بولس الخوري *
يقال في بعض الأشخاص ــــــ وغالباً ما يكون الشخص المقصود هو اللبنانيّ ــــــ إنّه «مقطَّع موصَّل»، للدلالة على أنّه ليس «شقفة واحدة» يسير «مثل الترين»، بل على أنّه ارتقى إلى مستوى الوعي والوقوف على دقائق متطلّبات العيش في المجتمع، أي إنّه صار بمقدوره أن يتشاطر ويتحايل ويكوّع عند اللزوم ويقلب «الجاكيتّة » وينقل «البارودة»، البندقيّة، من الكتف إلى الكتف الآخر... وبمختصر العبارة، صار قادراً على التكيّف مع المتغيّرات، المنتظرة منها وغير المنتظرة، بل المفاجئة في العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، وبين الفئات المختلفة التي يتكوّن منها ما يقال فيه، توسّعاً، إنّه مجتمع واحد، حتّى متى بدا على غير وحدة.
لمّا ساقنا الكلام إلى القول بمجتمع واحد أو غير واحد، تبادر إلى الذهن ــــــ وأقصد بذلك ذهن أيّ مواطن عاديّ يراقب ويعاني وليس بيده حيلة ــــــ محاولة المشاهدة والمراقبة للوقوف على ما كان عليه المجتمع اللبنانيّ سابقاً، وما قد صار إليه اليوم، أي من البارحة أو ممّا برح من الأيّام، إلى الحاضر المستطيل والغد القريب أو البعيد.
كان لبنان ــــــ وقد كان الأحرى بي القول: كان يا ما كان... لأنّ ذلك اللبنان صار بحكم الحلم والمتخيَّل ــــــ كان لبنان في فترة من زمانه مترابطاً إلى حدٍّ معقول مقبول، يحتمل فيه بعض الهزّات الطارئة العابرة، فكان أهله يثق بعضهم ببعض ويعيشون آمنين عاملين متعلّمين مهذَّبين إلى حدٍّ معقول مقبول. وكان لا يهاجر من أهله إلاّ القليل، من دون أن تكون الهجرة علامةً تثير التخوّف من إفراغ الوطن من طاقاته الحيّة، وبالتالي من أن يكون سائراً إلى الفناء لكونه لم يعد يؤوي ويحــــــــــــــــضن إلّا المسنّين الكهول الداثرين، فراجت إذّاك العبارة المطمئنــــــــــة أنّ لبنان وطن يطيب العيش فيه.
ثمّ شاءت الأقدار ــــــ وأعني بالأقدار فعل قوى خارجيّة لها محطّات في الداخل ــــــ أن لا يعود الإنسان والمواطن اللبنانيّ يثق بأخيه الإنسان والمواطن اللبنانيّ، ولا يعود الشعب اللبنانيّ يثق بمن تبوّأوا مناصب الحكم والنفوذ، فانقسمت الطوائف وانقلب بعضها على بعض، وانقسم أبناء الطائفة الواحدة وانقلب بعضهم على بعض، وانقسم الحكّام والنافذون و«الفعّاليّات» وانقلب بعضهم على بعض، فتمزّق المجتمع والوطن، وكاد أن يصير مجتمعات متنابذة وأشلاء متنافرة... إلى أن شاء من شاء من الأشقّاء والأصدقاء إعادة لبنان المجتمع والوطن إلى ما يشبه المجتمع الموحَّد والوطن الواحد. لكنّ الشبه ليس كالأصل، ولمّا كان الأصل قد تصدّع، سرعان ما انكشفت هشاشة المشابه وبان تصدّع الأصل، فعاد اللبنانيّون ــــــ إذا صحّت هذه التسمية وصحّ هذا الوصف ــــــ إلى ما كانوا عليه من تشتيت، ففُقدت الثقة بين الأفراد، وبين التجمّعات، وبين الشعب ــــــ أو القبائل والعشائر ــــــ ومن يتحكّم به، وذلك في غياب شبه كلّيّ ممّا كان اللبنانيّون قد ارتضوه لهم اتّفاقاً ودستوراً ومؤسّسات. ولا عجب في ذلك الغياب، حيث لم يكن اللبنانيّ يوماً يسائل نفسه بالرجوع إلى مقتضيات اتّفاق أو دستور، استناداً إلى المبدإ الصحيح القائل بأنّ الدستور والقانون للإنسان، وليس الإنسان للدستور والقانون.
