خليل أحمد خليل *
«ستسمعون خصف نعال آتياً من الشرق...»، كمال جنبلاط


I

في الوجه العرفاني لهذا المعلم التوحيدي بلا ضفاف، الذي أخفته السياسة وأعدمته، نقرأ مجدداً سؤال الشرق. ومجدداً نسأله ــ وهو الحاضر ـــ عن الآتي: أي شرقٍ؟ أهو شرق العرفانيين الكبار الذين ألبسوك صوفهم يا بايزيد؟ أم هو شرق الثورة الذي حدّثك عنه الإمام موسى الصدر، يوم كنتما معاً على ضفتي التوحيد الأرفع؟ لم نفاجأ كثيراً حين قلت: إيران. وقلت هي نصف حضارة المسلمين. ثم أضفت متألّقاً في صمت صمتك: لولاها لما شهدنا حضارة إسلامية رفيعة، ولما كان لنا أن ننتظرها مجدداً. ثم رحلت أنت برصاصةٍ، والصدر بمفازة؟ وفي الحالتين تمنى «القاتل» لو كان هو «المقتول».
وبقي جمهوركما ينتظر سطوع الثورة حتى 1979. وكما أُعتدي عليكما، أُعتدي عليها، وسفك من دماء المسلمين العرب والإيرانيين ما لم يسفك نظيره في كل التاريخ الإسلامي البيني. كان ذلك عام 1985. وها نحن الآن، بعد حرب 2006، في مهب حروب على الأمتين العربية والإسلامية. والكل يتساءل: هل سيتكرر المشهد، فيتقاتل السنيون والشيعيون ليكون «خليفتهم» الوصي الأميركي أو الإسرائيلي، لا فرق؟
في الوجه العربي للمشهد الجيوبوليتيكي، يتواصل انتظار «ابن عربي» لعله يخرج بعد «فتوحاته المكية» من الرياض هذه المرة، وبصورة عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان صديقاً لجنبلاط والصدر معاً، وكان واعداً ــ قبل اغتيال أخيه فيصل عام 1975 ــ بنظرةٍ جديدة الى العلاقة بين ضفتي نهر الأمة الكبرى، بلا وصايةٍ من أحدٍ على أحد. وبالذات تنتظر إيران، الثورية والمسلمة معاً، موقفاً عادلاً من الحكام العرب، وقد وقفت بكل إمكاناتها ـــ وعلى الرغم من جراحاتها الدفينة ـــ الى جانب القضايا العربية الكبرى، وخصوصاً في فلسطين ولبنان. وحين كنا في طهران، يوم أربعينية الإمام الخميني، تساءلنا: لو كان في بغداد «حافظ أسدٍ» آخر، هل كانت ستقع تلك الحرب «الأخوية»؟

II


طبعاً، لا يُكتب تاريخ سياسي بـ«لو» أو «إذا». ولكنه يتلازم في حدوثه مع الافتراض والمغايرة أو المقاربة. غالباً ما يُهمل دور الحاكم في تقرير مصير المحكوم، وتُعزى الأسباب إما إلى مغيوب كالجمهور، وإما إلى محجوب كالمعبود. وعندنا أن إهمال الأسباب الوجودية ـــ ومنها موقع الفرد في سَوْس الجماعات ـــ يفسح في المجال أمام سوء قراءة النتائج الوضعية. وهذا ما يحدث حالياً بين العرب والعجم، وبين العرب والترك أيضاً، واستطراداً بينهم وبين الأمازيغ (البربر) والكرد، ما يفتح أبواباً داخل البيت الإسلامي الكبير، لتدخّلات وحروب ووصايات، كما هي الحال، أقلّه، في المشهدين اللبناني والعراقي. لقد تغيّرت جذرياً منامق (ديكورات) الجيوبوليتيكا العربية ـــ الإيرانية، بتغيّر ديكورات العولمة نفسها. وبقدر ما تدفّقت الهضبة الإيرانية الطهرانية في اتجاه العرب المشارقة، أدار حكامهم، إلا القليل، ظهورهم هرباً من ثورة ـــ استبدلها أكثرهم بثروةٍ تذهب هباءً كالنفاق ـــ وتدفقوا غرباً مع أموالهم وسياساتهم وجيوشهم واستخباراتهم، وسنّوا أسنانهم، أو سُنّت لهم، لمشاركة مبتذلة في «حرب دينية عالمية» تديرها إدارة المحافظين الأميركيين الجدد والأصوليين الصهيونيين، ولكن وقودها المسلمون ونفطهم... حضارتهم وأمتهم وهذا ما لا ينشده أحد من المسلمين، العرب وغير العرب.

