خليل حسين *
ثمة ثوابت في التركيبة الاجتماعية ــ السياسية في لبنان جعلته يوصّف بالفرادة، وبصرف النظر عن الإسقاطات السلبية أو الإيجابية لهذه الفرادة، إن وجدت، فإن بعض مظاهرها السلبية ومنها الفتن بأشكالها المتنوعة والمتعددة سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم بين فئاته وتجد مرتعاً خصباً في مخيلة الكثيرين من السياسيين لتداولها والتحذير منها، في الوقت الذي تكون فيه أدواتها وعدّتها فاعلة على الأرض ولا يجد من يديرها صعوبة تذكر في جرّ نفسه قبل غيره إليها، على أن ذلك الوضع لا يعني بالضرورة الاستسلام لذلك الواقع وعدم مواجهته. فماذا في الفتنة وما هي أهدافها وبالتالي شروط نجاح وأدها؟
في لبنان، كما هو معلوم، سرعة تداخل القضايا الوطنية بالطائفية، والسياسية التفصيلية بالمذهبية، بحيث يصعب فصلها ودرء آثارها ونتائجها. فالفتن الكبرى في لبنان حتى قبل ظهوره كياناً سياسياً، أدت بمجملها إلى تكريس ما يشبه الأعراف وحتى القوانين ضمن الشرائح الاجتماعية ــ الطائفية وبات لزاماً على من يقود هذه الجماعات ويؤثر فيها مراعاة هذه الأنظمة بتفاصيلها الدقيقة باعتبارها مدخلاً لتكريس وجودها وقوتها وقدرتها في محيطها بمواجهة الآخرين، وشرطاً لازماً لبقاء هذه القيادة في مواقعها الفارقة بهدف تكريس كاريزما توارثتها بفعل إدارتها للأزمات الكبيرة المتلاحقة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر.
وعليه يمكن التوكيد والتأكيد على العديد من الملاحظات في هذا المجال وأبرزها:
ــ إن عدة الفتن وأدواتها ليست بالضرورة نتيجة للتناقضات الاجتماعية ــ الاقتصادية أو السياسية ــ الطائفية المحيطة بالمجتمع اللبناني فقط، بل هي موجودة أيضاً في ذهنية ونوعية بعض القيادات السياسية المؤثرة في جماعاتها وفئاتها، ودليل ذلك أن توافر شروط تجميد الأزمات أو إيجاد بيئات تسووية لها سرعان ما تنسحب على علاقة هذه الجماعات بعضها ببعض بل تلاشيها بسرعة.
ــ إن إيقاظ الفتن في لبنان لم يكن يوماً بداعي حب التقاتل والفتك بين المجموعات بقدر ما كانت وسيلة لتحقيق أهداف داخلية ذات أبعاد خارجية واضحة، وغالباً ما كانت الجماعات اللبنانية تنقاد إليها عن وعي على رغم مخاطرها وأكلافها الباهظة على لبنان قبل كلفتها المدمرة عليها كأدوات تنفيذية لهذه الفتن.
ــ إن غريب المفارقات في لبنان أن جميع الفتن انتهت على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، وكأن قدر اللبنانيون أن يبقوا وقوداً لأزمات وفتن أخرى مقبلة كل عقد ونيف من الزمن. وهنا لسنا من دعاة التحريض على جماعة ضد أخرى بهدف كسر عظام فئة معينة أو غيرها، بقدر ما أن هذه القاعدة من الحلول غالباً ما تكرِّس سوابق لدى من يديرها، مفادها أن أياً من الأماكن التي يمكن أن تصل إليها الأمور فإن موقع جماعته وموقعه هو في الحفظ والصون، وهو أمر من شأنه تشجيع وتكريس هذا النمط من السلوك في التعاطي الاجتماعي بين مختلف فئات الشعب اللبناني.
ــ إن ظروف وأسباب ومسار وإدارة ونتائج الفتن في لبنان كانت متطابقة إلى حد بعيد، إذ من الصعوبة بمكان عند التدقيق في كل منها إيجاد اختلافات تذكر حتى في تفاصيلها، ما يعني أمراً من اثنين، إما أن يكون اللبنانيون عاجزين فعلاً عن قراءة وفهم ما يجري بينهم وحولهم، وإما أنهم قد استساغوا وأفرطوا في لعبة استنزاف الذات وصولاً إلى معاودة استجداء الحل الخارجي الذي يعــــــــــيدهم إلى نفس القاعدة السالفة الذكر.
