قاسم عز الدين *
في آخر لقاء سألني جوزف عن سبب قلّة المراثي في حسن قبيسي. ظننتها فرصة مواتية لمداعبته خرمشة فقلت: إن حسن كان يحرص على التقيّة في علاقاته المتناقضة وفي شؤون تكوينه، فأشكل أمره على معارفه وأصدقائه. أشعل جوزف سيجارة من أختها وأطرق رأسه على عادته بالتكابر. ابتسم بخفر جميل، وعلى عادته في نطق الحكمة حين تمشي على قدمين، قال: اضطرّ أرتين إلى أن ينعى صديقه، فاستغلّ المناسبة للتذكير بمهارته في تصليح الساعات. ولا ريب أن من عرف جوزف رثاه ببعض مآثره حسرة، لكن نعاه بعض قدامى أصدقائه، مستغلين المناسبة، للتذكير بمهارتهم في إصلاح ما أفسد الدهر في وجوههم. في سفر تكوينه رعى جوزف ملَكة نسج الصلة مع كل الأوساط والمستويات، فلم يجافِ أحداً.
والغريب أنه كان شحيح الكلام ولم يكن متحدثاً متفوّهاً، بل كان يفيض بالدفء ويطفح بالطمأنينة الحميمة. أقام بين قلبه وقلوب الناس رسول، وكان قلب الطفل فيه يتسع لكل من يدب على الأرض من خلق الله. لكن لم ينشغل بوسواس العيش مع معارفه وأصدقائه، بل عاش الحياة لوحة تشكيلية انهمك بفن رسمها وتلوينها. يقيني أن جوزف بنى لنفسه، في هامته الفارعة، طابقاً علوياً لم يدخله غيره. هنا كان يختلي بنفسه، مع سيجارته، على شرفة الرؤية البانورامية. وهنا كان يركب ناقته في كل مرة تشده الرحال إلى الربع الخالي. عاش جوزف طاوية الحرية على هذه الشرفة مع مرشده الروحي ياسين الحافظ وأم جوزف وغيفارا وعبد الناصر، وأخيراً أضاف سيّد المقاومة.
وهنا كان يعيش حرية التمرّد فينتشي بالشموع، إنما أيضاً بالتواضع، وكان ينأى بنفسه عن سفاسف الأمور، يتطلع دائماً إلى العلا ويطمح إلى أن يضع بصمته في أي حدث مشرق. حين أصدر مجلة سياسية في باريس مع فواز طرابلسي، راق له اسم «الحساب»، وهو اسم مجلة الحزب الشيوعي المصري عام 24، إنما بعد فوات الأوان، فلم يعلم بالاسم في الوقت الملائم. وفي آخر لقاء قال لي إن الحزب هو أهم اكتشاف في تاريخ البشرية. ولا شك أن جوزف لم يطمح إلى إنشاء حزب، أو الانضواء في شيعة وجماعة، إنما كان يحلو له أن يشمخ بالتمرّد وأن يتعلّى بالحساب ولم يفقد البوصلة مرة، وحين تطأ قدمه حفرة ينتفض كالمارد. في لندن انتظره صاحب مشروع صحيفة عربية أكثر من سنة، حين كانت مجلة «اليوم السابع» تشرف على نهايتها. لكنه أبى أن يلتصق بخدمة السلطان في مشروع يتعدّى المهنة الصحافية. أعاد الكرّة عليه في باريس كبير المشاريع وعرض عليه الاختيار بين صحيفة يومية وتلفزيون ومركز أبحاث، بين أقران أخرى في حكومة ظل كان يقيمها لاكتساح المثقفين، دغدغته الفكرة برهة قصيرة، لكن أم جوزف كسرت عليه القمقم من مرقدها الأخير، فانتفض جوزف وتلذّذ بطعم التمرّد والحرية.
