ماجد عزام *
تزايدت خلال الشهر الماضي التصريحات والمواقف الإسرائيلية الداعية للقيام بعملية عسكرية واسعة في قطاع غزة بحجة تفكيك البنى التحتية والحد من وتيرة التسلح الذي تقوم به فصائل المقاومة بوحي وإلهام من تجربة حزب الله الأخيرة خلال حرب لبنان الثانية، حسب زعم المصادر الإسرائيلية، وخاصة الأمنية منها التي ما فتئت تحذر من تحوّل قطاع غزة إلى لبنان ثانٍ، ومن أن الوقت ليس في مصلحة إسرائيل التي يجب عليها القيام باجتياح واسع للقطاع في أقرب وقت ممكن.
باستثناء بعض ما بقي من اليسار الإسرائيلي، ثمة إجماع على ضرورة وحتى حتمية القيام بغزو قطاع غزة بينما يبدو موقف رئيس الوزراء إيهود أولمرت متمايزاً بعض الشيء لا على اعتبار اعتراضه على المبدأ بل تحفّظه على أبعاد أخرى لها علاقة أساساً بالأجواء السياسية سواء في فلسطين أو في المنطقة، حيث يؤكد ضرورة تنسيق وتساوق الخطط مع الحركة الدبلوماسية الغربية في المنطقة، والمقصود بالطبع النشاط الدبلوماسي الأميركي المدعوم والمساند من قبل معظم دول الاتحاد الأوروبي.
بنظر أعمق وبتفصيل أكبر يمكن القول إن اجتياح قطاع غزة لا يبدو أمراً سهلاً، وتتداخل وتتقاطع فيه أبعاد أمنية وعسكرية وسياسية وحتى نفسية لها علاقة مباشرة بالتطورات الأخيرة سواء في ما يخص الداخل الفلسطيني أو الداخل الإسرائيلي أو الحراك العام في المنطقة والمستجدات والتفاعلات في قضايا مثل العراق ولبنان وسوريا وإيران.
القرار الإسرائيلي بتأجيل اجتياح قطاع غزة يرتبط أو يستند إلى ما يعتبره إيهود أولمرت لبّ سياسته وجوهرها في الفترة الأخيرة تجاه الملف الفلسطيني وتعقيداته، وتتضمّن هذه السياسة التواصل المستمر مع الرئيس محمود عباس لإرضاء الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي ولإثبات أن إسرائيل لا تقفل الأبواب في وجه التحركات السلمية والمساعي الدبلوماسية لحل الصراع، وفي الوقت نفسه مقاطعة حكومة الوحدة الفلسطينية وتحريض المجتمع الدولي وأوروبا أساساً على اتخاذ موقف مماثل، إذ إن أولمرت يعتقد أن حواره المرحلي مع عباس، إضافة إلى التهدئة التي يدّعي أنه يلتزمها في قطاع غزة منذ أواخر تشرين الثاني الماضي، يدعمان وينعكسان إيجاباً على المتطلبات والشروط الإسرائيلية تجاه حكومة الوحدة والسلطة الفلسطينية.
من الممكن توقع أن يغير أولمرت موقفه من اجتياح قطاع غزة إذا ما تواصل التآكل والانهيار التدريجي للحصار المفروض على السلطة الفلسطينية وحكومة الوحدة، وخاصة من قبل الاتحاد الأوروبي، وإذا ما استنفدت لعبة التواصل مع أبي مازن أغراضها بحيث يضج أولمرت مطالباً بموقف جدّي من عملية التسوية سواء عبر مفاوضات حول قضايا الوضع النهائي مع الرئيس محمود عباس أو عبر الانخراط في مفاوضات جدية ولو إقليمية ودولية على أساس مبادرة السلام العربية، الأمر الذي يزيد من احتمالات الحرب والذهاب في اتجاه التصعيد العسكري والميداني في قطاع غزة.
على المستوى العسكري تبدو عقدة أو معضلة لبنان متحكّمة في العقلية الإسرائيلية العسكرية والسياسية وفي اتجاهات مختلفة ومتناقضة. فعقدة لبنان تدفع الجيش الإسرائيلي في اتجاه العمل السريع في قطاع غزة لاستعادة قدرة الردع واسترداد ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش، وعقدة لبنان نفسها تدفع في اتجاه التريّث وإجراء مزيد من الاستعدادات والتدريبات حتى لا يتكرر مشهد حرب لبنان الثانية حيث عجز الجيش عن تحقيق الانتصار، وفي جميع الأحوال وعلى رغم ضغوط قيادة المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال المتحمّسة جداً لاجتياح القطاع فإن رئاسة الأركان تدفع في اتجاه التريث واستنفاد كل الاستعدادات والاحتياطات بغرض تحقيق انتصار لا لبس فيه ولا شك، كما قال الجنرال كابي أشكينازي أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.