ــ لم يعد في مقدور القارئ لتاريخ لبنان التمييز بين مفاصله الأساسية والتسويات التي أدت إليها، وفي مجملها تداخل واضح بين أهداف الأدوات الداخلية وغايات الأطراف الخارجية.
ففي المراحل السابقة للكيان كما بعده وبخاصة الحقبة «الاستقلالية» ثمة تزاوج غير قابل للفكاك أو الطلاق، بين عدة العمل الداخلية اللبنانية وأبرزها «الفتن» وبين أهداف وغايات الأطراف الخارجية المغذية لهذه العدة، الأمر الذي يؤكد فعالية التأثير الخارجي في العامل الداخلي ما يولد في العادة تسويات غير قابلة للحياة لفترات طويلة، وجلّها مناسبات لالتقاط الأنفاس وانتظار متغيرات جديدة تعيد إنتاج أدوات الصراع التي غالباً ما تلبس لبوس الفتن الطائفية أو المذهبية، على رغم أن جوهر الصراع مغاير وذات صلة بقضايا وموضوعات سياسية أو اجتماعية.
أما لجهة أهداف الفتن المتلاحقة في لبنان فهي متنوعة ومتعددة لكن من السهل إدراجها ضمن فئة واحدة فيها من التفاصيل التي تبدو مملة للمدقق. ومن دون ذكر تواريخها التي باتت معروفة ومحفوظة بل محفورة في ذاكرة اللبنانيين، فإن البارز في أهدافها غالباً ما كانت غطاءً لخلافات عميقة لها صلة بتحديد موقع ودور لبنان بما يجري فيه وحوله، بل إن سبر غور هذه الأهداف تظهر استعمال الأطراف الخارجية للأطراف اللبنانية لتمرير مشاريع وتغطية مواقف وحتى إجراء اختبارات على مواقف تصل حد الحروب الاستباقية لتعديل موازين قوى خارجية لها انعكاساتها الداخلية في لبنان بشكل أو بآخر.
وعلاوة على ذلك إن الجديد في أهداف الفتنة الحالية لها أبعادها وخلفياتها المدمرة المختلفة عما سبق، ذلك لجهة ارتباط ما يدور في خِلد مخططيها الخارجيين وأدواتها اللبنانيين في مشاريع تغطي المنطقة بأكملها، إذ بات لبنان جزءاً من فتنة أوسع وأداة في مشروع أكبر، وفي كلتا الحالين يبدو أن لبنان بات أعجز من مقاومة التأثير فيه وأضعف من منع هذا التأثير، لذا من المتوقع أن تكون نتائجها هذه المرة كارثية على لبنان لجهة الكيان.
إن أهداف الفتن الداخلية وبخاصة الدول التي تتخبط في أوضاع خاصة غالباً ما تكون سهلة التحقق وسريعة النتائج، بحيث يصعب السيطرة عليها حتى من قبل الأطراف الفاعلة في إدارتها أو الأطراف المنخرطة فيها، وغالباً ما كانت جميع أطرافها في صف الخاسرين، والرابح الوحيد فيها يكون عدو جميع أطرافها المتورطين فيها.
إن وأد الفتن في مهدها أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً في بلد تبحث بعض الجماعات فيه عن متاعبها المتواصلة، واللافت في لبنان تحديداً أن بعض الأطراف هي التي تسعى إليها وتستجمع شروط إيقاظها وإطلاقها واستثمار محطاتها، وغريب المفارقات أيضاً أن أطرافاً أخرى قادرة على حسم ولجم مثل تلك التوجهات لكنها سرعان ما تقف أمام خطوط حُمر تكبل أيديها وتجعلها تبدو كأنها مجبرة على استساغة نفس اللعبة.
وفي مطلق الأحوال فإن البحث في شروط نجاح إبعاد الفتن يتطلب شروطاً كثيرة منها ما له علاقة بالداخل اللبناني ومنها ما يتجاوز الأطراف اللبنانية إلى محيطها الإقليمي والدولي الأوسع، وإذا كان ليس من الصعب نسبياً تخطي المعوقات الداخلية فإن المجال الأصــــــــعب يظهر في الظروف الموضوعية المحيطة بلبنان.