كان جوزف قارئاً نهماً، قلّما يأتي أحد على ذكر كتاب لم يقرأه. وقلّما يلتقي صاحباً ذاهباً إلى بلاد الفرنجة دون أن يوصيه بكتاب، وقلّما برع غيره بانفتاح العقل وحرارة الدم والجرأة الثقافية. لكنه حرص على عدم الانتماء إلى طبقة المثقفين ولم ينشغل بهموم المثقف وترّهات أخبار الأعيان. كان يبزّ كبار سحرتهم بفيض المعرفة وجدلية التحليل وجرأة الموقف، إنما كان يُعرض عن مثقـــــــــفي الســـــــــــطرين وكلمنجية وسائل الإعلام.
ولم يكن استخفافه مزاجاً عارضاً، بل شرعة عميقة في التكوين والكون. اتخذ من فلسفة اللامتسرولين معتقداً في مواجهة التبشير والوصايا، ومن حياة الأرض عقيدة في التمرّد على الكهنة وأدعياء الوساطة إلى السماء. دفعته شرعته إلى احتقار آداب «كبار القوم» وسلوكهم وثقافتهم، وإلى الاعتداد بصنّاع الحياة في الأرض: المزارعين، والعمال وضحايا العبودية... اعتزّ بالانتماء إلى صناعة الحياة مقابل صناعة «كبار القوم» في القتل والتدمير والخراب. فلم ينبطح أمام كبير منهم، بل يشمخ عليه ويعتز باحتقاره، ولم يتحضّر باحترام «الشرعية الدولية» وسلطات العسف والوحشية، بل يكابر بالانحياز إلى تمرّد الضحايا والحق في الحياة. فلم يكن جوزف وطنياً أو إقليمياً أو ذنَباً لأي سلطة، ولم يطمع بجاه أو نفوذ بين الأذناب، بل كان ضميراً صاحياً بين الفلاسفة في التاريخ البشري، وشاهداً حياً على الصراع بين سلطات «كبار القوم» وضحاياهم.
أبى أن يقتل روحه الحرّة في حفرة «الواقعية السياسية»، ورفض أن يصبح مهرّجاً في ترويج مآثر المتنعّمين بالثروة من جوع الأطفال، ولم يقتنع بفضائل توزيع الحسنات على متسوّلي النعمة، بل آمن بالحقوق وافتخر بالتمرد من أجل الحقوق وهو أصيل الفلسفة وأحرفها الأولى. تبنّى جوزف شرعة الفلسفة في إصلاح الكون من شرائع «كبار القوم» وفسادهم في الأرض، ولم يؤمن بحاجة الناس إلى «أنبياء» جدد أو إلى مبشّرين بسعادة الثروة والمال، بل يؤمن بحاجة الناس إلى واسطة للسماء.
اعتقد، كما اعتقد الفلاسفة، أن كهنة النعمة هم أصل الفساد، وخدم «كبار القوم» وواسطتهم إلى الوحشية. آمن بأن السماء هي متنزّه لضحايا الاسترقاق والتسلّط في الأرض وكل من بذل قطرة عرق ونقطة دم في صناعة الحياة. إنما آمن أيضاً بأن الحياة في الأرض لهم إذا أزاحوا عن ربقتهم علَق الأرض وسماسرة «كبار القوم»، وقد ظل هذا الهاجس يشغل جوزف في شرفته البانورامية العليا.
كان يكتم غليانه أحياناً «بهدوء» وأحياناً أخرى بوضع النقاط على الحروف ولم يضل الطريق. في ذكرى أربعينه أشفق جوزف، في سمائه، على ما قاله زرادشت في الهداية إلى السماء، إنما اشمأزَّ من قول جثّة ــــــ متورّمة بتفاهات ثقافة السطرين قبل العشاء وبعده. أخاله في لقاء ربّه يطلب الصفح عن هذه الجثّة، وعن جثث أخرى أكثر حياء. يرتجي ربَّ السماء ويقول: ترفّقْ أيها المولى عليهم، فإن الرفق بالجاني عقابُ.
* كاتب لبناني مقيم في فرنسا