III


مع ذلك، يُساء كثيراً فهم مشروع إعادة تأسيس الأمة، أو ناسيّة محمد (ص) عند عبد الله العلايلي، لتوحيدها على إيقاعات ثقافية وسياسية، عنوانها المشترك: الممانعة أو مقاومة الغزو الصهيوني ـــ الغربي المستديم، والمتجدد حالياً ولو بأوهام مختلفة. ويُساء فهم المشروع العربي ـــ الإسلامي، ويُساء أكثر فهم التوسيل الأميركي لهذه الضفة أو تلك من نهر الإسلام، في السياسة المحلية، ويقدمه البعض «حلّاً» وهو في حقيقته «مشكلة في المشكلة».
فهل يتصارح ويتناصح العرب والإيرانيون والأتراك وسواهم في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة؟ أي هل يتعارفون ويتفاكرون مجدداً في أمور دنياهم، بعدما توغّلوا بعيداً في الخلاف على أمور دينهم؟ إن «مراعاة الأبدان خير من مراعاة الأديان» حديث سياسي بامتياز، يمكن استرجاعه من ذاكرة المكان العربي والإيراني، للنظر في المصالح المشتركة، وأولها حفظ الذات من التعادي الغبي، وخصوصاً من التفتيت والتشتيت... حتى الاقتتال.
ما حدث في الرياض بين إيران وبعض العرب كان هدنة تهدئةٍ، لا تسوية ولا تفاهماً حول المستقبل. وما يُخفى عن معظم الحكام العرب، ومنهم بعض «الوكلاء» اللبنانيين، الرهان على حروبٍ أطلسية وصهيونية ضد الثورة الشيعية أو الشيعية السيـــــــــاسية، بوهم أن هذه الحروب ستخدم ما عُرف عن بعض العروبيين باسم «السنية السياسية». ومرة أخرى يُستدرج المسلمون، بأوهام «قوموية» متبادلة، الى التغالب من أجل آخرين، متناسين أن التسالم بينهم هو واحد من معاني إسلامهم، وأنه لا معنى لسياساتهم من دون حفظ ذواتهم ـــ وفي هذا المندرج، يمكن الزعيم وليد جنبلاط أن يستذكر علاقاته الطيبة مع إيران، قبل الثورة وبعدها، وأن يعيد النظر في إسقاط «المحليّ» على الإقليمي والدولي.

IV


إن ربط المجال الحيوي العربي ـــ الإيراني بفضاءٍ معرفي حضاري ممكنٌ، إذا سعى الطرفان الى النهر الإسلامي، الإنساني المشترك، بسياسةٍ مستفادة من مصالحهم المتبادلة، لا مستعارة من غريب، ولا مستنهلة من مناهل الاختلاف التاريخي، القديم والحديث. إن «الحرب السنيّة ـــ الشيعية» ـــ إذا جاز التوصيف ــــ وقعت عام 1985، وليس للأغبياء المراهنين على تجديدها، سوى النظر، لا في أسبابها وحسب، بل في نتائجها على ضفتي الخليج، وليس للأذكياء المراهنين في المقابل، على «بؤر ثورية» في لبنان وفي فلسطين، أن يذهبوا بعيداً في إذكاء التمايز العربي والإيراني، حتى لا يصيبهم ما أصاب مصر «السادات» التي هنّأها أحدُهم بقوله:
«قوموا نهنّي بعيد النصر
ربحنا سينا: خسرنا مصر»
* كاتب لبناني