نسيم ضاهـر *
تزامن إجراء الانتخابـات الأحد 22 نيسان 2007 في دول ثلاث، اشتراعية في سوريا الجارة والشقيقة، رئاسية في فرنسا الأوروبية، وجامعة في نيجيريا، كبـرى الدول الأفريقية، والعُضو الفاعل في منظمة الدول المنتجة للبترول (أوبيـك) إلى خاصية دور كل من فرنسا ونيجيريا على الصعيدين الإقليمي والقاري، فان كلا البلدين يحتضن جالية لبنانية محترمة ويستوي مقصداً للمهارات والكوادر الشابة العاملة في مجالات تقنية عالية. تابع الإعلام اللبناني والعربي بتفاوت عميق الجولات الانتخابية الثلاث، وإذ تُعَدُّ الصحف والأقنية الفضائية مرآة عاكِسـة للرأي العام بخطوطه العريضة، فلقد سُجِّل اهتمام بالغ بالحدث الفرنسي، عبَّـرَ عنه حجم الرسائل والتحليلات والتعليقات ذات الصلة، فيما عرّجت الفضائية بالكاد على أخبار نيجيريا، واكتفت بالطفيف المنقول عن وكالات الأنباء، بينما لم يحظَ الاستحقاق السوري إلا ببعض الإثارة المبنية على تكرار المعلوم من توزيع المقاعد في مجلس الشعب عشية التصويت والتندر بالطابع الفولكلوري لحملات المرشحين ووسائل الدعاية المعتمدة. جرّاء هذه الصورة، لا مندوحة من التطرّق إلى دوافع هذه الظاهرة وبيان أسباب عدم تكافؤ تداول المسائل المطروحة، والإشكاليات التي يُثيرها في الحقل السياسي العام حيال الأسرة الدولية ومكانة مكوِّناتها من التوازنـات والحسابات المحلية.
أَولى الإعلام العربي التنافس في فرنسا صدارة التغطية، وتابع دقائقه وتفاصيله، مُجنَّدَاً من أقصى المغرب إلى قلب المشرق. ومردّ ذلك، بلا جدال، الاعتراف بوزن فرنسـا في العلاقات الدولية، من مجلس الأمن إلى الاتحاد الأوروبي، والروابط التاريخية التي تشدها إلى المغاربة، فضلاً عن تواصلها التاريخي مع الشرق الأوسط. وإذ يفترض بناء الشيء على مقتضاه، يتبدى زيف المقولات الرامية إلى تحجيـم العامل الدولي والزعم المُغالط بأن الدور الفرنسي دخيـل على المنطقـة يفتقد المقوِّمـات الصلبة والحيثية وينمّ عن نزوة شخصية (وأحقاد) عالقة بالرئيس شيراك، المُنتهية ولايته. واستطراداً، يمكن الجزم بقصور القراءة المبتسرة التي دأبت على محاصرة الدور الفرنسي والتشديد على أفوله واختصاره بمصالح تجارية مع الدول الخليجية طمعاً بأسواقها ونفطها، أو ربما بعقدة الأم الحنون الحاميـة لمسيحيي الشرق.
بالغ النقاد العرب مرتين، وأخطأ مناهضو فرنسـا المتحلقون حول محور طهران ــــــ دمشق بالقدر ذاته. سارعوا بادئاً إلى دفن الإشعاع الفرنسي، وفسَّروا موقع فرنسـا في المعادلات الدولية والإقليمية اعتباطياً، سواء من ألحقها تبعياً بقطار الولايات المتحدة، أو على نقيضـه، من أقعدها في خصام مديد بالسليقة مع الدولة الأعظـم. غير أنهم ارتكبوا خطيئة بائنة حين رموا ورثة تيار ديغول بسهامهم، ظناً منهم أن الكيدية كفيلة بتصفية تركة المآخذ الثقيلة على الأنظمة الشمولية والخلاص من نهج شيراك، فجاءت نتائج الدورة الأولى مُخيبة للآمال المعقودة من دون تمحيص ورؤية موضوعية لمواقف الخصم الاشتراكي. إلى ذلك، فإنهم، من حيث لا يدرون، قوَّضـوا جهود الجالية العربية بغية الاندماج في المجتمع الفرنسي، ورأوا في صوت الناخب من أصل عربي الفيصل في عملية الاقتراع، متناسين ردود الفعل الشعبية على الفئوية الصارخة وحساسيّـة ملامسة موضوع الأقليات وشغب الضواحي من زاوية تبسيطية، دينية، قائمة على الاختلاف تتجاهل التفاف عامة الفرنسيين حول قيم الجمهورية والعلمنة وتصالح المجتمع؛ ولطالما دفع الانحياز المسبق إلى ضلال الطريق وفقدان البوصلة.
