علي الشامي *
عندما أعلن جورج بوش الأب ولادة النظام العالمي الجديد، في أعقاب «عاصفة الصحراء» أو حرب تحرير الكويت عام 1991، ساد اعتقاد زائف وعابر أن عالماً جديداً بدأ يتشكل ويبشّر باستقرار عالمي حالت دونه الحرب الباردة والنزوع التوسعي لبعض الديكتاتوريات.
أما وأن تعيد الولايات المتحدة الأميركية بناء نظام جديــــــــــــــد للعالم تحتل فيه مكانة القطب الأوحد والواحد، مركز القرار السياسي الـــــــــــدولي ومسقط رأس الانتصار المزدوج للديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية، ففي ذلك إرهاصات لما ستؤول إليه أحوال العالم في ظل القطب الواحد، وهي إرهــــــــاصات كانت، ولا تزال، تنذر، وبعكس ما كان مأمولاً، بقيام نظام عالمي تسوده شرعية الغاب.
والإشارة جاءت منذ إعلان ولادة هذا النظام وعلى لسان الرئيس الأميركي نفسه، بعد استعراض دموي للقوة وإرغام طيف واسع من الدول على الانخراط في هذا الاستعراض وفي الرضوخ لقيادته، في القرار والوسيلة والهدف.
لم تتأخر هذه الإرهاصات في الظهور الواحدة تلو الأخرى، وجميعها تتناقض مع خطاب التبشير بالسلام العالمي والازدهار الاقتصادي وتكافؤ الفرص وانتهاء الحروب والأزمات وتلمّس كيفية العيش بوئام في هذه القرية الكونية الواحدة. ومن البديهي القول إن مضامين هذا الخطاب لا تستقيم في ظلال قطب واحد ترى إليه الأقطاب الأخرى مصدراً للشك والقلق، وإن ارتكازه الى تفوق أميركي في موازين القوى الدولية يتضمن رغبة جامحة في استخدام القوة بهدف تأمين السيطرة وتحصيل مردودها الاقتصادي والسياسي. وبالتالي فإن العالم سوف يشهد مع ولادة هذا النظام وفي ثنايا ذلك الخطاب اعتماداً لا سابق له على وسائل القوة، العسكرية بالدرجة الأولى، ليس فقط ضد المعترضين على الأحادية القطبية، بل أيضاً ضد الذين يفكرون أو يخططون لمقاومة هذه الأحادية في يوم من الأيام.
وفي هذا السياق تندرج الحروب الاستباقية والحروب على الإرهاب ومقولة الدول المارقة ومحور الشر، وهذه كلها أمور حدثت وتحدث منذ ولادة هذا النظام العالمي الجديد، إلّا أن أخطر ما فيها أنها ترافقت مع تكاثر الفتن التي انتشرت كالفطر وحطّت رحالها في كل منطقة من العالم كان القطب الواحد يعتبرها هدفاً للسيطرة ووضع اليد على القرار والثروات الطبيعية والأسواق.
وهذا يعني أن الفتنة المتنقلة من بلد الى آخر لم تكن سوى وسيلة من وسائل بلوغ هذا الهدف، وواحدة من أنجح آليات السيطرة من دون الحاجة الى استخدام القوة المباشرة، وهكذا شهدت مرحلة التسعينيات من القرن الماضي جميع أنواع الفتن الأهلية في المناطق الموضوعة ضمن بنك الأهداف الأميركية. قد تكون هذه الفتن تطبيقاً لنظرية الفوضى البنّاءة قبل إعلانها، وقد تكون تعبيراً عن أزمات كانت مكبوتة في مرحلة الحرب الباردة، إلا أنها وفي جميع أشكالها لم تظهر الى العلن إلا في اللحظة الأميركية المناسبة. ولا يعني ذلك أن الفتن لا تشكل انفجاراً لأزمات كانت مكبوتة أو صراعات كانت مستترة، بل على العكس، فالفتنة لا تنمو في فراغ، إلّا أنها بالتأكيد لا تصبح دموية وبنيوية إلا برعاية خارجية تعرف مكامن الضعف وأعماق التناقضات وتمتلك وسائل إخراج أو إيقاظ الفتنة من سباتها، وتعطيها الوجه الملائم.
وهكذا يتصدّر الوجه القومي، ببعديه العرقي والديني في فتنة البلقان، ويطفو الوجه المذهبي في فتنة باكستان، والقبلي في راوندا، والعنصري في أوروبا، وعلى هذا المنوال عرف العالم في التسعينيات عشرات الفتن ومئات الآلاف من الضحايا، وعرف عشرات أخرى كانت أقل دموية ويجري التخطيط لتحويلها الى دموية في اللحظة المؤاتية، كما هي الحال في إرهاصات الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة بشكل عام، والعربية الفارسية بشكل خاص، أو في الاقتتال الأهلي المتعدد الولاءات كما يحدث في العراق وفلسطين وما ينتظره الأقباط في مصر وقبائل دارفور في السودان والطوائف والمذاهب في لبنان وسوريا والخليج...
