زياد حافظ *
إن ما يلفت النظر في العراك السياسي القائم بين فريق الحكومة وفريق المعارضة هو غياب الحديث عن المستقبل. كل المواضيع المطروحة من قبل قوى «الأكثرية» والمعارضة التي كادت تؤدي (وقد تؤدي لا سمح الله) إلى اقتتال طائفي ومذهبي يدمّر نهائياً النسيج الوطني، هي مواضيع ظرفية وإن كان لها تأثيرها في المستقبل. فقضية المحكمة الدولية على سبيل المثال تطرح إشكالية السيادة بامتياز. فالفريق الموالي للحكومة جعل من هذه القضية الأولوية والشعار الجامع بين أطرافها. وإذا كان مطلب معرفة الحقيقة في اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري مطلباً لا يختلف عليه اثنان في لبنان إلاّ أن التعاطي الغريب لفريق الحكومة مع المحكمة يثير تساؤلات عديدة. فبغض النظر عن تلك التساؤلات التي قد تكون مشروعة أو غير مشروعة وفقاً لمواقف الفرقاء المعنيين، فالقضية الأساس التي لم تطرح حتى الآن هي أبعاد إنشاء تلك المحكمة على السيادة اللبنانية وكأن ذلك الموضوع لا يستدعي التوقف عنده. وبالتالي معالجة قضية السيادة هي النقطة الأولى والأخيرة في التعاطي القانوني مع قضية المحكمة الدولية التي أصبحت ذريعة لكي يضغط فريق سياسي دولي على جزء كبير من اللبنانيين الذين يريدون فعلاً السيادة والاستقلال في لبنان والحد الأدنى من المناعة ضد أطماع الكيان الصهيوني في المنطقة.
إضافة إلى ذلك هناك العديد من التساؤلات المشروعة عن آلية المحكمة ونزاهة من سيتولاها. هذه النقطة الأخيرة بالذات تثير الشكوك عند الكثير من اللبنانيين بعد تجربة المحقق ديتليف ميليس الذي نقض بسلوكه الكثير من قواعد الاحتراف والمهنية في تسريب المعلومات والقضاء على سرية التحقيق. وليس هناك من يضمن أن الدول التي تتحكم بمجلس الأمن والتي لها أهداف سياسية واضحة من إنجاز المحكمة، إذ ليس هناك من ضمانات لنزاهة التعيينات في ملاك المحكمة. ألم يصرّح جون بولتون بأن المحكمة ذات الطابع الدولي ستكون من الأدوات الحاسمة لإجراء تغييرات في أنظمة المنطقة؟ على كل حال، الغموض الذي يدور حول هذه المحكمة ومهماتها يساهم في ترويج الفتنة في لبنان وهذا ما تريده الإدارة الأميركية. هذه التساؤلات منبثقة من منظور سياسي. أما من الناحية القانونية كنت أتوقع من المجتمع القانوني في لبنان ــ أي مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين وكليات القانون وأساتذتها في لبنان وحتى أعضاء المجلس الدستوري المعطل ــ أن يبدي موقفاً سلبياً أو إيجابياً من تلك القضية. أليس ذلك خروجاً عن القسم بالحفاظ على أحكام الدستور والقانون من قبل أعضاء المجتمع الحقوقي؟ فإذا استقال ذلك المجتمع الحقوقي اللبناني من دوره، فما معنى إذاً المطالبة بإنشاء دولة القانون؟ أليس ذلك الموقف تسليماً بعدم وجود دولة سيّدة يلتفّ حولها أبناء المجتمع اللبناني؟ أضف إلى ذلك أن تجنّب قوى المعارضة إبداء رأيها في مشروع النص المقترح يصعب فهمه ويزيد الالتباس على الموضوع وكأنه يغذّي خطاب الابتزاز والإرهاب الفكري الذي فحواه أن من يعارض المحكمة هو متورط في الجريمة بل شريك فيها. وهناك مطالعات ذات طابع قانوني من عدة خبراء في الموضوع كمقالات الدكتور داوود خير الله ومذكرة الدكتور محمد الحموري، على سبيل المثال لا الحصر، تفيد أن إقرار المحكمة بالصيغة المتبعة حتى الآن كفيل بتضييع فرص كشف القتلى الحقيقيين. وبالتالي هناك تخوّف مشروع عند العديد من اللبنانيين المعنيين بمعرفة حقيقة اغتيال الرئيس الحريري من أن المطالبين بالمحكمة بصيغتها المطروحة ربما لا يريدون كشف الحقيقة ويستغلون اللغط للمتاجرة بدم المغدور به. لذلك يمكن التساؤل: من هو الشريك الموضوعي الفعلي في الجريمة؟ وفي الخلاصة أن قضية المحكمة الدولية تحجب الحديث عن يقين الواقع اللبناني والمعاناة التي يعيشها اللبنانيون.