الحريّ بنا التدقيق بكل المعطيات، بنزاهة وتجرّد، والإلمام بأحوال الشعوب ومعرفة مزاجها بمسؤولية وموضوعية. وكيفما اختلفت التقديرات على قاعدة المفاضلة والهوى السياسي، ثمة خلاصة مصدرها الشغف بمسار الانتخابات الفرنسية، قوامها أن ما يحظى به هذا الاستحقاق الدستوري من اهتمام عربي مباشر وعريض، يحمل في طياته معالم ود وملامح صداقة تخالف ذهنية التنميط والانغلاق.
أتـى الاهتمام بالانتخابات الفرنسية بريئاً من كل توجيه رسمي أو برمجة مقصودة. انسابَ طبيعياً بحكم منطق الأمور والتحسس العفوي بالروابط، وبالتالي، خالف القائلين بوصاية الدول الكبرى وتدخلها على وجه الاتهام، العاملين على نفي الدور المحوري لدولة كفرنسـا تحتل مقعداً دائماً في مجلس الأمن وتُعدّ قاطرة للاتحاد الأوروبي، ما يُخوِّلها للمشاركة النشطة وأهلية القرار في المؤسسات المنبثقة من كلا المنظمتين أو الدائرة في فلكهما. فعلى سبيل التعداد لا الحصر، يصعب إنكار إسهام فرنسا في صندوق النقد والبنك الدولي والشراكة الأوروبية، والهيئات المشتقة عن الأمم المتحدة في ميادين مختلفة من حفظ السلام إلى الإغاثة وحماية حقوق الإنسان والحفاظ على التراث، فضلاً عن رعاية الحوار الأورو ـــ متوسطي وعضوية اللجنة المصغرة المعنية بالمفاوضـات مع إيران. إلى ذلك، شاركت فرنسا طرفاً في تفاهم نيسان، وصياغة القرار 1701، وانضمت إلى القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان، قبل أن ترعـى مؤتمر باريس 3 على غرار سابقَيه.
تولي فرنسا العلاقات الثقافية عناية خاصة وترفعها بمثابة الرسالة، يُعرف منها التاريخي مع الدول المغاربية ولبنان. إلاّ أنها تفخر بصروح تشكل علامات فارقة لحضورها، مضافاً إلى جامعاتها وبعثاتها الأثرية، أخصها معهدا دمشق وطهران ومكتبة الإسكندرية، تشهد على تقليد ثابت وانفتاح على حضارات الشرق والحرص على الحوار معها. ولكونها لم تغفر لنفسها تاريخها الكولونيالي، غدت هذه المسألة موضوع مراجعة شاملة، أكاديمياً وأخلاقياً، ما هيأ إعادة الاعتبار لوجه مضيء من تاريخها ارتبط بالثورة الفرنسية وقيم الجمهورية ورصيد أفكار الحرية والدفاع عن المواطنة وحقوق الفرد. هذا بالضبط مصدر تمايز فرنسا عن الولايات المتحدة، حليفها المخلص في أوقات الحرب والشدّة، وصديقها ذي المراس الصعب والطاغي على المسرح الدولي.
