جورج خوّام *
«أليس فيكم حكيم، ولا واحد...؟»
هذه كلمات بولس الرسول، اقتطفناها من خطابه الذي بعث به إلى أهل كورنثس لنصدّر بها مقالتنا هذه. كلمات تدوّي تحت يراعه، على مسمع الجماعة المسيحيّة هناك، وقد عصفت بها رياح الشجار، وتأكّلتها أنياب النزاعات، فكادت تطيحها إلى غير عودة. دبّ الخلاف في وسط المؤمنين، واستفحل الأمر جدّاً بين ظهرانيهم، واستحكم العداء ثمّة بين أبناء الوطن الواحد، فتنادوا أمام المحاكم، وتفرّقوا على تباغض، وعادى بعضهم بعضاً آخر. لم يطمئن بولس إلى ما آلت إليه أحوال الكنيسة في كورنثس، فكتب يوبّخ الجماعة على تشرذمها، وتناحرها، وتداعيها المشؤوم، ويدعو إلى نبذ ما يفرّق أبناءها، سائلاً عن حكيم بينهم، واحد، يعيد اللحمة إلى نسيج الجماعة. قد لا نبالغ لو وجدنا كورنثس وما حلّ بها، في لبنان وما نزل به. وقد لا نُرَدّ بخيبة مُرَّة تعتصر قلبنا، لو أصاخ رؤساء قومنا إصاخة أشراف كورنثس إلى كلام رسولهم بولس. فهل تفيد الموعظة أهلها؟ أم نقول: ليت ساعة مَنْدم!
في لبنان، اليوم، أكثر من وعيد زوبعة عاصفة، والجميع يعلم بها، والجميع مهدَّد بها! ولكن، من يتداركها؟! ومن يدرأ عنه وابل دمارها؟! ومن يحرّك ساكناً كي يقي شرّها أبناءه؟ وفي لبنان، اليوم، خطر محدق، وشرّ مقيت! في لبنان، اليوم، توجّس، وحذر، وخوف على مصير! ولكن، من يعبأ؟! ومن يبادر؟! ومن يغيث؟! في لبنان عداء، اليوم، ووعيد، حقد يوغر الصدور، وتحفّز وثّاب! ولكن، أين الحكيم؟! أين الرجل؟! وأين الفقيه؟!... أين من عَدَل في كلامه، ومن سالم في خطابه، ومن رشد في تصريحه؟! في لبنان، اليوم، نزاع، ونزال، وسباب! ولكن، أين الحِلْم، والعِلْم، والرزانة؟! في لبنان، اليوم، تظلُّم، وتأفُّف، وتضجُّر، وتململ! ولكن، هل من سامعٍ بحقّ، ومن صادقٍ بوعد، ومن واعدٍ بصدق، ومن حليف؟! في لبنان، اليوم، مواقف على المنابر، وتعالٍ في الحناجر، وتقاذف، وتهتُّر، وتهكُّم، في أغرب المناظر وأشدّها استهجاناً! ولكن، أعَنْ حقّ، وإيمان، ورفعة قدر، ووقار؟! في لبنان، اليوم، تأهُّب للمستباح، وتأجُّج بلا ضابط يكظمه، وغليانٌ غير منتظم! ولكن من تفطّن لمحاذيره، ومن عمل على ردعه، ومن تخلّق بأخلاق ليصرف عنه أهله؟! وفي لبنان، أخيراً، شَهْرٌ للمبادئ، وتَشَدُّق كثير بالمناهج، واستنباطٌ لرؤى وأفكار، ولكن، أفي وئام واتّفاق واستئناس؟!
