مشير باسيل عون *
يعاين المرء المتبصّر في الواقع السياسيّ اللبنانيّ أنّ اللبنانيّين هم، على وجه العموم، ميّالون إلى إرسال الأقوال السياسيّة على غير دراية أو تأصيل معرفيّ، وفي كثير من التسرّع والاعتباط. وليست تنجو من هذه الآفات المعرفيّة الخطاباتُ الدينيّة التي يُرسلها أهلُ الدين في لبنان. وثمّة انطباعٌ يسود الأوساط الفكريّة يقضي بالحذر الشديد من التبسيط المعرفيّ في الخطاب الدينيّ الذي ينعقد على الرغبة الصادقة في معالجة الإعضال السياسيّ في المجتمع اللبنانيّ. ويبدو لي أنّ هذا الخطاب الدينيّ ما فتئ يُبتلى بقلّة الجدارة العلميّة في التملّك المعرفيّ التقنيّ لمقولات الفكر السياسيّ العالميّ ولطائف معانيه ودقائق تعقّداته.
والغالب في الظنّ أنّ الخطاب الدينيّ المسيحيّ في لبنان يخلط بين مستويات الإدراك السياسيّ الثلاثة، عنيتُ بها المستوى الأخلاقيّ (الحضّ على مكارم الأخلاق، واستلهام شرعة حقوق الإنسان، والأمر بالصلاح والنهي عن الفساد)، والمستوى التقنيّ (النظر في تشابك الصلاحيّات وتنافذ الأثر بين السياسيّات والاقتصاديّات والعسكريّات والاجتماعيّات والثقافيّات والدينيّات والعرقيّات)، والمستوى التآمريّ المنفعيّ الملامس للانحجاب الغيبيّ (التواطؤ السرّيّ بين قوى الإنتاج العالميّة ومجموعات التأثير الإيديولوجيّة الخفيّة العابرة للبلدان والقارّات).
ويتّضح التمايز والاختلاف بين هذه المستويات حين ينظر المرء في المضامين التي تنسلك في هذه المستويات الثلاثة. فالمستوى الأخلاقيّ في الفكر السياسيّ يقضي بالتذكير المستمرّ بالمثُل الأخلاقيّة العليا، وبمحبّة الوطن، وإعلاء قيَم الخدمة والنزاهة والتضحية، وتعزيز روح التضامن والأخوّة. والمستوى الثاني، وقد يدعوه بعضُ الباحثين المستوى الجيوبوليتيكيّ أو الجيوسياسيّ، فيتطلّب القدرةَ على فهم جدليّة العلاقات السياسيّة الناشطة بين القوى السياسيّة العالميّة، وفهم الارتباطات بين الأقوام والمناطق الجغرافيّة، وفهم التواصل أو الانقطاع بين الحضارات الكونيّة، وفهم طبيعة المصالح الاستراتيجيّة التي تستحكم في تبرير الانحيازات والتحالفات والولاءات. ويتطلّب أيضاً القدرةَ على إدراك العلاقة السببيّة بين الدين والمجتمع، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والثقافة. وأمّا المستوى الثالث، وهو المستوى التآمريّ المنفعيّ، فإنّه يفترض من الحسّ المعرفيّ السياسيّ الرهيف ما يؤهّل العقلَ السياسيّ الفرديّ والجماعيّ للتكهّن الحصيف في كيفيّات ارتباط السياسيّات العالميّة والإقليميّة والمحلّيّة بمصالحِ دوائر النفوذ الخفيّة ومنتديات التأثير العالميّة المنحجبة (وقد شاع وصفُها باللوبيّات العالميّة). وهي دوائرُ ومنتدياتٌ لها صفة العولمة المنفعيّة وتتجاوز حدود العرق والدين واللسان والجغرافيا والتاريخ.
