نسيم ضاهر *
تجري في 22 نيسان الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. النتائج النهائية ومعرفة الفائز أي الرئيس الفرنسي القادم، رهن بالدورة الثانية، على مسافة أسبوعين من الأولى، إذ لا يتوقع حصول أي من المرشّحين على غالبية الأصوات المطلقة المطلوبة لحسم المنافسة منذ الاقتراع الأول.
يخوض دورة التصفية هذه اثنا عشر مرشحاً، يستبعد وصول ثمانية منهم بالتأكيد الى المرحلة الثانية. المباراة محصورة عملياً بين أربعة مرشحين لتبوّؤ المراكز الأولى، وفي طليعتهم نيقولا ساركوزي مرشح الأكثرية ووريث الحزب الديغولي، يليه أحد ثلاثة، رويال الاشتراكية صاحبة الحظ الأوفر في تخطي الدور الأول والحلول ثانية من حيث عدد الأصوات، وفرنسوا بايرو مرشح الوسط وزميل الأكثرية سابقاً، وجان ماري لوبين رئيس الجبهة الوطنية في أقصى اليمين، والمشارك تكراراً لدورات عدة. بالتتابع يتأهل المرشحون الى الدور الثاني، فيما يبدأ عقد التحالفات عملية تجيير أصوات المنسحبين إثر إعلان النتائج مساء الأحد 22/4.
إنّ أولى الملاحظات هي إجماع استطلاعات الرأي لتاريخه على إجلاس المرشحة الاشتراكية في مرتبة وسطية يحيط بها اليمين والوسط بما يعادل ضعفي عدد الأصوات العائدة لها. وعلى رغم بعثرة أصوات اليسار على مرشحين ثانويين لا أمل لهم بالانتقال الى المرحلة الثانية، فمن الصارخ أن رصيده العام من ناتج الاقتراع الشعبي لن يتعدى أربعين في المئة من مجموع الفرنسيين، وبالتالي فإن رويال، في حال تخطّيها عقبة المرحلة الأولى، لن يكتب لها نجاح بمفردها، وسيتوقف فوزها الافتراضي على حرمان ساركوزي من كل كتلة أصوات اليمين، سواء ببقاء مرشح ثالث أو بمخالفة عريضة لمنطق التجيير وطعن ساركوزي على سبيل الانتقام.
تآكلت أصوات اليسار منذ مجيء الرئيس الراحل ميتران الى السلطة عام 1981. بادئاً فقد الحزب الشيوعي مواقعه ومعاقله العمالية، وحافظ أقصى اليسار على تشظّيه ونزاعات كنائسه. ثم ساد اعتقاد بأن تقدّم الخضر سوف يعيد تصويب المعادلة، إلى أن بيّنت الاستحقاقات المتتالية ضمور حصة الحزب البيئي الغارق في التنافس بين رموزه وقادته. في المقابل، فاجأ لوبين جميع التوقعات بتجاوزه المرشح الاشتراكي عام 2002 ومنافسته الرئيس شيراك (غير المتكافئة) في الدورة النهائية. لذا تختصر اللوحة السياسية سنوات من المتغيرات، ليست بتلك الحِدَّة في التكاوين العامة، حيث لم يسجل اليسار الموحَّد مطلقاً أي أرجحية شعبية واقعية لوحده، ولم يتمكن من محو الطابع العام المُحافظ للناخب الفرنسي.