فمن أين يبدأ الحديث المجدي عن المستقبل؟ فإذا أردنا كلبنانيين بناء دولة قانون تسود فيها المساواة والكفاية والعدل بين أبناءها، فعلينا أن نعالج القضايا المصيرية آخذين في عين الاعتبار التاريخ والجغرافيا والصراعات القائمة في المنطقة. فما هي القضايا المصيرية التي تحدد مستقبل لبنان بغض النظر عن طموحات الإقطاع السياسي وتحالف أمراء المال والحرب الذين يتكلمون من دون حرج ومساءلة ومحاسبة باسم اللبنانيين وإن أدّت سياساتهم إلى الخراب والاقتتال؟ لقد أثبتت الطبقة السياسية عبر العقود الستة الماضية عجزها عن بناء دولة، وذلك لعدة أسباب يجب أن نتوقف عندها. فمعالجة ذلك العجز هي الخطوة الأولى لبلورة برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي يلتف حوله أبناء الوطن الواحد.
المشكلة في لبنان بنيوية ونظامية. وهذه المشكلة بشقّيها البنيوي والنظامي هي محصلة للتاريخ والتفاعل مع الجغرافيا. وهناك قراءات عديدة ومختلفة جذرياً للتاريخ ولتفاعله مع الجغرافيا يصعب علينا تجاهلها وإن كنا لا نوافق على كثير منها. فعدم وجود الرؤية المشتركة للتاريخ تجعل بناء رؤية مستقبلية مشتركة بين جميع أبناء الوطن مسألة في غاية التعقيد. البعض يعتبرها حتى مستحيلة وإن كنا لا نوافق على التشاؤم المفرط. فالاعتراف بتعقيد الأمور وتركيبها يفرض علينا التواضع في طموحاتنا وإن كنت من الذين يعتقدون أن حدود الطموح هي حدود الخيال. فبمقدار ما نتخيل نستطيع أن نطمح. على كل حال، طموحنا إلى بناء مستقبل لبنان لن يحدده الخيال فقط بل الإرادات أولاً وقبل كل شيء، وثانياً إيجاد الإمكانيات المادية والفكرية المطلوبة لتحقيق تلك الإرادات.
بنيوية المشكلة تكمن في أزمة هوية الوطن. قضية الهوية صعبة ومعقدة للغاية بسبب المصالح التي كرّسها الاستعمار الغربي والتي كان هدفه منها وما زال تفتيت المنطقة للسيطرة عليها، وبالتالي كانت قضية الهوية المدخل الطبيعي لزرع فكرة التمايز من الآخر والتمييز بين أبناء الوطن ــ بين طائفة وأخرى، وبين المناطق، وبين المدينة والجبل. وإذا كان الوعي بالانتماء الطائفي والمذهبي المدخل إلى الهوية تاريخياً، فإن ذلك الوعي تزامن مع خطاب التحديث الذي تفوّه به التحديثيون اللبنانيون في القرن التاسع عشر. من جهة أخرى، تلازم الوعي الطائفي والمذهبي مع المصالح الجديدة التي خلقها الاستعمار الغربي في لبنان بغية إيجاد موطئ قدم لتحقيق أهدافه في لبنان وفي المنطقة. على كل حال، تلك القراءة السريعة للتاريخ هي الخلفية التي نرتكز عليها لتحديد رؤيتنا المستقبلية للبنان.