فرنسا حاضرة في اللعبة الدولية بالمتوافر لها في المجال الجغرافي، وما تتيحه قدراتها العسكرية وصداقاتها (خاصة في أفريقيا)، وتسمح به تقنياتها وأحجام كبريات شركاتها في الميدان الاقتصادي وإطار العولمة. الجدير ذكره أن ديبلوماسيتها المتقنة استدعت تخصيص ضعف ما تنفقهُ شريكتها ألمانيا لرفد سياستها الخارجية، رغم أن موارد برلين تفوق عميقاً نظيرتها باريس. وعليه ليس بمستغرب جلوس فرنسا في مقعد قيادة السياسة الأوروبية (الجماعية) وإطلالها على مسرح الشرق الأوسط، الناقد للولايات المتحدة المؤيد للسلطة الوطنية الفلسطينية، والمتصادم مع دمشق بعد طول رعاية.
يختلف حال سوريا جذرياً عن فرنسا لجُملة اعتبارات. وحيثُ لا مجال لمقارنة الأوزان في الاقتصاد والسياسة العامة، بما لا ينال من دور سوريا الإقليمي (والمتواضع بالمعيار الدولي)، يلتفت المراقب إلى جوهر الانتخابات، أي محتواها والمغزى من إجرائها. الحقيقة أن الملمح المشترك بين العمليتين الدستوريّتين يقف عند عتبة الشكليات من دعوة للناخبين وصناديق اقتراع ولجان عاملة في مراكز الاقتراع. ما عداها، سورياً، من فضاء آخر، لا يمت بصلة إلى روح ومبادئ الديموقراطية. للدلالة، وحسب وزارة الداخلية في دمشق، استخرج ما يُناهز سبعة ملاييـن بطاقة انتخابية من أصل اثني عشر مليون ناخب، أي إن نصف المواطنين تقريباً، المسجلين على جداول القيد، غير مدعوين للمشاركة في استحقاق محسوم النتائج سلفاً، قائم على لوائح مُعلّبَـة.
يعزو وزير الإعلام السوري تصفية المرشحين المسبقة إلى مرحلة تمهيدية داخل الفروع الحزبية تشبه الانتخابات الأولية المعروفة في الولايات المتحدة. وفي مطلق الحال، يخضع إعلان نسبة المقترعين لمزاج وزارة الداخلية التي تفرج عن أرقام مُضخّمة، غريبة عن مجريات الحدث، بغية تزيين الموافقة الشعبية وإخفاء حجم المقاطعة. العبرة أن مجلس الشعب المُنتخب هو بالنهاية غرفة تسجيل ومصادقة على قرارات السلطة التنفيذية النابعة بدورها من استفتاء مشابه في ظل حالة طوارئ مُعلنة من عقود، وغياب (بل انتفاء) التنافس بالمطلق.
فقدت سوريا الرقابة الاشتراعية منذ زمن بعيد، واكتفت بهياكل مفرغة من وظائفها الأصلية، تطرب لأنشودة الإجماع تحت خيمة القيادة وتتفرّغ للطقوس الاحتفالية عوض الذود عن المبادئ الديموقراطية، بحجة التصدِّي للمؤامرات والظروف الاستثنائية. لـذا، يحار المرء إزاء سكوت المعارضة اللبنانية عن نكبة الحريات وقواعد التمثيل في بلدٍ جارٍ وشقيق، جمعتنـا به للأمس القريب وحدة المسار والمصير. فعملاً بالحكمة القائلة: «إذا ابتليتم بالمعاصي، فاستتروا»، تدفن المعارضة اللبنانية (كالنعامة) رأسها في الرمال، وتشيح بنظرها عن الجاري لدى حليفها، المناقض كلياً لتطلعاتها وشروطها ومطالبها.