تقترب فرنسا رويداً من النظام الأنكلوساكسوني وتستعير بعض ملامحه السياسية. برامج المرشحين الكبار تتوجه للمواطن العادي بلغة وسطية. وتتضمن جملة مقترحات تختلف في تفاصيل وصياغات. ليس هناك من خيارات تبدِّل عميقاً وتتناقض جذرياً حسب المرشحين. والكل يصغي لاستطلاعات الرأي بغية صياغة الموقف وتصويب الوعود، ويخضع لمشيئة صُنَّاع الصورة والمستشارين الاختصاصيين في علم نفس الجماعة الواقفين على نبض الفئات الاجتماعية وعلى ترتيب أولوية احتياجاتها. يظنّ المتابع (العربي بخاصة) أن السياسة الخارجية شأن مفصلي في معركة الرئاسة الفرنسية، ويكيّف قراءته هذه تبعاً لانتظاراته. يخشى أن تأتي سلّته فارغة وأن يُصاب بخيبة أمل نتيجة بهتان المعطى الخارجي والتزام المرشحين الحاضنة الأوروبية وبوابتها، إضافة الى الحِلف الأطلسي. صحيح ان الحملة الانتخابية تعكس المشاكسة التقليدية الفرنسية حيال الولايات المتحدة وتتناولها بالرمي، إلا أنها تحرص على إبقاء سهامها غير مسموحة، وفقاعاتها إعلامية، ولا تنتقص من انتماء فرنسا الغربي في الجيوسياسة والفضاء الحضاري والمشترك الديموقراطي.
دليل الانتخابات محرّكه أمني/اجتماعي بامتياز، يتبارى المرشحون في الإضاءة على جوانب المسألتين والعناية بجدول كل منهما انطلاقاً من نزعة أصلية تفترض وفرة من المنسوب الأمني لدى اليمين، والاجتماعي بين اليسار. وعليه، دخل الفريقان في لعبة الكراسي المتحركة، يتسابقان على إبراز إلمامهم بمتطلبات الأمن وتماسهم مع المطالب الاجتماعية، يجول الواحد عمداً في حقل الآخر بحيث لا يمكن تصنيف ما تمخَّضَ عنه السفر في باب المفاجآت، بل يندرج في إطار الوسائل الآيلة الى معالجة مواضيع تؤرّق معظم المجتمع الفرنسي. الاختلاف طفيف لا يتعدى التوليف والقشرة الخارجية والشحنة الدرامية أحياناً لأن القضايا الكبرى غائبة عن سجال حافل باللكمات والمآخذ على الشخصية والثقة بقدرات هذا المرشح أو ذاك على قيادة البلاد ومزاياه.
مع ذلك، ثمة طابع خاص للانتخابات الفرنسية، مردّه كثرة المرشحين للدورة الأولى. جلّ مرشحي ما يُسمَّى الصف الثاني أي أولئك الذين لا أمل لهم في تخطّي عتبة الفرز، من اليسار غير البرلماني، باستثناء ماري جورج بوفيه الأمين العام للحزب الشيوعي التي اختارت راية شعبوية عوض الحزبية لتسجيل رقم أرفع من الأصوات، المستبعد حصوله بإجماع الاستطلاعات. فعلى مرّ الاستحقاقات الرئاسية، يتوكد إدمان يساري على الترشح بصفوف متفرقة، ما يحرم المؤسسة السياسية الفرنسية من الثنائية على النمط الأنكلو ــ ساكسوني (أو الثلاثيَّة الظرفية)، ويحتمي بخاصيتها. غير أن النتائج قلما تشفع بالتعددية المتوازنة، وتبين تكلّس اليسار غير الاشتراكي ومراوحته مجتمعاً ما دون الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، وانكفاء أطرافه إلى هوامش الجسم الانتخابي.