القيادات السياسية في لبنان ابتدعت فكرة سياسية ألا وهي «الديموقراطية التوافقية»، أي بمعنى آخر الصيغة المتقدمة للواقع الطائفي لاقتسام السلطة ومغانمها، ولكن لا لبناء الدولة. فالمشكلة الأساسية التي تواجه بناء الدولة الحديثة التي تحمي الوطن والمواطن وتفرض المساءلة والمحاسبة في إطار دولة القانون هي أن القوى السياسية التي تزعم أنها تتكلم باسم اللبنانيين هي قوى ذات منبت طائفي في الأساس باستثناء القوى والتيارات القومية العربية والحزب الشيوعي والحزب القومي السوري وتجمّع اللجان والروابط اللبنانية. ولكن في مطلق الأحوال تحرص معظم هذه القوى العروبية على الحفاظ على ما تسميه أو تعتقد أنه «خصوصيات» أغلبية قاعدتها الشعبية، وهي الشجون والهواجس للطائفة السنية في لبنان التي اعتبرت نفسها مستهدفة بعدما تعرّضت قياداتها للتصفية في مرحلة سابقة، وبعدما وجدت بلاد الرافدين تحت الاحتلال الأميركي وما أتى به من إشعال لفتن مذهبية ــ تلك القوة المغتصبة التي كانت وما زالت تدعم الكيان الصهيوني في التنكيل بالسكان العرب في فلسطين واغتصاب المزيد من الأراضي الفلسطينية. وإن هناك نوعاً من الخجل من المجاهرة في تبنّي الخطاب القومي لما تعرّضت له الحركة القومية العربية من حملات مغرضة من قبل قوى التحالف الأميركي الصهيوني وامتداداته العربية في لبنان. فقد تحوّل التهجّم على كل ما هو قومي عربي إلى مطيّة من قبل قوى الانعزالية الجديدة (أولئك الذين يرفعون شعار «القطر أولاً») المغطاة بأدبيات اتفاق الطائف الذي كرّس المضمون الثقافي والسياسي للنظام العربي القائم، ألا وهو ما يسمّى «ثقافة السلام» أو «الخيار الاستراتيجي للسلام»، وإن كانت مفردات مهذّبة لثقافة الأمر الواقع الإقليمي والدولي والقبول بالإملاءات السياسية والاقتصادية والثقافية للدول المهيمنة. لست في إطار تفنيد بطلان تلك المزاعم ولكني آخذ بها لأنها أصبحت جزءاً من الأدبيات المتناولة في السجال السياسي الدائر بين مختلف أبناء الوطن سواء على صعيد المثقفين أو على صعيد الكوادر والقواعد الشعبية.
القوى الطائفية التي تشكل النخبة السياسية الحاكمة، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، لم تكن في أي يوم من الأيام معنية بإنشاء دولة حديثة بالمعنى المتفق عليه في مجمل الأدبيات السياسية المعروفة. صحيح أن تلك القوى ارتدت من وقت إلى آخر لباس الخطاب التحديثي وأدخلت في مصطلحاتها عبارات كـ«إلغاء الطائفية» و«مكافحة الفساد» و«تنمية متوازنة». لكن تلك المصطلحات ظلّت من دون مضمون يذكر أو آلية لتحويلها من شعارات إلى برامج سياسية واقتصادية واجتماعية فعلية. هناك الحقبة الشهابية القصيرة المدى التي حاربها تحالف «البيوت السياسية» لأن الرئيس الراحل فؤاد شهاب كان قد أقدم على خطوات ملموسة لتمكين الواقع الهش آنذاك للبنية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان ولتحصين ديمومة الوطن كياناً عبر إعطاء الانطباع أن الوطن لجميع أبنائه لا لفئة معينة أو منطقة معينة. لم يُكتب لتلك الحقبة أن تستمرّ، إذ سرعان ما تلتها حقبة معاكسة للتغيير بقيادات سياسية فاشلة ساهمت في ضرب مسمار في نعش الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان وأوصلت الواقع الاجتماعي إلى حافة الانفجار الذي سرعان ما حصل باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي ما زلنا نعيش تداعياتها حتى الآن.