وإذا ما أقبل المفكّر السياسيّ اللبنانيّ إلى الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ، وهو الخطاب الذي فرضته على أهل المسؤوليّة الدينيّة طبيعةُ المجتمع اللبنانيّ الطائفيّة، تبيّن أنّ الأقوال الدينيّة المسيحيّة في السياسة اللبنانيّة هي أقوالٌ من التحريض الأخلاقيّ الصادق الذي ينتمي إلى المستوى الأوّل. ذلك أنّ طبيعة الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ تَضطرّ المتكلّمين إلى الاكتفاء بالتقريع الأخلاقيّ والإعراض عن الحقلَين الجيوسياسيّ والتآمريّ. وحين أتحدّث عن طبيعة الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ، أشير إشارةً واضحة إلى مقتضيات الإيمان المسيحيّ التي تُفضي بأصحاب الخطاب الدينيّ المسيحيّ إلى الإعراض الصريح عن الخوض في الحقل الثاني والحقل الثالث. وقد يظنّ بعضُ المسيحيّين أنّ طبيعة الاقتناع الإيمانيّ المسيحيّ تستكره الانخراطَ الصريح في نطاق التعقيدات السياسيّة المتّصلة بالفهم الجيوسياسيّ والتكهّن العميق في إدراك صلات التواطؤ بين قوى الرأسمال العظمى ودوائر النفوذ الإيديولوجيّ المنحجبة.
ولكنّ الواقع اللبنانيّ يضيف إلى هذا التعليل اللاهوتيّ الصائب بعضاً من التبرير المسلكيّ. ذلك أنّ أغلب المعنيّين بالخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ، وهم في سوادهم الأعظم من أهل المسؤوليّة الدينيّة الكنسيّة، لا يملكون المعرفة السياسيّة التي تقتضيها ضروراتُ الخوض في الحقل الثاني والحقل الثالث من الفعل السياسيّ العالميّ. فاختصاص أهل الدين في المسيحيّة هو غير اختصاص أهل السياسة في المعرفة الأكاديميّة وفي الممارسة التاريخيّة. ولستُ أنوي الحديث عن جدارة أهل الدين الإسلاميّ في الفهم السياسيّ عينه، ولئن كان الدين الإسلاميّ يحرّض على التبصّر في الواقع السياسيّ الذي ينبغي أن يحتض الدعوةَ القرآنيّة في كلّ عصر من العصور وكلّ مصر من الأمصار.
وينضاف إلى هذا التبرير تعليلٌ آخر يتّصل بطبيعة الكلام الدينيّ الأخلاقيّ المسيحيّ في السياسة اللبنانيّة. فلقد ندر أن ينطوي الخطابُ الكنسيّ السياسيّ في لبنان على كلام صريح في إيثار هذا الحزب السياسيّ على ذاك، وتفضيل هذا المرشّح المسيحيّ على ذاك، واتّهام الفاسدين بأسمائهم وافتضاح طبيعة المفاسد والخيانات في عمق مسراها التآمريّ. وكما أنّ خطاب الكنيسة الكاثوليكيّة السياسيّ في روما يكتفي بالمبادئ والتوجيهات العامّة، كذلك الخطاب المسيحيّ السياسيّ في الكنيسة اللبنانيّة يكتفي بالأصول والأسُس والأحكام العامّة.
وخلافًا للرأي الشائع عن قلّة الجدارة في الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ، فإنّ النظر الموضوعيّ في مسألة التعارض الحقيقيّ بين الاقتناع الإيمانيّ والالتزام السياسيّ يمكنه أن يستوضح بنية الفهم اللاهوتيّ المسيحيّ للواقع السياسيّ على وجه الإجمال. فالإيمان المسيحيّ يحمله بعضُ المسيحيّين على معنى الدعوة الملازمة إلى الفهم السياسيّ والالتزام السياسيّ، فيما يحمله بعضُهم الآخر على معنى الدعوة المنفصلة إلى الإعراض عن السياسة وإعداد النفس الروحيّ والاستعداد للدخول المجيد في المدينة السماويّة الزاهية. وقد يذهب بعضُ المسيحيّين من مؤيّدي التصوّر الثاني إلى القول بأنّ المسيحيّة تميّز في الناس طبقةَ الإكليرُس من طبقة العَلمانيّين، وبأنّ أهل الإكليرُس لا يجوز لهم الانخراط في الحقلين الثاني والثالث من الفعل السياسيّ، فيما العَلمانيّون ينبغي لهم أن يحيوا إيمانَهم في معترك الحقول السياسيّة الثلاثة.