قفزت مسألة الضواحي وجماعاتها المهملة الى واجهة الأحداث، وأحدثت جلبة واسعة وصدمة جرّاء اكتشاف الرأي العام عمق الأزمة المستشرية على مقربة من المدن الرئيسية، وعلى مسافة من الجمهورية التائهة والمجهولة قيمها لدى أبناء المهاجرين. يعمل أكثر من مرشح على استثمار هذه الظاهرة والإفادة من المظالم اللاحقة بساكني الضواحي، بشكل ممالئ ومساير، يحمِّل المجتمع الفرنسي كل المسؤولية يُنزِّه تصرّف الفتيان المُشاغبين من كل شائبة. وحيث إن كسب أصوات هذه الشريحة غاية في ذاته من طبائع زمن الانتخابات، اختصّ به الحزب الاشتراكي حقبة، ويكثر فيه التعاطف والوعود، فمن المرجّح أن الرهان على هذه الرافعة محفوف بمخاطر ردود فعل «كيانية»، وبإثارة حمية الناخبين الغاضبين على عدم الاندماج. وبلغة الأرقام، يصعب البناء على تصويت الأطراف، والتعويل على عناصر الهوامش، مهما كانت الحماسة لترميم الوضع والقضاء على عيوب النسيج الاجتماعي، لأن الإيغال في جلد الذات دونهُ موجة ارتدادية محافظة تتجاوز محصول الحصاد المغاربي والأفريقي. بذلك يصطدم مسعى الاتكال على الاعتراض الصاخب وما يستولدُه من مقولات تتكىء على التعددية الثقافية وضرورة الإقرار بالهويات الناشئة من رحم الهجرة، بنازع المواطن العادي الباحث عن الطمأنينة في رحاب مجتمع متصالح مع ذاته، فخور بموروثه. وفي إطار المصاعب الناجمة من البطالة وانتقال المزيد في المنشآت الصناعية الى ما وراء الحدود، يسود الاعتقاد بأن الجزر الأمنية مصدر قلق واضطراب لا شفاء من مضارها بالتروّي والاستيعاب واستخدام القفازات وحسب، بل بإحكام القبضة الأمنية وطلاق سياسة المراوغة والحقن بالمسكّنات.
لو توخَّى المرء الإنصاف، لوجد أن موضوع الاتحاد الأوروبي، أو بالأحرى وحدة أوروبا، يحتل مركزاً مرموقاً في الوجدان الفرنسي العام باعتباره من المحددات المستقبلية في رأس قائمة الأولويات. بيْدَ أن الانقسام حيال الدستور الاتحادي المقترح، المتبوع برفض آلَ إليه الاستفتاء، أفضى إلى اكتفاء غالب المرشحين بفعل إيمان مطهِّر، جانب البحث المعمّق وحاذر المساءلة. إنّ هذا الهروب المتعمّّد من تداعيات مسألة جوهرية، يظهر معضلة فرنسا إزاء مفهوم السيادية وانشطار الضمير الجمعي بين حفاظ على الاستثناء الفرنسي وصيغه ومثله الوطنية، ومواءمة المسيرة الأوروبية وبعدها فوق ــ الوطني والتنميط الذي تستدعيه في الحياة العامة، ناهيك عن علاقة الزوجي الأوروبي/الأميركي والتقيد بمستلزمات الحلف الأطلسي أو الجسر المرمي فوق المحيط. فليس التقارب الأوروبي مجرد نصوص قانونية ناظمة، لكنه أيضاً مشاركة في بناء مجتمعي اسمه البيت الأوروبي، وفهم متبادل بين شعوب ظلت متباعدة (ومتحاربة) لأمد طويل. بديهي أن يدفع التثاقف وإرادة العيش في ظل مناخات تشريعية متشابهة، إلى تنازلات وتخلٍّ طوعي عن خصائص وطنية بغية المزيد من التجانس مع الجار والشقيق. وبالتالي تغدو الانتخابات الفرنسية حلقة في سلسلة أوروبية تتفاعل مع المزاج العام، وبمثابة لون محلي لمكوّن من كل مختلف في المظهر، جامع في الغايات. لذلك سوف تخرج فرنسا من الانتخابات برئيس جديد له صلاحياته وحصته المعروفة في صناعة قرار حدوده الالتزام الأوروبي والتكيّف حكمياً مع المشترك الأوسع أي عملياً استلهام الخيارات واتخاذ القرارات الاقتصادية الأساسية (ومواكبة التحولات) وفق نموذج وخطوط تتعدى حدود فرنسا، وبعضاً من مصالحها الإفرادية ومشيئتها الذاتية الصرفة.