ومن تداعيات ضعف الدولة المتعمّد غيابها عن المناطق المختلفة في لبنان، وخاصة في الجنوب والشمال، وغياب الخدمات الأساسية للمواطن، فضلاً عن أن الدولة الضعيفة رفعت إلى مستوى العقيدة المقولة التالية: «قوة لبنان تكمن في ضعفه». وبالتالي عجزت الدولة عن الدفاع عن الأرض والمواطن، وتقلّص دورها إلى توزيع المكتسبات السلطوية بين الزعامات الطائفية فقط لا غير. وإن كنت من الذين لم يتمنّوا في يوم من الأيام استبدال دور الدولة الرسمية التي تقوم بمهماتها الدستورية بدور لقوى منبثقة من المجتمع والواقع اللبناني. فليس من الغريب في الحالة المأساوية للواقع اللبناني أن تنشأ قوى من صميم المجتمع الوطني تملأ الفراغ السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلاّ الفراغ الأمني في الدفاع عن الوطن. أما الجيش اللبناني الذي أُعيد بناؤه بعد اتفاق الطائف على قاعدة سليمة من جهة العقيدة وتحديد هوية العدو الفعلي للبنان، فإن النخبة السياسية بالتفاهم مع القوى الإقليمية والدولية لم تقدم طوال الفترة السابقة وحتى هذه اللحظة على تزويد الجيش ما يلزمه للدفاع عن أرض الوطن، إضافة إلى فقدان تاريخي متعمّد لاستراتيجية دفاعية عن الأرض والمواطن. والجدير بالذكر أن التغيير الذي حصل في تصحيح عقيدة الجيش في الدفاع عن الوطن لا في الدفاع عن مصالح النخب الحاكمة كما كانت الحال قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ــ والفضل يعود بذلك إلى حد كبير إلى الرئيس إميل لحود وأكمله العماد ميشال سليمان ــ ذلك التغيير استطاع أن يستوعب الواقع الجديد الذي أفرزه ظهور المقاومة الوطنية وأن يبتدع أرقى الصيغ في التكامل في الأدوار بين الجيش والمقاومة في الدفاع والصمود وفقاً لمقتضيات المرحلة. هذه العقيدة أصبحت مستهدفة من قبل القوى الخارجية التي لا تريد أن تتجذّر ثقافة المقاومة في لبنان سواء عبر الجيش اللبناني أو عبر مقاومته الوطنية الشعبية. فهناك الدعوات المتكررة لتغيير تلك العقيدة شرطاً من بين عدة شروط لتجهيز الجيش بـ«أحدث المعدات والعتاد والتدريب». والخلفية الذهنية التي تستند إليها المطالبة بتغيير عقيدة الجيش هي العودة إلى البنية الطائفية المذهبية التي ستكرّس الانقسام المذهبي وتضعف قدرات الدولة على إنشاء المؤسسات الوطنية لحماية الوطن شعباً وأرضاً.
هذا هو الإرث المدمّر للمنظومة الفكرية التي سادت وما زالت تسود عقول النخب السياسية الطائفية المهيمنة في لبنان. وبالتالي أصبحت صدقية الذين يطالبون بدولة المؤسسات وينتقدون «الدولة ضمن الدولة» فارغة من أي مضمون. وإن مطالبة نزع سلاح المقاومة في ظل غياب الخطة الدفاعية المتفق عليها أصبحت المطلب الأميركي الصهيوني الذي لم يكن في يوم من الأيام يريد ويفكّر في مصلحة لبنان. بل حصل العكس عندما برهنت القوى الشعبية اللبنانية على قدرتها على الدفاع عن أرضها، فتعاظمت الدعوات الإقليمية والدولية والمحليّة للقضاء على ظاهرة المقاومة وبنيتها التحتية، وأهم من ذلك على ثقافتها المناهضة للخضوع لإملاءات العدو وحاميته.
من جهة أخرى، هناك إرث آخر للمنظومة الطائفية السائدة التي تساهم في استمرار الدولة الضعيفة، وهو وجود مؤسسات مركزية ضعيفة توجّه مسار الأمور، إلا أنها المصدر الرئيسي للريع الاقتصادي الذي يتصف به الاقتصاد اللبناني. فالامتيازات التي تمنحها تلك السلطة لمحازبي القيادات الطائفية هي التي «تصنع» الثروة وتوزعها على الموالين لها. والجدل القائم حول قيام «دولة حديثة» فيه الكثير من الالتباس، وخاصة أن الخطاب السياسي العائد له يتكلّم مرة ثانية على رفض وجود «دولة ضمن دولة»، في إشارة واضحة إلى حزب الله وسلاحه وما يمكن أن يكونه من قوة رادعة للاستئثار بمغانم السلطة لمصلحة فريق مهيمن وضمن قوانين اللعبة الصفرية. القضية هي في الأساس الصراع على السلطة وتقاسم مغانمها لا على مشروع دولة المؤسسات والقانون. فأمراء الحرب والمال يختبئون وراء مسألة نزع سلاح المقاومة لتثبيت مكانتهم ومصالحهم الداخلية والخارجية فقط لا غير، ولاستحقاق الدعم الخارجي لهم واستمراره. فكيف يمكن أن يثق المواطن اللبناني بأقوال زعمائه الطائفيين الإقطاعيين وأمراء الحرب والمال الذين تولّوا السلطة طوال سنوات «الوصاية» وساهموا في هدر أموال الدولة وفي تراكم الدين العام الذي وصل إلى مستويات قياسية؟ على كل حال، إن تركيبة النظام الطائفي هي المسؤولة عن تغييب دور الدولة والاكتفاء بمظاهرها فقط والتركيز على تقاسم السلطة.
* كاتب وباحث لبناني
اجزاء ملف "لالخروج من المأزق: خطاب عصري شامل":
الجزء الأول | الجزء الثاني