إنّ علّة العلل التصادق مع الداء، وأكثر الناس غباءً الجاهل، وشرّ البليّة التعنّت. أمّا انصراف المرء عن ذاته فمرضٌ عضال، ذلك بأنّ الإنسان جبلةٌ من تراب وروح، يتوسّطهما العقل ميزاناً عدلاً، وحَكَماً رشيداً، إنْ خبا وَهْجُهُ تاهَتْ جبلة الإنسان، وإنْ حَصُف سَمَتْ، إنْ أسْلَم العقلُ مَلَكته إلى سلطان حواسّه سارَتْ به إلى الهاوية، وإنْ أمسك عن اتّباعها ارتقى بها سُدّة الشرفاء. العقل مزية في الإنسان، إنْ فُقِد سَفِه المرء، وإنْ حَذَق أدرك الحكمة. بالعقل يَعْظُم إيمان المؤمن، وبالخَبَل يُفْسِد الإنسان في الأرض. لا عقل للبهيمة يردعها إذا بطشت، أمّا المدجَّنة فترعوي عمّا يأباه صاحبها. العقل هدى، ضاع عنه المفتَتَن، وسلاحٌ يُصرَع به صاغراً خنوعاً. في العقل الرويّة، والإنس، والميل إلى السِّلْم، والبِشْر، والرغبة عن الفتك بصاحب، أو عن التجنّي على جار، فكم بالأحرى على أخ، إنسان، وشريك في الوطن! ضحيّةٌ هو الإنسان العاقل عند من لا يعقل، لأنّ العاقل يحتكم لخُلُقٍ كريم، والذي لا يعقل يستبدّ بلا رادع. ضحيّةٌ هي جمهرة المتبصّرين عند من لا باصرة لهم، لأنّ المتبصّر يعرف مآل الأمور، والمكفوف يسير على غير هَدْي. ضحيّةٌ هو فريق الفقهاء، والعلماء، ودعاة التهدئة، والعقلاء، عند فريق من الجيّاشة، والموغرين الصدور، والمهوّلين. رأيت ما لا يُعقَل عند بني أمّتي، وخبرت ما لا فطنة فيه، ولا حصافة رأي: يصيخون بآذانهم لمن يُذْكون الفتنة، وعمّن يرشدون، ويهدون، يرتدّون. يُشيحون بأبصارهم عن مجالس الفكر، والسَّداد، وإلى مجال المداهنة يميلون. ما الذي دهاهم، ويحهم، وما الذي خرّب أذهانهم؟ لا، ليسوا على ما فُطِروا عليه، ولا على ما دُعُوا، أبناءُ وطني!
في آونةٍ آسِنة، كالتي نأنسها اليوم، عند إنسان اليوم، وفي لبنان اليوم، ترى الـــــــــناس قد صُفِعوا على عقولهم. يهبّون عند أوّل هتاف، ويزجّون أنفـــــــسهم في الوغى عند أوّل إشارة، ويعتمرون البأس لدى طرف بنــــــــان من زعيم، وكأنّ مَلَكاتهم أُقيلَت عن عروشها في الـــــــــرؤوس! أين التعقّل من انقضاض المرء على صاحبه؟ وأين الخجل من مقارعة الندّ قَدْحاً وذمّاً؟ أين مروءة الرجال الساسة؟ أفَقَد التـــــــسامح معناه؟ وأمسى الصفح عيباً؟ والإيمان تلهّياً بالعُلْويّات؟ هــــــل صار النصح إلى هباء؟ والموعظة الحسنة إلى خواء؟ أترى الناس زاغت عن الحقّ؟ وأدعية المصلّين احتبست في الأحشاء؟ أما من خـــــــــشيةٍ لله في القـــــــــلوب؟ ومن خشوع وهيبة يتّقي بها الإنسان الله؟ ألا يعلم واحدنا أنّ لأخيه عليه حقّاً؟ وأنّ ما يصيب أخي من مكروه أغتمّ له أنا؟ وأنّ من غير العدل، والحقّ، والصدق، والإيمان، الكيدُ، والطعنُ، والتـــــــــشفّي، والنِّكال؟ أنرضى قَلْبَ ظهر المجنّ على عقبه، ونحتميَ به من غائلةٍ تتربّص؟ أم نصفّق مسعورين أمام خطاب، يحمل الخَطْب إلى أهلنا وأُسَرِنا الهانئة؟ أنتخاطب بالشجار، ونتواعد بالوعيد، ونكيل بالتهديد أحاديثنا أرطالاً؟ أنستقوي بالحديد وقد أودِع عندنا، بل زُوِّدنا به، لا بل رُحْنا نبحث عنه، حتى يُسمَع صوتنا لدى أخٍ لنا في المأكل، والمسكن، والوطن، والمعشر؟
ليست هذه من شِيَمنا، ولا في هذه أخــــــــلاقنا، وليت هجرها ومبارحتها يكونان في أسرع وقت!
حرام! ــ إن كان للّفظ بعدُ مدلوله، يصدح في نفوس السامعين. حرام ما يجري في وطني، وعلى أيدي بني أمّتي، وفي يوم شبيبتي، وفي غد أطفالي! وحسرةٍ على يوم! ـ لو بقي للّفظ دَوِيّ، يطنّ رخيمًا بين ضلوع المسؤولين ـ قد حباه الله نفساً، فلم تُفِد منه لآخرتها صنيعاً حسناً.
وأسفٍ على امرئ، لم يسوِّ للرحمان سبيلاً إلى قلبه! ألا فَلْيرتشد القادة، وليفسحوا في معاقلهم ومجالسهم أمام التآخي سُبُلاً، حبّاً وإخلاصاً لضعفاء افتقروا. وَلْيتحلّوا بالشجاعة الصادقة، التي تُغَلِّب الحكمة على النزعة، والنعمة على النقمة. وَلْيَتجمّلوا بالصبر على خلافاتهم، فإنّ الله يحبّ الصابرين! وَلْيتباروا في أن يكون أحكمهم آمنهم إلى إحلال المودّة والسلام، وأتقاهم عند الله أقربهم إلى مرضاته!
* مدير معهد القديس بولس للفلسفة واللاهود