إذاً لدينا اليوم ــــــ ومنذ مدّة يتعسّر تحديد ساعة ابتدائها ــــــ فريقان يطلَق عليهما الموالاة ــــــ أي الحكم الواقع وحلفاءه ــــــ والمعارضة، من دون أن يكون كلّ فريق منهما كتلةً واحدة متراصّة. وفريق المعارضة يرشق الفريق الحاكم بأنّه غير شرعيّ وغير دستوريّ وغير شعبيّ، أي غير موجود شرعاً ودستوراً ولا أكثريّةً شعبيّة. وفريـــــــــــــــق الموالاة الحاكم يمحض نفسه الشــــــرعيّة والدستوريّة والأكثريّة الشعبيّة. وقول الموالاة وقول المــــــــــــــعارضة لم يتأسّس أيٌّ منهما على أكثريّة شعبيّة أكّدتها أيّة إحصاءات، ولا على حكم من مجلس دستوريّ ــــــ من الغرابة أن يكون غائباً ــــــ إثباتاً أو نفياً.
وما يزيد في الطين بلّة أنّ الصقور من كلّ فريق لا يعترفون بصحّة أيّ مطلب يتقدّم به الخصم، بل يؤيّدون موقفهم المتصلّب بكلام هجوميّ اللهجة والمضمون، كأنّه موجَّه إلى عدوّ لا إلى مواطن يحرص مثلهم على تأمين الخير العام، على أنّ الحنكة تقضي باحترام العدوّ والاعتراف بما له من حسنات. ويبدو كلام الصقور أبعد ما يكون من اللياقة الدبلوماسيّة، فضلاً عن الإنسانيّة. إلا أنّ أبسط مبادئ التعامل السياسيّ بين المتخاصمين ــــــ وخصوصاً متى اجتمع الاثنان على إعلان ولائهما للوطن وسعيهما إلى تأمين ما يعود عليه بالخير ــــــ أن يحترم الفريق الواحد الفريق الآخر، ويكون على استعداد لتلبية ما يتبيّن له أنّه مطلب محقّ. متى كان الاختلاف على الوسائل الكفيلة بتأمين خير الوطن، ليس من الحكمة ولا من الحنكة في شيء التشبّث بالرأي ورفض الرأي الآخر جملةً وتفصيلاً. يا حبّذا لو يدور في خلد كلٍّ من الفريقين أن يعود إلى ضميره فيقول في نفسه، ولو لفترة قصيرة تُعدّ بالدقائق أو بالثواني: قد أكون أنا على خطأ، وخصمي على صواب، إذّاك قد تلين المواقف وتتقارب، فيحصل اتّفاق يجعل المواطنين يتنفّسون الصعداء ويعود لهم بعض من الثقة في المؤتمنين على شؤونهم... ويعودوا يعيشون في وطن يحلو...
ثمّ هل ثبت أنّ قدَر لبنان في أن لا يتوافق أبناؤه ــــــ أو بالأحرى سياسيّوه ــــــ على ما فيه خير وطنهم الواحد إلاّ من خلال وساطة شقيق أو صديق؟ ثمّ أليس تقضي الديموقراطيّة ــــــ واللبنانيّون لا ينفكّون يجاهرون بديموقراطيّتهم وبأنّ بلدهم بلد متمدّن حضاريّ، بل بأنّه مثال ورسالة ــــــ في حال تعذُّر الاتّفاق على طريقة لحلّ أزمة حادّة تصيب الوطن، بأن يُصار إلى مصدر السلطات، إلى الشعب ــــــ وهو المعنيّ أوّلاً وآخراً بشؤونه ــــــ فيقول كلمته ويعرف من يمثّله، ويصوّب المسار، ويأتي بالحلّ المنشود، ولو كره الكارهون؟
حتّى الآن ــــــ وقد يطول المسلسل أو «الفيلم الأميركيّ الطويل» كما قيل ــــــ ليس ما ينبئ بتوافق بين الفريقين ، ولو عن طريق مقترحات الأشقّاء والأصدقاء الهادفة إلى رَتق الخَرق، فيعود المجتمع والوطن إلى الوحدة، أو ما يشبهها. والمواطن المتشوّق إلى أن يرى وطنه موحَّداً تسود الثقة بين أبنائه وبينهم وبين الحكّام والنافذين، وأن يلتزم الجميع فعلاً لا قولاً بما تفرضه القوانين، هذا المواطن لا حول له ولا قوّة، فينتظر يوم المصالحة والانفراج، وفي نفسه بعض الأمل في أن يستفيق الزعماء والسياسيّون ويتداركوا انهيار وطنهم ــــــ في حال أنّهم ما زالوا على يقين بأنّ هذا الوطن هو وطنهم الوحيد لا بديل لهم منه. وفي أثناء هذا الانتظار وهذا الأمل في أن يعود الوعي وأن ينتفض العقل ويتحكّم، يرى المواطن العاديّ، وقد امتلكته الخيبة وصار يتأرجح بين اليأس والأمل، أنّ وطنه صار إلى حال لا يسيّر فيها شؤونه بنفسه، بل صار مسيَّراً على عكس ما يصرّح به الزعماء والقيّمون على الشأن العام، فصار إذاً إلى حال المقطَّع غير الموصَّل.
* كاتب لبناني