على خلفيّة هذه اللوحة دُعيَ الشعب الفرنسي الى قول كلمته والاختيار بين مرشحين، يخاطبه أصحاب الحظوظ منهم بلهجات متفرقة من لغة واحدة، ويخطبون ودّه على قاعدة الوصفات والتماهي مع مطالب جمهوره، حاملين كاتالوغات ودفاتر شروط لا ترقى الى مصاف المشاريع الجذرية والبرامج التغييرية الحاسمة. المفاجآت ضئيلة في دولة ديموقراطية كفرنسا، تعرف فيها سلفاً الأوزان والأحجام السياسية، وتعرف النتائج التقريبية بالخطوط العريضة: رباعي يتقدمه ساركوزي، تليه سيغولين رويال (حسابياً) ومن ثم لوبين وبايرو بالترتيب تبعاً لاتجاه الناخبين في اللحظات الأخيرة نحو التصويت النافع، واحتمال استعادة قسم من الأصوات المرصودة لمرشح الوسط بايرو. وعلى رغم أن الاستطلاعات غالباً ما تعطي لوبين نسبة أقل من حاصل نتائجه، من المستبعد ان يحل ثانياً هذه المرة، ويكرر مفاجأة عام 2002 أمام الاشتراكي ليونيل جوسبان.
أما في دورة الإعادة، حيث النتائج الحاسمة، فتشير الدلائل على الورق ــ كما يحلو القول للفرنسييـن ــ ان ساركوزي الأوفر حظاً لرجحان كفة اليمين بلا جدال وانحسار شعبية اليسار بعامة، على أن تؤخذ المتغيرات بمقدار طفيف نسبياً، في ضوء ثبات ميزان القوى في بلد بالغ راشد، ربما شهادة للديموقراطية، ولكن أيضاً ضريبة لعورة الجمود والشيوخ. لكن الدخيل على المعادلة المتحول فيصلاً بالفعل يكمن، عقب الدورة الأولى، في استمرار بايرو أو لوبين، وشرذمة الأصوات في معركة مثلثة، قد تحرم بصعوبة ساركوزي من الفوز، وتأتي برئيس لفرنسا حـــــــــــائزاً على أقلية أصوات، نتيجة الحلف الموضوعي للأضداد.
يُراقب العالم الانتخابات الفرنسية عن كثب، لأن باريس (مع برلين) نواة الاتحاد الأوروبي، وعاصمة أسرة فرنكوفونية عريضة، الى كونها لاعباً دولياً بامتياز. وبعاملي التاريخ والجوار، يقف العرب في طليعة المعنيّين بمصائرها، والمغاربة منهم بخاصة، جاليات ومقيمين. وكيفما جرى تقويم السياسات الفرنسية حالياً، وعلى رغم سخط البعض على انحيازها، من الخطأ الفادح إعمال الكيدية حيال العائلة الديغولية والتعويل على غياب الرئيس شيراك لتصحيح المعادلة القائمة في العلاقات العربية ــ الفرنسية. ومهما تكن المآخذ والهندسات النظرية، ثمة حاجة إلى التذكير بأن الحركة الديغولية، واليسار غير الاشتراكي، على تباعدهما، هما ركيزة الصداقة مع العالم العربي، ودعامة التعاطي المقبول معه من جانب فرنسي مُشبع بالتاريخ الملتبس، ومُثقل بهموم وجودية لا يمكن تجاهلها، وبروابط تقليدية مع إسرائيل لا يمكن التغاضي عنها أو الرضوخ لأشد مُحبِّذيها في مدار الحزب الاشتراكي ومضارب الوسط. من هذا المنظور، يتبدَّى عقم الأخذ بنظرية اللوبيات الغريبة عن صناعة السياسة في فرنسا، واستحضار العوامل الظرفية والشخصانية مدخلاً للمُناضلة. اللمسة الشخصية تتبدل بتبدل الرؤساء، وحياكة السياسة الداخلية تخضع للمزاج الحزبي، ولكن التوجّهات في الحقل الخارجي قائمة على الاستمرارية ومرسومة بالخط العريض.
* كاتب لبناني