بيد أنّ مثل هذا التمييز اللاهوتيّ لا يُعفي المسيحيّةَ، ولا سيّما في لبنان، من النظر في مسألة المقتضيات السياسيّة التي يستتبعها الإيمانُ المسيحيّ. فإذا كان الإيمانُ المسيحيّ لا يبلغ في المجتمع اللبنانيّ إلى حدود الالتزام السياسيّ في الحقول الثلاثة، فإنّه يظلّ إيمانَ الشوق إلى المدينة الإنسانيّة الفاضلة، يرقى بالمؤمن المسيحيّ من واقعه السياسيّ المضطرب المربك العاصي إلى مرتجاه السماويّ المتألّق. وبذلك يَفقد الإيمانُ المسيحيّ قدراته الإصلاحيّة وطاقاته التغييريّة ووعوده الإنسانيّة.
وإذا ما ترصّد المرء أحوال الإيمان المسيحيّ في لبنان وتحرّى عن تصوّرات اللبنانيّين المسيحيّين الدينيّة، أدرك أنّ التوجّه اللاهوتيّ العامّ في المجتمع اللبنانيّ المسيحيّ يقضي بالانتصار لرؤية إيمانيّة تُعرض عمداً عن الانخراط في الجدليّة السياسيّة اللبنانيّة في حقليها الثاني والثالث، وتكتفي بمقولات التحريض الأخلاقيّ والتهذيب الروحيّ. فإذا ثبت أنّ الإيمان المسيحيّ في لبنان يميل عفويّاً إلى مثل هذا التصوّر الروحيّ الارتقائيّ المستنكف من واقع التضارب السياسيّ المحلّي والإقليميّ والعالميّ، فإنّ اقتصار الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ على أقوال الحضّ الأدبيّ يغدو من بديهيّات الحقائق الاجتماعيّة الدينيّة الثقافيّة في لبنان.
بيد أنّ الواقع المسيحيّ في لبنان وفي أوطان الشرق العربيّ يحتّم على الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ في لبنان أن يدرك خطورة الحقلين الثاني والثالث في تغيير مجرى التاريخ المسيحيّ في هذا الشرق. ولشدّة ما أغرق هذا الخطاب في التنديد بالانحرافات الأخلاقيّة في مستوى الحقل السياسيّ النظريّ الأوّل (المستوى الأخلاقيّ) أخذ يتحصّل في وعي اللبنانيّين المسيحيّين أنّ الحلول تكمن في نظافة اليد وطهارة النيّة ونزاهة المسلك. والحال أنّ العقدة السياسيّة اللبنانيّة تتجاوز قدرات التطهّر المسلكيّ الأخلاقيّ الذاتيّ. ذلك أنّ مثل هذا التنديد عاد لا يكفي، بل ينبغي اليوم التبصّر في تعقّدات الحقلين الثاني والثالث من أجل الخروج بتصوّر سياسيّ لبنانيّ مسيحيّ يضمّ الحقول السياسيّة الثلاثة في تبصّر ناقد مستشرف.
وأعني بذلك أنّ الخطاب الدينيّ السياسيّ المسيحيّ في لبنان ينبغي له اليوم أن يترصّد الأخطار التي تتربّص بالإنسان اللبنانيّ، وبالوطن اللبنانيّ، وبالإيمان المسيحيّ في لبنان. وهي الأخطار التي يتهدّدنا بها الحقلُ الأخلاقيّ الأوّل حين تفسد الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، ويتهدّدنا بها الحقلُ التقنيّ الثاني حين نفقد معنى الارتباطات بين الدين والسياسة والثقافة والمجتمع في مستوى الحراك السياسيّ الكونيّ، ويتهدّدنا بها الحقلُ التآمريّ الثالث حين نُهمل آثار الانقضاض المنفعيّ على أوطان الشرق المحاذية لفلسطين المحتلّة وللكيان الصهيونيّ الظالم. فهل يستطيع أهلُ الدين في لبنان، ولا سيّما المسيحيّين منهم، أن ينطقوا بكلام دينيّ في السياسة اللبنانيّة يُكسِب اللبنانيّين الفهمَ الصحيح لآثار المستويات السياسيّة الثلاثة في إفساد وعود الصيغة اللبنانيّة التعدّديّة الفريدة؟
* أستاذ الفلسفة والحوار في جامعة الروح القدس (الكسليك)