أمر آخر يدفع في اتجاه الحذر وتأجيل اجتياح القطاع قدر المستطاع متعلق بما يوصف إسرائيلياً الجبهة الداخلية أي العمق الأمني الإسرائيلي. وهنا أيضاً تبدو عقدة لبنان موجودة بشكل أو بآخر. فحسب تقرير قدمه الجنرال يوفال ديسكين ــ مسؤول جهاز الأمن العام الإسرائيلي ــ أمام الكنيست، أن 200000 مستوطن إسرائيلي أضحوا في مرمى الصواريخ الفلسطينية، وأي حرب مقبلة في قطاع غزة ستؤدي حتماً إلى إطلاق المقاومة الفلسطينية لصواريخها بشكل يومي وبمدى قد يصل إلى عشرين أو خمسة وعشرين كلم، بمعنى أنه يطال معظم المستوطنات والتجمعات السكانية اليهودية المحيطة بقطاع غزة. وأشار ديسكين إلى خطوة يجري العمل عليها لتحصين أكبر عدد ممكن من المؤسسات الحيوية وتجهيز أكبر عدد ممكن من الملاجئ وإجراء التدريبات الهادفة إلى إخلاء نسبة كبيرة من المستوطنين في حالة احتدام المعارك واستمرار سقوط الصواريخ. هذه الخطوات والسيناريوهات تحتاج إلى وقت وجهد وأموال تصل في مجملها إلى مليار ونصف مليار شيكل تقريباً، أي حوالى 400 مليون دولار. ومن الصعوبة بمكان تصور قيام إسرائيل بعدوان واجتياح واسع لقطاع غزة قبل اكتمال الاستعداد والتجهيزات السالفة الذكر الخاصة بالجبهة الداخلية بحيث لا يتكرر سيناريو حرب لبنان، ولكن هذه المرة في المستوطنات والتجمعات السكانية في جنوب فلسطين المحتلة.
ثمة أبعاد وسياقات أخرى خارجية تؤثر في القرار الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة وتتعلق طبعاً بالتطورات الإقليمية، وتحديداً بالسياسات والاتجاهات الأميركية، فهل ستذهب في اتجاه الحل العسكري مع إيران بينما يوكل أمر غزة ولبنان وسوريا إلى إسرائيل، أم ستتغلب الدبلوماسية في نهاية الأمر وتضطر الإدارة الأميركية مرغمة تحت وطأة الضغوط الداخلية الجادة إلى تنفيذ جوهر تقرير بيكر ــ هاملتون، أي الحوار المفتوح غير المشروط مع إيران وسوريا حول مجمل الملفات والمشاكل الإقليمية العالقة، مع العلم أن ثمة تشكيكاً أميركياً وحتى إسرائيلياً داخلياً في قدرة الجيش الإسرائيلي على القيام بنصيبه، والتنفيذ الدقيق والنجاح في أي مهام توكل إليه ضمن سياق تصعيد أميركي شامل في المنطقة.
يوفال شتانيتس أحد قادة حزب الليكود والرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، الذي يكاد يتحول إلى مفكر استراتيجي في ظل حالة القحط التي تجتاح الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية، يدفع في اتجاه اجتياح قطاع غزة، ولكن بعد استنفاد عدة خطوات، أهمها تصعيد الضغوط على مصر لوقف ما يصفه سيل السلاح المتدفق على قطاع غزة. وفي حال عدم تحقيق هذا الأمر، لا بد من احتلال محور صلاح الدين الفاصل بين قطاع غزة ومصر لتدمير كل الأنفاق وتجفيف المنابع اللوجستية للمقاومة، وفقط بعد ذلك يمكن الذهاب في اتجاه احتلال كامل لقطاع غزة لأسابيع عدة تُفكّك فيها البنى التحتية للمقاومة وتُعاد إلى نقطة الصفر حسب تعبير شتانيتس.
في جميع الأحوال فإن اجتياح قطاع غزة قد يكون بات فعلاً مسألة وقت، إلا أن هذا الوقت قد يطول في ضوء المعطيات المحلية والإقليمية والدولية السالفة الذكر، والأهم من ذلك أن الساحة السياسية الإسرائيلية لا تبدو مؤهلة أو قادرة على اتخاذ قرار كبير ومهم ومفصلي مثل اجتياح القطاع حيث يبدو الكل في انتظار تقرير فينوغراد الذي قد يؤدي إلى زلزال هائل في إسرائيل، وأحد تداعيات هذا الزلزال قد يكون تنفيذ عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة، لكن ليس في المدى، حيث إن أي قرار كهذا سيوصف بأنه محاولة للوقوف في وجه الزلزال لا تعبير أو ترجمة لأحد تداعياته وارتداداته.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام