محمد شقير *
في الأيام الصعبة يكثر الحديث عن الفتنة، حتى أصبحت هذه الكلمة من أكثر الكلمات تخويفاً وتنبيهاً للمواطن من ارتكاب جملة من الأعمال أو الانزلاق إلى جملة من التصرفات تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه، وهو ما يستلزم منا الحديث في فقه الفتنة وأسبابها وسبل علاجها وأهم السمات التي تميزها، حتى يكون المرء عارفاً بها ممتنعاً أمامها، فيمسي فيها كابن اللبون لا ظهراً فيُركب ولا ضرعاً فيُحلب.
قد تُعرّف الفتنة بأنها المحنة التي تغر الإنسان، فكل محنة أو ابتلاء يبلغان من الشدة ما قد يؤدي إلى انحراف الإنسان أو إضلاله تسمى الفتنة، وإن أمكن أن يكون للفتنة مؤديات ــ على مستوى النتيجة ــ قد لا توصف بالسلبية، وهي بذاك المعنى قد يكون لها طابع فردي، فتكون فتنة فردية، وقد يكون لها طابع جمعي فتكون فتنة جمعية، وإن كان الاستعمال الغالب للفتنة هو في طابعها الجمعي.
وتماشياً مع الغالب من الاستعمال لتعبير الفتنة، سوف يكون معناها المحنة والبلاء اللذين يصيبان المجتمع، واللذين قد يكون لهما نتائج ومؤديات خطيرة من قبيل الضلال أو الانحراف أو مخالفة الدين والعقل والحكمة، أو قد يكون لها نتائج مختلفة إذا ما عمل على وعيها وفقه أسبابها وسبل علاجها.
وعطفاً على ما تقدم سيكون من المفيد الإشارة الى بعض سمات الفتنة ذات البعد الاجتماعي، حيث إن من أهم سماتها أنها تراود الهوى، وتستنفر الانفعال، وتستفز العصبية، وتقيّد فعل العقل والإدراك والروية، وتدفع في اتجاه مخالفة الشرع والدين والقانون والعرف، حيث قد يصبح السائس والقائد الغضب أو الهوى أو العصبية، بعيداً من الحدود والضوابط التي يفرضها القانون أو العرف أو تدعو إليها القيم والأخلاق.
ومن سماتها أنها بإثارتها للانفعال وقمعها للعقل، تعمل على خلط المفاهيــــــــــــم، وقلب الحقائق، والتعتيم على الوقائع، وتزييف الأدلة، ما يؤدي الى إثارة الشبهات ــ أي الباطل الذي يسعى للتشبه بالحق ــ حتى ليعتقد الكثيرون أن الحق هو الباطل، والباطل هو الحق، وأن الصحيح هو الخطأ والخطأ هو الصحيح، لأنه في ظـــــــــــل الفــــــــــتنة وانعدام الرؤية، سوف يشتبه الحق بالـــــــباطل حتى يعد الحق باطلاً والباطل حقاً، وهذا ما يسمح لأهل الفتن والأهواء بتمرير الباطل بلباس الحق، وإظهار ما هو منافٍ للدين والقيم والعقل بلباس الحكمة والعلم والشرع.
أما أسباب الفتنة فأهمها الأهواء والميول غير السوية في الطبيعة الإنسانية، أي ذلك الميل الكامن في الطبيعة البشرية الى التغلب والسيطرة والشجع والاستحواذ والهيمنة، بطريقة لا تعرف حدوداً في دين أو عرف أو قيم، ما يؤدي الى إيجاد بيئة اجتماعية مناسبة لاجتماع الفتنة ونموها، لأن أي فعل نحو التغلب والسيطرة وما سوى ذلك، سوف يؤدي الى التصادم والتناحر الذي قد تُستخدم فيه كل الأسلحة وخصوصاً سلاح الكلمة والإعلام الذي سوف يستثير العصبيات والمفردات التي يعتقد اجتماع الفتنة أنها تقوّي موقفه وتدعم جبهته، بما فيها تشبيه الباطل بالحق وقلب الحقائق وتزييف الوقائع حتى يضيع الحق على كثير من الناس.
يقول الإمام علي (ع): «إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تُتبع، وأحكام تُبتدع، يُخالف فيها حكم الله، يتولى فيها رجال رجالاً، ألا وإن الحق لو خلص لم يكن اختلاف، ولو أن الباطل خلص لم يخفَ على ذي حجى، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيمزجان...».
وبالتالي فإنه ومن خلال مزج الحق بالباطل والباطل بالحق، يعمل على إقحام كثير من الناس في طاحونة الفتنة، لتخدم أهواء قوم قد ضلوا وأضلوا، ومصالحهم، ونهمهم للتسلط، وجنوحهم النفسي إلى الهيمنة والإثرة والإثراء، وكل ما يراود ميولهم الغريزية. إن سعاة الفتنة يلجأون إليها، عندما يرون فيها سبيلاً إلى تحقيق مصلحة، أو الوصول إلى غاية شخصية، ولذا لا يضيرهم ان تكون الفتنة مطيّة لأهوائهم، سواء اكتست لباساً مذهبياً أو سياسياً أو عرقياً...
ليس ذلك مهماً، فالفتنة تحتاج إلى بيئة مناسبة، وبيئتها كل اختلاف يتسع لبذور الفتنة، وهي تحتاج الى مادة، ومادتها من يرضى أن تقوده الشائعة ويسوسه كلام الفتنة وخطاب الفرقة.
وعليه فإن الأهواء ــ بما هي جذر نفسي لفعل الفتنة ــ تتجلى في اجتماع الفتنة، على شاكلة أحكام ومواقف وأفكار، تحالف في جوهرها منطق الدين والعقل والقيم، وإن أخذت لنفسها لبوساً آخر يجعلها أكثر مقبولية.
ولذا منطق الفتنة يتوسل التعميم، والانفعال، والضبابية، وخلط المفاهيم، بما يسهم في إتاحة الفرصة لتسلل جملة من المفاهيم والأفكار، التي تحاول أن تلبس لبوس الحق والعقلانية، من أجل جذب العدد الأكبر من جمهور الفتنة، ليكون طعمة لنابها ووقوداً لنارها.
من هنا فإن الوقوف عند أسباب الفتنة، يتيح لنا معرفة السبل التي تمكن من علاجها، حيث يجب أن ينصب العلاج في بعده الأخلاقي على معالجة الأهواء والميول النفسية غير السوية المؤسسة لاجتماع الفتنة، حيث يقول الإمام علي (ع): «اعلموا أنه من يتّقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن». أما المعالجة في البعد الاجتماعي، فيجب أن تنصب على التخفيف ما أمكن من منسوب الانفعال، والولاءات العمياء، والعصبيات الجوفاء، والتعميمات، والشائعات، واللجوء ما أمكن إلى منطق العقل والعقلانية، والعمل بأحكام الدين والقيم، واعتماد الحوار والتروّي، والابتعاد من التهمة، ومن إثارة أي غبار طائفي أو مذهبي أو سياسي أو عرقي، يعمل على حجب الحقائق وإخفاء الواقع.
إن تهيئة الظروف إعلامياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً لإعمال العقل، ونفوذ البصيرة، والعلم، ولفعل الضمير والقيم، يسهم إلى حدٍ بعيد في عصمة المجتمع من شرك الفتنة، وهنا لا بد من تأكيد الوعي وثقافة الوقاية من الفتنة، يقول رسول الله (ص): «ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، إلا من أحياه الله تعالى بالعلم»، وإن كانت بعض علاجات الفتنة، قد تتجاوز أحياناً العلاج الوقائي إلى العلاج الاستئصالي، وخصوصاً عندما تكون هذه الفتنة كفتنة العدوان والاحتلال، فيأتي عندها القتال والدفاع وسيلةً وحيدةً لدرء الفتنة والمنع من استفحالها، وهذا معنى قوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»، لأنه في بعض الحالات يصبح القتال الوسيلة الوحيدة لبيان الحق، والدفاع عنه، ولحماية الأرض والعرض، والذود عنه، فهنا يصبح القتال دواء الفتنة وعلاجها.
* استاذ جامعي لبناني