هل هي صدفة تاريخية أن يأتي انفجار هذه الفتنة وشمولها الأديان والمذاهب والأعراق والقبائل في رحاب نظام عالمي جديد تقوده أميركا؟ أم هذه القيادة أصبحت قابلة عالمية لتوليد الفتن على أنواعها؟
إن وضع الفتنة، مهما كان نوعها ووجهها الظاهر، في سياقها التاريخي يشكل مدخلاً منهجياً وعلمياً لفهم آليات انفجارها ووسائله ومجرياته ونتائجه. ولا يخرج خطاب الفتنة المنتظرة في لبنان عن هذا السياق، وهي، إن حدثت لا سمح الله، سوف تحاكي مثيلاتها في انشدادها جميعها الى خيط واحد ينتهي عند الطرف الذي يملك وحده سرّ الانفجار وغاياته المرحلية والاستراتيجية.
وكما بات معلوماً لدى الباحثين في التاريخ اللبناني الحديث والمعاصر، فإن كل فتنة في لبنان كانت تقوم، ولا تزال، على منازعات أهلية تديرها وتصنع خواتمها قرارات خارجية. وبعبارة أخرى، فإن جميع المنازعات الأهلية اللبنانية لم تصل الى مستوى الفتنة الدامية أو الحرب الأهلية إلّا بقرار خارجي، فهي لا تبدأ وتتواصل وتنتهي إلا بقرار خارجي، من دون أن يعني ذلك أن الخارج يخترع تناقضات الداخل، بقدر ما يعني أنه يغذّيها ويمدّها بوسائل الانفجار والاستمرار ما دامت تخدم أهدافه، سواء أكانت هذه الأهداف محصورة بلبنان أم تعتمده ساحةً لتصفية حسابات وتحقيق أهداف في أمكنة أخرى.
وفي هذا السياق ينبغي وضع الخطاب المروّج للفتنة الطائفية والمذهبية في لبنان، وهو الخطاب الذي يعلي من شأن المنازعات الأهلية الراهنة من أجل تورية الأهداف الخارجية الضاغطة.
وبالتالي فإن خطاب الفتنة لن يكون بعيداً من خطاب القطب الأميركي الأوحد وإصراره على إجهاض كل ممانعة تهدّد استراتيجية سيطرته على المنطقة كلها.
ويمكن القول إن خطاب الفتنة في لبنان يقوم على ركيزتين: الأولى تستهدف التجاوب والانصياع للقرار الأميركي في سعيه الى إحكام سيطرته أو تخفيف أزماته على حدّ سواء، الأمر الذي يضع الخطاب وأصحابه في قلب المشروع الأميركي برضاهم أو رغماً عنهم، إذ من دون الدعم الأميركي المباشر واليومي وفي الميادين كافة، لا يمكن أصحاب الخطاب النجاح في الوصول الى الهدف الداخلي المستند الى الركيزة الثانية القائمة على نزوع غير مسبوق الى الغلبة والاستئثار بالسلطة.
فالركيزة الثانية تتغذّى من الركيزة الأولى ويُتوسّلان معاً من أجل السلطة، أما بقية مفردات الخطاب فلا تتعدى كونــــــها تفاصيل قابلة للنقاش، إذ يبقى الجوهري هو انتهاز الفرصة الدولية ـــ الأميركية من أجل ترسيخ الغلبة في مواجهة المعترضين عــــــليها، حتى وإن تطلّب الأمر الخروج عن كل ما هو مألوف في المنازعات الأهلية، بما في ذلك إعادة النظر في الهــــــــوية الوطنية والعروبية والعيش المشترك والعداء لإسرائيل، وأكثر من ذلك إعادة النظر في وحدة الوطن والدولة وتسهيل سبل الفدرالية والتقسيم وما في معناهما.
وقد جسّد هذا الخطاب مأزق القائلين به منذ بدء تحريضهم على الفتنة. صحيح أنهم يستندون الى ركيزتين مهمتين: السلطة في الداخل والدعم الخارجي اللامحدود، وما هو صحيح أكثر أن خطاب الفتنة يكشف، على الأقل في تفاصيله المتناقضة، مأزقاً يصعب تجاوزه. وبالتالي فالفتنة، إذا حصلت، لن تكون سوى الوجه الدموي للمأزق نفسه، أي للعجز عن فرض الغلبة وفق موازين القوى الداخلية.
وهنا بالذات تكمن القدرة على وأد الفتنة. فالذين يملكون قرار تفجيرها لا يملكون قوة حسمها، والذين يملكون قوة الحسم لا يريدونها بل إنهم يعملون على منع انفجارها على مدار الساعة. وبالتالي فإن خطاب الفتنة، وبخاصة الفتنة المذهبية، يفتقر إلى القدرة على تحويلها الى أمر واقع، الأمر الذي يحــــــــــيل أمرها، مرة أخرى، عــــــــــــلى الحليف الخارجي. وفي كل الأحوال، لا تصنع الفتنة وطناً ولا تنتج سلطة، والعراق مثال حيّ وراهن ودموي. ومن اللبنانيين من يتعلّم الدرس العراقي ومنهم من يريد استنساخه، والعاقبة للمتقين.
* باحث وأستاذ جامعي