غسان العزي *
تفيد استطلاعات الرأي في كل الدول الكبرى أن السياسة الخارجية تقبع في آخر سلّم أولويات المواطنين. فالشعب الإنكليزي الذي عارض، في جلّه، سياسات بلير الخارجية ولا سيما حربه على العراق والتحاقه بالرئيس بوش عاد وانتخبه للمرة الثالثة، في عام 2005، مكافأة له على إنجازاته في الداخل. وقد نجح بوش في التجديد لولاية ثانية بسبب تمكنه من إقناع الناخبين بأولوية الحرب على الإرهاب وضرورة مكافحته، انطلاقاً من أفغانستان والعراق، حتى لا يضرب في الداخل الأميركي كما فعل في 11 أيلول 2001. وأدار الناخبون الإسبان ظهرهم لرئيس الوزراء أزنار بسبب فشله في التعامل مع الإرهاب الذي ضرب مدريد في آذار 2004.
الغياب النسبي للمسائل الدولية عن النقاش في المعركة الانتخابية الفرنسية ليس أمراً غريباً أو جديداً. فمنذ انتخابات عام 1965 الرئاسية بات التشديد على هموم الداخل تقليداً راسخاً. هذا رغم التقدم الهائل في وسائل الإعلام والاتصال والعولمة الذي جعل من الرأي العام لاعباً أساسياً على بيّنة وتفاعل مع الشأن الدولي الذي أضحى في صلب الوظائف الحكومية. ويتفق علماء السياسة على أن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية، ما يعني أن تغييب السياسة الخارجية عن النقاش الانتخابي يذهب في عكس اتجاه اللعبة الديموقراطية الصحيحة.
وفي ذروة صعود الاتحاد الأوروبي وتوسّعه، هل من المعقول أن لا يحتل الموضوع الأوروبي مركز الصدارة في المعركة الانتخابية؟ هذا هو الواقع. وسببه أن كل الأحزاب الفرنسية تقريباً منقسمة على نفسها في رؤية المستقبل الأوروبي. لذلك، في ما عدا مرشح الوسط فرانسوا بايرو، لا يجازف المرشحون الآخرون بالاستثمار في هذا المجال. مرشح اليمين الحاكم نيكولا ساركوزي يقترح صياغة دستور مختصر (نصف دستور أوروبي مشترك) لاستفتاء الشعب حوله، في حين أن مرشحة الحزب الاشتراكي سيغولين رويال تخوض في كلام غامض حول أوروبا التي ينبغي أن تكون أقل ليبرالية وأكثر اجتماعية.
كلام ساركوزي المتكرر عن القطيعة مع الماضي يتضمن تغييراً أساسياً في السياسة الخارجية. أطلسيّته ودعمه الواضح لإسرائيل ووصفه حزب الله وحماس بالإرهابيين ودعمه لحرب أميركا على العراق، وغير ذلك يشكل قطيعة مع الديغولية بما فيها عهدا ميتران وشيراك، أي مع سياسة خارجية فرنسية مستقلة الى حد كبير عن الحليف الأميركي. لكن «الكابوس الأميركي» كما يصفه خصومه لن يكون حراً في احداث مثل هذه القطيعة. المقربون منه ليسوا أطلسيين إلى هذه الدرجة، ولا بد أن الكي دورسيه (وزارة الخارجية) والجهاز الأمني والعسكري وجهاز الإدارة العامة العليا سيكونون له بالمرصاد. بالطبع إزاء ضعف التحالف الحكومي الذي تتزعمه أنجيلا ميركل في ألمانيا. وبعد رحيل إزنار وبرلسكوني والضبابية التي تغشو مستقبل البليرية في بريطانيا، فإن ساركوزي قد يغدو زعيم الأطلسية الأوروبية الجديدة المدعومة من بعض المنضوين الجدد في الاتحاد الأوروبي مثل بولونيا وتشيكيا. لكنه إذا انتخب سيكون مثل سابقيه محكوماً بسقف التقليد الخاص للدبلوماسية الفرنسية، كما كان قبله فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران اللذان عُرفا لحظة انتخابهما بالانتماء الى الأطلسية ما بعد ـــ الديغولية وبالتأييد المفرط لإسرائيل، واللذان سرعان ما وجدا نفسيهما في إطار إرث ديغولي لم يحيدا عنه في سياساتهما الخارجية. ينبغي عدم المبالغة في قدرة الرئيس الفرنسي على صياغة سياسات خارجية وطنية بمفرده.
