نظام مارديني *
مع انحسار الهوية الجامعة للعراقيين، باتت الانتماءات الأولية هي مصدر الالتقاء والجذب بين الكتل والطوائف السكانية سواء من الباحثين عن الأمان الاجتماعي ــ الاقتصادي، أو ممارسة دور سياسي في منظومة علاقات السلطة والنفوذ الجديدة. فالهويات الدينية ــ العرقية، العشائرية، المذهبية، والجهوية، باتت تشكّل محور التفاعل الداخلي العراقي بشقّيه: التعاوني والصراعي.
وتخفي قضايا الصراع السياسي ــ الأفقي حول سلسلة القضايا المثارة، في جوهرها قضية الثروة والسعي للاستئثار بها لكونها ستشكّل محدداً مهماً من محددات النفوذ، فمن سيملك الموارد، سيكون قادراً على حشد المؤيدين والاستجابة للمطالب الطائفية بمنطقته، ما يعزز مكانته السياسية بين منافسيه، غير أن «قانون النفط» الذي سيعرض أمام البرلمان العراقي خلال آذار الجاري، سيساعد شركات النفط العالمية على تحقيق حلمها القديم، وبحسب قانون النفط الجديد سيُسحب معظم النفط العراقي من سيطرة الحكومة (وهو خارج سيطرة الحكومة وبأيدي الميليشيات) إلى أيدي الشركات العالمية، كما كشفت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية في كانون الثاني الماضي. وبحسب الصحيفة فإن المشروع المسمى «اتفاق المشاركة في الإنتاج» يفتح الباب أمام شركات مثل «شل» و«بريتش بتروليوم» و«إكسون ــ شيفرون» في الولايات المتحدة، التي سيحق لها وضع يدها على بترول العراق عبر اتفاقات لثلاثين عاماً مقبلاً.
وهكذا أوصت «مجموعة تطوير السياسة الوطنية للطاقة» في آذار 2001 التي تضم مديري كبريات الشركات الأميركية العاملة في مجال الطاقة الحكومية الأميركية، بدعم مبادرات بلدان الشرق الأوسط «لفتح جزء من قطاع الطاقة لديها أمام الاستثمار الأجنبي»، وبعد احتلال العراق ومرور وقت مديد أمضته الإدارة الأميركية في صياغة واقع سياسي جديد، سعت الشركات إلى ترسيخ قانون النفط الجديد المقترح في العراق. ولئن كان هذا القانون يسعى إلى تعزيز مصلحة الشركات الأميركية، فإنه يقوم بذلك على حساب الاقتصاد العراقي، فضلاً عن استقلالها وديموقراطيته، وقد أكد «غريغ مونيتي» من جماعة مراقبة حقوق الإنسان والبيئة، وخصوصاً في ما يتعلق بصناعة البترول، «أن الوضع التفاوضي الضعيف للحكومة العراقية لن يجعلها قادرة على التوصل لاتفاق يحفظ حقوق العراق مع الشركات الدولية في هذا المجال». وهو ما أكدته توجهات «إقليم كردستان» التي وقّعت اتفاقات مماثلة لمشروع الاتفاقية الذي تحاول أميركا تحريره الآن، لكن على نطاق ضيق، إضافة إلى أن عدداً من شركات النفط تُنشأ على المستوى الإقليمي لتُنفّذ هذا الاتفاق بعيداً من الشركات الدولية والسيطرة الحكومية.
