خورشيد دلي *
أثار تأخير رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إعلان موقفه بشأن الترشُّح للانتخابات الرئاسية أو عدمه أسئلة كثيرة، البعض ربطها بحرص أردوغان على معرفة موقف المؤسسة العسكرية والقوى العلمانية مسبقاً، والبعض الآخر بحسابات داخل حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان، وقسم ثالث بالموقف الأميركي نظراً لأهمية العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وأنقرة. في الواقع، بغض النظر عن هذه الأسباب ودرجة كل سبب، إن الأساس في المسألة ينصب في إطار تواصل الصراع الخفي ــــــ العلني المتواصل بين الإسلام السياسي والقوى العلمانية في تركيا.
وانطلاقاً من هذا الصراع، بدأت القوى العلمانية قبل موعد بدء تاريخ الترشُّح للانتخابات بأيام قليلة بما يشبه حملة منظمة على احتمال ترشيح أردوغان نفسه، بوصفه يشكل تهديداً للنظام العلماني في البلاد، وقد دشن الحملة قائد الجيش الجنرال يشار أونيت عندما أعلن «أن على الرئيس المقبل أن يكون وفياً للنظام العلماني من أعماقه وليس بالكلمات فقط»، وأعقبه الرئيس المنتهية ولايته أحمد نجدت سيزر في كلمة له أمام ضباط الكلية الحربية بقوله: «إن النظام العلماني يواجه تهديداً غير مسبوق من الأصولية الإسلامية». وقد كانت تصريحات سيزر وقائد الجيش كافية لخروج مئات آلاف الأتراك في تظاهرات ضخمة مناهضة لترشيح أردوغان نفسه إلى منصب الرئاسة، علماً بأن في إمكانه الفوز بسهولة نظراً لامتلاك حزبه الأغلبية البرلمانية.
أردوغان، بعد أن اتضحت له مواقف القوى والأوساط العلمانية، بدأ بما يشبه هجوماً مضاداً، مؤكداً حقه في الرئاسة ما دام الدستور التركي لا يمنعه من ذلك، إذ قال في الاجتماع الأخير لكتلته البرلمانية إنه سيخدم الشعب التركي كما فعل سابقاً أياً كان المنصب الذي سيشغله، وقال إن حكومته حققت نجاحات عظيمه في جميع المجالات، مؤكداً أن أسس الجمهورية الديموقراطية العلمانية ومبادئها ليست حكراً على أحد، وأن هذه الأسس ستبقى إلى الأبد وأن جميع أبناء الأمة التركية هم أصحاب هذه الدولة والجمهورية. ووجه أردوغان انتقادات شديدة إلى قوى المعارضة السياسية والعسكرية، وقال إن «البرلمان الذي انتخب حتى الآن عشرة رؤساء للجمهورية منذ قيام الجمهورية التركية عام 1923 سينتخب الرئيس الحادي عشر، وإن اعترض المعارضون»، في إشارة واضحة إلى احتمال ترشيح نفسه مع نهاية مهلة الترشيح القانونية التي تنتهي في ليل 25 من شهر نيسان الجاري، بعد أن يكون قد رتب أمور حزبه الداخلية، إذ لا يحق له حسب الدستور التركي البقاء في رئاسة الحزب والجمع بين منصبي رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية.
من الواضح أن مسألة ترشُّح أردوغان لمنصب الرئاسة مسألة تتجاوز المعادلة البرلمانية واللعبة الديموقراطية في البلاد إلى معادلة لها علاقة بمعادلة غياب التسوية الحقيقية بين القوى العلمانية والإسلام السياسي مع الإقرار بأن فترة حكم حزب العدالة والتنمية كانت أكثر الفترات تعايشاً بين الطرفين في تاريخ تركيا، ولعل مرد هذا الأمر يعود إلى نهج وسياسة وإدارة ورؤية أردوغان للأمور ولخيارات تركيا السياسية، إلى درجة أن أردوغان بدا أكثر حماسة من الجيش نفسه في مسألة البحث عن العضوية الأوروبية لبلاده، كما أن لها علاقة بالموقف الأميركي من مسألة تسلم (إسلامي معتدل) لمنصب رئيس الجمهورية في بلد مثل تركيا عرف منذ الحرب العالمية الثانية بالحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، إذ يعتقد المراقبون أن المؤسسة العسكرية التركية لم تكن تعلن موقفها السابق لولا الموقف الأميركي المساند لها، حيث يرى هؤلاء أن اعتدال أردوغان الإسلامي لا يكفي وحده لكي يكون رئيساً لبلد عضو في الحلف الأطلسي ويملك ثاني أكبر جيوشه ويستضيف على أراضيه قاعدة من أهم القواعد العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، هي قاعدة إنجرليك الجوية. كل ذلك في وقت تشتد فيه الحملة على الإسلام بوصفه يمثل الإرهاب والتخلف والاستبداد. وعليه لا ينبغي النظر إلى القضايا الحياتية والسلوكية في المجتمع التركي، وخاصة تلك المتعلقة بالحرية الشخصية كارتداء الحجاب وإطلاق اللحى ومدارس تعليم القرآن... إلخ، أو حتى مظاهر التعبير عن الهوية القومية غير التركية كمسائل بسيطة، بل هي مسائل في غاية الحساسية لطرفي الصراع، إذ إن المسألة هنا تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين، ولعل خطورة هذا الصراع لا تكمن في استمراره بالوسائل السلمية وفقاً لقواعد اللعبة الديموقراطية، بل في استمرار حصر الإصلاحات بـ(الأتاتوركية) كأيديولوجية رسمية مطلقة للدولة والمجتمع في مرحلة أضحت هذه الأيديولوجية عاجزة عن تأطــــــــير الحياة اليومية للدولة والمجتمع والأفراد.
من دون شك، أردوغان الذي بدأ حياته العملية بائعاً متجولاً قبل أن يصبح أهم رئيس بلدية في تاريخ مدينة إستانبول، ومن ثم أقوى وأهم رئيس وزراء في حياة تركيا، يدرك كل هذا، ويفكر بكل هذا قبل أن يعلن موقفه النهائي من مسألة الترشُّح لمنصب رئيس الجمهورية. والمفاجأة، كل المفاجأة، أن يعلن أنه يريد الحكومة والرئاسة معاً ما دام قد نقل عنه في الأحاديث الخاصة أنه يريد رئيساً قوياً على الطريقة الأميركية.
في جميع الأحوال، من الواضح أن الانتخابات الرئاسية في تركيا دفعت بالصراع بين القوى العلمانية والإسلام السياسي إلى واجهة الأحداث من جديد، والخطورة هنا أن يحمل هذا التطور في طياته خطرين: الأول: العودة إلى سياسة توجيه أنظار الداخل نحو الخارج من خلال عملية عسكرية يقوم بها الجيش في شمال العراق تحت عنوان حماية الأمن التركي. والثاني: أن يقوم الجيش بانقلاب أبيض على أردوغان على غرار ما حصل مع معلمه ومؤسس الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان عام 1997 وبما يعني كل ذلك العودة إلى الصيغة العسكرية في الحكم بدلاً من التعايش السلمي، وعودة تركيا إلى الدور الوظيفي السابق لها في السياسة الأميركية بعد سنوات من التحول الإيجابي في علاقاتها بالدول العربية والإسلامية الذي كان الفضل فيه لقوى وتيار الإسلام السياسي.
* كاتب سوري