في اليسار، لا أحد يدعو إلى إعادة تفعيل التضامن الغربي كما يفعل ساركوزي. لكن ينبغي أن لا ننسى بأن اليسار المعادي للأطلسية وحتى للولايات المتحدة لا يقوم على أساس متين كما هي حال التيار الديغولي في اليمين. إنه منقسم على نفسه بين ماركسية تختفي رويداً وديغولية مقاومة للأطلسة وعالم ـــ ثالثية يعوزها الوضوح وجمهورية سيادتية تنزع الى الالتقاء مع بعض التيارات الديغولية ـــ الجديدة. هذا التبعثر منع اليسار من إنتاج سياسة خارجية جديدة متماسكة وواضحة. وقد دل الاستفتاء على الدستور الأوروبي المشترك، في أيار 2004 على هذا التخبط.
الشرق الأوسط رغم أهميته الحيوية وقربه الجغرافي يبقى منطقة لا يجازف المرشحون بالسير في حقول ألغامها. فقط جوزيه بوفيه يعتمر الكوفية الفلسطينية ويعلن موقفاً مؤيداً للعرب، لكنه لن يستحوذ على أكثر من نسبة الإثنين في المئة من الأصوات على ما تتوقع استطلاعات الرأي. مفهوم «التهديد الإيراني» لا إجماع حوله بدليل زلة لسان شيراك عندما قال أخيراً إن القنبلة النووية الإيرانية الافتراضية لا تهدد أحداً ولا حتى إسرائيل. وقد نجح ساركوزي في إجهاض عزم شيراك على إيفاد مبعوثين للتفاوض مع طهران، فكشف عن موقف راديكالي متضامن مع واشنطن. لكن سيغولين رويال تبدو غير متمكنة من هذا الملف الذي لا تقدم أي رؤية للحل فيه، الأمر الذي تعكسه التصريحات المتباينة لزعماء الحزب الاشتراكي في هذا المضمار. أما عن الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، فما عدا ساركوزي مرشح إسرائيل المعلن، يسعى الآخـــــــــــــرون إلى تقديم مقاربات أكثر» توازناً». لقد تعرضت رويال الى سيل من الانتقادات بسبب اجتماعها مع أحد نواب حزب الله في بيروت، فـــــــــــسارعت الى تعويض ذلك برفض الاجتماع مع ممثلين لحــــــــــماس في فلسطين. ومنذ جولتها الشرق ـــ أوسطية الفاشلة تتــــــــــفادى الخوض في الموضوع عبر لعبة اصطناعية وسطحية تبحث عن أصوات عربية وتخشى فقدان أصوات يهودية، ولو على حساب تقديم رؤية دبلوماسية واضحة وبناءة.
ما عدا قضية دارفور التي تجمع كل المرشحبن تقريباً في دعمهم للتدخل الإنساني الجديد تسود النزعة، في هذه المعركة الانتخابية، الى القفز عن كل المواضيع الحساسة التي هي بطبيعتها أكثر تعقيداً والتي حولها سوف تدور كل الدبلوماسية الفرنسية في الساحة الدولية. المشكلة هي أن الحملة الانتخابية التي من المفروض فيها أن تفتح النقاش العام، حول مسائل أساسية تهم الرأي العام المؤثر في إنتاج علاقات دولية، تقود، لأسباب تتعلق بالماركتنغ الانتخابي والسعي وراء الأصوات، إلى إغلاق هذا النقاش الذي من دونه ليس ثمة من لعبة ديموقراطية حقيقية.
ربما إذا أردنا أن نعثر على نقاش، ولو نظري، في هذه الانتخابات فقد نجده في وجود هوة ما بين الواقعية السياسية التي يجسدها ساركوزي ونوع من المثالية التي يتفق حولها مرشحا اليسار والوسط رويال وبايرو. ساركوزي يشدد على مفاهيم القوة والمصالح الوطنية والتحالفات والإدارة التقليدية للنزاعات. في حين أن رويال وبايرو يركزان على السياسات الأخلاقية والاجتماعية والمحافظة على البيئة والعدالة الدولية ومساعدة العالم ـــ الثالث والإرث الإنساني المشترك والتعددية ـــ القطبية. فقط هنا قد نعثر على فرق حقيقي ولو في الحالة المضمرة بين خيارين ايديولوجيين حول السياسة الخارجية المزمع صياغتها بعد شيراك مع القناعة بأنها، مهما حاولت، لن تتمكن من الابتعاد كثيراً في العمق عن الخطوط العريضة التي سبق ورسمها مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول قبل أن يسير على هديها خلفاؤه من اليمين واليسار على حد سواء.
من ناحيتهم، بات الناخبون يدركون أن الوعود هي لمجرد الحملات الانتخابية. لذلك، لا يبدون اهتماماً لافتاً بالمعركة بدليل أن نصفهم تقريباً، على ما تقول استطلاعات الرأي، لم يقرر بعد ما إذا كان سوف يشارك في التصويت أم لا، ولمن يصوّت في حال المشاركة وذلك على بعد أيام معدودة من الاقتراع الذي سوف يفوز فيه على الأرجح من يمتهن القدرة على إغراء المترددين وليس إقناعهم بالضرورة.
* كاتب لبناني