كفى الله المؤمنين شرّ القتال. أهُنا نزع صفة الميثاقية والشرعية والدستورية والثلث الضامن والأكثرية «الوهمية» والانتخابات المبكرة تصحيحاً للخلل، وهناك جنة الحريات والديموقراطية، والمثال الذي يُحتذى به، وصخرة الصمود والممانعة. للأمانة لا تسير الأمور على هذا النحو، لأن الانتخابات في سوريا شكّلت وتشكل إحراجاً لحلفائها في لبنان، تماماً كما يُغالط هدوء الجبهة السورية وضبطها المحكم واجب المقاومة الأبدية ونظرية الخطط الدفاعية درءاً لعدوانية مقيمة على حدودنا دون سواها. أما سائر اللبنانيين، فهم على اجتماع عند هذه المحطة مع إخوانهم في المعارضة، يتحقق إجماعهم بالفعل حول سلوك شامل يُسدِل العتمة على انتخابات عقيمة لن تغير مقدار ذرة في الواقع السوري، ولن تأتي بجديد. اللبنانيون جميعاً، غير معنيين، وإن اختلفت أسبابهم ودوافعهم، أكانت بالمحصلة تسليماً بجمود ملازم للشموليـة، أو ازدراءً بتشوهات الديموقراطية أو حياءً من عورات الراعي والحليف.
إن التشبّه بالكرام فلاح. تلك الأمثولة المستقاة من العمليات الانتخابية الجارية أمام أعيننا بالصوت والصورة في غير بلد بنعمة وسائل الإعلام والنقل المباشر. وليس من حاجة لاستطلاعات رأي ونسب مناطقية ومعطيات رقمية، لمعرفة النموذج الأفضل الذي يختاره اللبنانيون ويتجانس مع ثقافتهم السياسية وتنوّعهم ويُلبِّي طموحاتهم ومقاصدهم. بيْـدَ أنّ الديموقراطية ممارسة حركية تراكم الإيجابيات والتجارب، وتغنى طرداً بمزيد من الحقن بالمنجزات والمكتسبات. فهي تشكو من عثار حيثما حطّت وليدة طرية العود، تحكمها البُنـى الاجتماعية، على مثال نيجيريا التي أرادت للانتخابات أن تكون تعبيراً عن التعددية، وغلبة للحزب الحاكم في الوقت ذاته.
انهالت الطعون في لاغوس، وشكّكت الهيئات المراقبة بنتائج الانتخابات ــــــ وهذا ما لن تشـهده دمشق ــــــ لكن قطعت نيجيريا خطوة أولى في رحلة الألف ميل. فما من أعجوبة منتظرة في بلد عانـى تمزّقاً داخلياً مديداً، وما زالت تلفه النزاعات العرقية والقبلية والطائفية. لذلك طوت الانتخابات صفحة من تاريخ بلد أفريقي كبير عائم على النفط، ولم تحسن الأداء والإيفاء بمعايير النزاهـة وحيادية السلطة.
وحيثُ تأتي النتائج تبعاً للمُسبِّبـات دفعت نيجيريا ضريبة أفريقيا المزمنة وحالت هشاشـة الديموقراطية النيجيرية دون اهتمام العالم الواسع بها، يراقبها مُبالٍ ولا يُعـوِّل على صدارتها ومثاليتها. بالمؤازرة لم تخوِّل النعمة النفطية والثقل السكاني جمهورية نيجيريا الصاعدة احتلال مركز مرموق في الأسرة الدولية ومحافلها بعد، لأن مقاييس ثروة الأمم ومكانتها تبدَّلت وباتت رهناً بمقومات الاقتصاد الحديث والتفوق العلمي والتقني في المعاصرة. دخلت نيجيريـا قاموس السياسة وبانتْ على خريطتها، فحازت تغطية محدودة عالمياً (باستثناء المجال الأنكلو ــــــ ساكسوني ربما) على صورة حضورها ومقدار نفوذها دولياً. ولأن نصيب لبنان من التحوّلات في نيجيريا خارج هذه المعادلة بعامل الاغتراب والجالية المُقتدرة، يؤسف أن التعاطي معها محلياً لم يتعـدَّ السطحية ونتفاً من وكالات الأنباء. تستأهل نيجيريا لفتة ضنَّـتْ بها عليها السياسة في لبنان.
* كاتب لبناني