ولعل التنافس الميليشياوي على الثروة والنفوذ في عراق ما بعد صدّام، قضية عبّرت عن نفسها بجلاء منذ مقتل عبد المجيد الخوئي في النجف في اليوم التالي مباشرة للاحتلال، ولا يمكن فصلها عن صراع النفوذ والثروة. وهي القضية التي تاجر بها الكثير من الزعامات طمعاً في حشد الدعم والتأييد لهم داخل الجماعات الطائفية والعرقية، بدءاً من أحمد الجلبي ومروراً بأياد علاوي وإبراهيم الجعفري ومسعود البرزاني وعبد العزيز الحكيم وانتهاء بنوري المالكي، ويبدو هذا الصراع واضحاً في منطقة البصرة والعمارة في جنوب العراق، غير أن الصراع الأعنف حول الثروة سوف يبدأ إن تقرر ضمّ كركوك الغنية بموارد الثروة النفطية إلى الإقليم الشمالي، وتحديداً بعد تأكيدات الرئيس العراقي جلال الطالباني أنه حصل على دعم سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لمطلب الأكراد بضم كركوك. ولذا شمال العراق سيشهد توتراً مماثلاً لتوترات الجنوب، ولا سيما أن الانقسام السياسي والجهوي ما بين عائلتي الطالباني والبرزاني الذي هدأت حدّته كثيراً بسبب الضغط الأميركي، ولكن لم تنته بواعثه بعد الاقتتال العسكري والتنافس الذي شهدته الساحة الكردية من قبل للسيطرة على عوائد الجمارك والتجارة الخارجية للإقليم خلال فترة الحظر الدولي الذي فرض على العراق ما بين عاميْ 1990 و2003. وإن قرر الأكراد الانفصال عن الدولة العراقية، فإن الطالباني وحزبه سيجدان نفسيهما خارج معادلة القوة الكردية بعد موافقة البرلمان الكردي في حزيران 2005 على تسمية البرزاني رئيساً لإقليم كردستان، وخصوصاً أن المناطق الغنية بالموارد الطبيعية هي تحت سيطرة حزب البرزاني.
في ضوء ذلك يجب قراءة «قانون النفط» الجديد، وليس مستغرباً أن يتحول، في هذا السياق، القانون إلى أحد المعايير الأساسية التي وضعتها الإدارة الأميركية أمام حكومة المالكي لاستمرار حصوله على الدعم الأميركي، وهي الحقيقة التي ما فتئت تؤكدها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، والجنرال وليام كيسي، ثم السفير الأميركي لدى العراق زلماي خليل زاد. والأكثر من ذلك فإنه بموجب القانون الجديد ستحتفظ الشركة الوطنية العراقية للنفط بحق استغلال 17 حقلاً بترولياً من ضمن 80 حقلاً تُستغل حالياً، تاركة ثلثي حقول النفط المعروفة وتلك غير المستغلة في قبضة الشركات الأجنبية التي ستبقى غير ملزمة باستثمار جزء من أرباحها في الاقتصاد العراقي، أو الدخول في شراكة مع الشركات العراقية في الأقاليم الثلاثة التي هي قيد البناء: (الكردية ــ الشيعية ــ السنيّة)، ما دفع النقابات العمالية الخمس في العراق التي تمثّل مئات الآلاف من العمال إلى إصدار بيان عبّرت فيه عن رفضها قانون النفط الجديد الذي «يتيح للشركات الأجنبية السيطرة على النفط العراقي وإضعاف سيادة الدولة، ثم المساس بكرامة الشعب العراقي».
وتعتبر الاتفاقات القائمة على تقاسم الإنتاج أفضل ما تتوق إليه الشركات الأجنبية وترفضها جميع بلدان الشرق الأوسط المنتجة للنفط لأنها تمنح الشركات عقوداً طويلة الأمد تمتد أحياناً من 20 إلى 35 سنة، مع سيطرة أكبر على النفط وأرباح مالية أوفر. لذا لا تستغل تلك الشركات سوى 12% من النفط العالمي، حيث تفضّل أغلب الدول، ومن بينها تلك المجاورة للعراق مثل السعودية وإيران، الاعتماد على قدراتها الذاتية وإنشاء شركات وطنية لاستغلال النفط. ويقتصر التعامل مع الشركات العالمية على التعاقد معها للقيام ببعض المهمات المحددة وتوفير خدمات بعينها تمتد إلى فترة قصيرة، ومن دون حصول الشركة على حصة من الإنتاج. وقد تفضّل الحكومة العراقية في النهاية رعاية مصالح شعبها بالحفاظ على مقدراتها من النفط وصونها من الإهدار، لو لم تكن خاضعة للضغوط الخارجية التي تمارسها إدارة الرئيس بوش، والشركات النفطية، فضلاً عن وجود 140 ألفاً من القوات الأميركية فوق الأراضي العراقية.
* كاتب سوري