبت له ولذاتك أنك «إسرائيلي»، أي أن تتشوّه، وذلك لكي تبقى في فلسطين. أما أن تعود إلى فلسطين، فهذا غير وارد طبعاً. وهذا يفترض أن تقاومه الحركة الوطنية، فالوجود العربي الفلسطيني على الأرض وحقوقنا لا تشتق من هذه «الإسرائيلية». كل هذا يهون مقابل مشاعر الرضى والاكتفاء التي ترتسم على وجوههم عندما يشعرون بأن هويتهم أو جوازهم أو إقامتهم مرغوبة من قبل العربي. إنها عملية تضليل وخداع فريدة ونادرة لا مثيل لها في التاريخ الحديث: احتلوا البلد وطردوا السكان ثم مُنع مَن بقي من الإقامة في البلد من دون بطاقة هوية إسرائيلية أو من دون جنسية، ثم يتظاهرون بالدهشة من جاذبية الجنسية الإسرائيلية للناس ورغبتهم في إقامة دائمة في إسرائيل، ويتظاهر بعض الإسرائيليين بأنهم يفهمون من هذا كله أن حياة العرب فيها رائعة إلى درجة التشبّث بها. وكأن هذا هو الدافع. ولا شك في أن قسماً من الناس نسي فعلاً هذا السياق الاستعماري المقلوب للتمسك ببطاقة الهوية أو جواز السفر، وراح يفتخر به.
لسان حال التفكير اليميني الجديد في إسرائيل يقول: انسَ حقّك في هذه البلاد كفلسطيني، وحقك أصلاً ليس إيديولوجياً ناجماً من كون الدولة قامت من أجلك، كما في حالة المواطن اليهودي، فالمواطنة الإسرائيلية لا ترتبط بشخصك كيهودي، ولا تلازمك كصفة من صفاتك، إنما منحت لك هبة لكونك إسرائيلياً بـ«صدفة» أو «مفارقة» وجودك هنا عند «قيام الدولة»، أي إن علاقتك بالدولة هي الأساس. وهي علاقة قائمة على الولاء. هذا ما يحاولون فرضه الآن. وهذا ما يجب تفويته عليهم.