وانطلاقاً من ذلك فإن تدارك الأسوأ في الأزمة الحالية عبر عدم الانتقال من مرحلة الحقن والتجييش إلى التفجير الفعلي يتطلب جهداً صادقاً مضاعفاً من كل الأطراف على حد سواء. فإذا كانت من مقدمات ومسببات الفتنة الحالية قضية المشاركة في الحكم وفعاليته تحديداً في الأمور والقرارات المصيرية، فعلى الأكثرية الممسكة بالقرار حالياً تفهّم هواجس المعارضة وعدم الذهاب بعيداً في تفسير خلفيات المطالبة وتحميل الموضوع أكثر مما يحتمل وربطه كلياً بالمحاور الخارجية الداعمة لهذا الفريق، على أن هذا الموجب ينبغي مقابلته بمواقف مطمئنة ومقنعة لهواجس الفريق الآخر ولا سيما الأمور المتصلة بالمحكمة الخاصة بعد الأخذ بوجهة نظر المعارضة في منــــــــــاقشة تفاصيل النظام الأساسي للمحكمة وما يتصل بها من أمور تقريرية وتنفيذية ولا سيما أن جوانب كثـــــــــيرة تستحق الوقوف عندها والتدقيق فيها.
وإذا كان الأمر متعلقاً كما هو واضح بسلاح المقاومة وما يرتـــــــــبط به، فالأمر مــــــــــــرتبط أيضاً بالقرارات ذات الصلة باستراتيجية لبنان الدفاعية، الأمر الذي كان ينبغي على الحكومة أولاً وأخيراً بلورته وتحديد اتجاهاته العملية بعدما نصّ بيانها الوزاري على ملامحه الأساسية عبر احتضان عمل المقاومة كعمل وواجب وطني.
وإذا كانت بعض الظروف قد غيَّرت بعض الوقائع والمواقف لبعض الأطراف، بحيث باتت المقاومة في نظر بعض اللبنانيين قوة تمثل فئة لبنانية معينة وحتى غير شرعية، فأفضل المخارج الممكنة لهذا التوصيف العمل على توسيع قاعدة عمل المقاومة لتشمل أطرافاً لبنانية أخرى، وهذا ما اقترحته قيادة المقاومة مراراً وتكراراً، وذلك في ظل استمرار احتلال إسرائيل لبعض الأراضي اللبنانية وعجز الحكومة اللبنانية عن تنفيذ البدائل أو تقديمها على الأقل.
شرط آخر لوأد الفتنة يتمثل في استعداد اللبنانيين أولاً وأخيراً على أن لا يكونوا أدوات لأطراف خارجية لها حساباتها ومصالحها الخاصة في لبنان وفي المنطقة، وبالتالي على اللبنانيين قراءة الظروف المحيطة بلبنان بدقة متناهية في جو تغلب عليه محاولة إعادة رسم الجغرافيا وكتابة التاريخ من جديد للشرق برمته، وهنا تكمن المشكلة إذ إن الرغبة والاستعداد وإن كانا موجودين لدى اللبنانيين فإن درء الفتنة تتطلب تضحيات داخلية كبيرة ربما من الصعب أن تتحملها بعض الجماعات اللبنانية.
إن الحقيقة تقتضي القول إن الولايات المتحدة وإسرائيل قد جرّبت حتى الآن كل الوسائل المتاحة والممكنة لديهما لنزع سلاح المقاومة أولاً ومن ثم ضربها ولم تتمكنا، وذلك باعتراف أميركي وإسرائيلي واضحين، والكل يعلم أن ليس ثمة مقاومة هُزمت من قبل أعدائها، والجميع يعلم أنه لا يمكن ضرب مقاومة ما إلا بنزع شرعيتها الداخلية وإدخالها في حسابات سياسية داخلية ضيقة، فهل هذا ما يجري الآن وهل هي بداية الفتنة وأهدافها؟ أسئلة كبيرة ومحيرة تنتظر أجوبة ممن في يدهم القرار ويبدو أن غالبيتهم ليسوا لبنانيين!
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية