حسين آغا وروبرت ماللي
إنّ الفكرة القائلة بأنّ المشاورات الثنائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن تؤدّي الى حلٍّ نهائي، باتت ميتة. العالم يتوصّل لإدراك ذلك، ببطء. إن فشل هذه الفكرة كان محتّماً لأنه لم يكن لدى أي من الطرفين القدرة، لوحده، على سدّ الهوّة الكبيرة في المواقف بينهما. فالطرفان لا يثقان ببعضهما، ولكن هذا أيضاً لا يشكّل تفسيراً كافياً. وإذا كانت المفاوضات الثنائية قد أصبحت بمثابة طريقٍ سريعٍ إلى أفقٍ مسدود، فسبب ذلك يعود الى افتقار النظامين السياسيين الإسرائيلي والفلسطيني الى القدر اللازم من التماسك والترابط.
من الناحية الفلسطينية، تعيش الحركة الوطنية أكثر حالات اللااستقرار عمقاً وتأثيراً منذ أن تسلّمها ياسر عرفات وقولبها على صورته لأكثر من أربعة عقود. والتغيير الذي طرأ على الحركة لم يكن مجرّد مسألة من سيخلف عرفات، بل هو أكثر تعقيداً من ذلك. فهو من نوع التغيير الذي يأتي مع غياب شخصٍ تقمّص الحركة كلها تدريجاً ليصبح هو الحركة ولتتّكل جميع القرارات السياسية المصيرية عليه. حقق عرفات أموراً كانت تُُعتبر، من قبله، مجرّد مواد لأحلام غير قابلة للتنفيذ، وما تحوّل من بعده الى هدف يُحَنّ إليه ويُُشتهى: تماهي رجل مع أمّة، السموّ فوق السياسات الحزبية، والتعبير عن إجماع ضمني وغير مَحكي.
بعض المنظمات المنافسة ــ اليسارية والإسلامية بشكل خاص ــ تحدّته. وواجه معارضة وانشقاقاً من داخل حركته «فتح». وحاولت الدول العربية، الواحدة تلو الأخرى، تطويع الحركة الوطنية وفق إرادتها. ولكن بفضل عمله الجدّي والكاريزما في شخصيته وفطنته السياسية، إضافة الى تمكّنه بدهاء من جمع عدد كبير من الأسلحة والتمويلات، استطاع عرفات أن يسيطر على «فتح»، وأن يُوفّر تعاون اليساريين معه، وأن يُبقي الإسلاميين على مسافة آمنة والدول العربية في متناول اليد.
لم يحاول عرفات يوماً أن يعتمد مشروعاً مفصّلاً، بل كان يثق بحدسه وميوله التي، وعلى الرغم من كونها محطّ جدل ونزاع، كانت، ضمنياً وبطرق متعرّجة، تتحوّل لتصبح ميول الحركة الوطنية الفلسطينية ككلّ.
قائداً للحركة الوطنية وأباً للتسويات السياسية، كان في استطاعة عرفات أن يوفّق بين عالمين مختلفين، فكان الرجل الثوري ورجل الدولة في آن واحد. جسّد، من جهة، الالتزام الراسخ بالنضال الأساسي منذ عام 1949، ومن جهة أخرى، القبول بمبدأ الدولتين حلّاً للأزمة. كانت أفعاله أهمّ من أقواله في الأمور الجوهرية. وإذا وضعنا جانباً اتهامه بالتردد وعدم أخذ المبادرة، كان عرفات يحزم في الأمور التي يراها ضرورية وفي الوقت المناسب.
أورث عرفات نظاماً على أعلى درجات الاستعداد للسقوط. والهيكليات الواسعة التي أنشأها في عهده نعمت بفترة حياة قصيرة وانتقالية بعد موته. فقد استمرّت «فتح» في الحكم، على الرغم من فقدانها ثقتها بنفسها وحسّها التقليدي بأحقيتها باللقب الذي نشأت واعتادته من دون أي منازع. بعد فوز «حماس» في الانتخابات البرلمانية في كانون الثاني 2006، ظلّت «فتح» متمسّكة بعاداتها السابقة من عهد الهيمنة، فبقيت تسيطر على الخدمات الاجتماعية والمدنية كما على القوى الأمنية، إضافة الى احتكارها، باستثناء بعض الحالات النادرة، العلاقات الدولية والتشريع.
إن هذا، في غالبيته، كان وهماً مرحلياً. إذ كانت تجري، في الأعماق، تغييرات جذرية وبنيوية. واليوم، وبعد مرور أكثر من سنتين على غياب عرفات عن الساحة، لم يعد للحركة الفلسطينية أي مؤسسات سياسية فاعلة. فهي تفتقر إلى قيادة قادرة، وفقدت أي نظام سياسي واضح يمكن تمييزه.
في وقت مضى، كان في إمكان منظمة التحرير الفلسطينية أن تدّعي، عن حق، بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ولكن ليس بعد الآن. فهي تبدو اليوم حركة عتيقة وبالية. فهي بالكاد تؤدي أعمالها، وبالقدر الذي لم تستوعب بعد التيار الإسلامي الممثل حالياً بـ«حماس»، يُمكن اعتبار سلطتها مشكوك في أمرها. إنّ حركة «فتح» التي شكّلت لفترة طويلة من الزمن قلب الحركة الوطنية، أصبحت مقسّمة بشكل عميق، تفتقر إلى دفّة تقودها، مُجرّدة من أي برنامج سياسي واضح، وفريسة لتنافس داخلي على القوّة والامتيازات.
وقد تضاعفت مصادر السلطة المتنافسة في ما بينها داخل الحركة الوطنية الفلسطينية. فالرئاسة بيد «فتح»، والحكومة بيد «حماس». فُصل قطاع غزّة عن الضفّة الغربية، وبدأ كلّ منهما يطوّر نظرته الخاصة وهويته المنفصلة عن الآخر. وعادت للظهور مجدداً الانقسامات القديمة بين فلسطينيي الأراضي المحتلّة وأولئك الذين يعيشون في المنفى. وبدأت تتنامى الأجهزة والميليشيات الأمنية المتنافسة في وقت أخذت فيه العائلات والعشائر تؤدي دوراً أكبر في الحياة الفلسطينية. وتعاظم نفوذ عدد من الدول الأجنبية، العربية منها والغربية، التي تؤدي دوراً في الساحة الفلسطينية.
ويبرز اليوم شكّ جدّي في قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على الخوض بطريقة فعّالة وواثقة من نفسها في مشاورات تؤدّي الى اتفاق سلام نهائي، وعلى إقناع شعبها بالقبول باتفاق افتراضي كهذا، وعلى المحافظة على ديمومته في حال حصوله على تأييد شعبي. هناك إجماع غير كافٍ اليوم على قضايا مصيرية، ولكن أيضاً على مكان صنع القرارات ومن يتّخذها وكيف.
إنّ اتفاق مكّة الذي توصّلت إليه «فتح» و«حماس» في شباط الماضي، وتأليف حكومة وحدة وطنية من بعده، هما خطوة أولى في اتجاه التوصل الى رؤية أوضح. هي خطوة مهمة، ولكنها قد تبوء بالفشل، وما حصل من بعدها قد خفّف بشكل جزئي، من القلق على مسألة عدم قدرة الطرفين على العمل سويّةً. فـ«فتح» لا تزال متمسّكة بفكرة عدم فقدانها السلطة، و«حماس» بمبدأ أنها حصلت على فائضٍ منها.
وتواصل النزاع بين الطرفين، وخاصة في قطاع غزّة حيث التنافس على أشدّه، مع أنه بات الآن أقلّ عنفاً وأكثر إمكانية للضبط. وقد أضحت الآن إمكانية انهيار فوري وكلّي للعلاقات بين الطرفين غير مرجّحة، لأنّه لا شيء يجمع الفلسطينيين أكثر من كرههم ورفضهم لنزاع فلسطيني داخلي. أما إذا كان لا مفرّ من انهيار في العلاقات بين الطرفين، متغذيّاً من صراعات داخلية على السلطة ومُحفَّزاً من تدخلات خارجية، فسيسبب ذلك اضطرابات عنيفة وفوضى كبيرة وحالة من اللااستقرار والعنف التي ستضرب الفلسطينيين وبالتأكيد إسرائيل أيضاً مع مرور الوقت.
وحتى لو نجح اتفاق مكّة وحكومة الوحدة في البقاء على قيد الحياة، فهما سيواجهان فترة صعبة من اللااستقرار المستدام، ما سيؤدي الى تغيير ساحق وجذري في المشهد السياسي الفلسطيني.
يشتمل اتفاق مكّة على قيام حكومة وحدة وطنية، ولكن هذا هو أقل ما يشتمل عليه. فهو، إذا طُبّق بنجاح، سيشكّل بداية انتهاء نظام حكم الحزب الواحد وولادة مشاركة سياسية أوسع. وهو سيؤثر في توزيع السلطة داخل جميع المؤسسات الفلسطينية، إن كانت تابعة للسلطة الفلسطينية أو لمنظمة التحرير، السياسية منها والعسكرية.
إذا نُفّذ الاتفاق بشكل كامل، فسيعني انضمام «حماس» إلى منظمة التحرير الفلسطينية واندماج جناحها العسكري في الهيئات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. وسيؤدي الاتفاق، بالحدّ الأدنى، الى خلق ثورة سياسية، إن على صعيد السلطة السياسية، وإن حول كيفية اتخاذ القرارات وماهيّة هذه القرارات. وسيشكّل هذا الاتفاق اختباراً لمدى إمكانية تقاسم السلطة الفعلية في نظام لم يشهد نمطاً كهذا من قبل. بمعنى آخر، إنّ تأليف حكومة جديدة، لم يُنهِ الصراع داخل الحركة الوطنية، ولكنّه دفع الى مرحلة مختلفة وأكثر تعقيداً، وأوجد توتراً داخل حركة «حماس» حول كيفية التعامل مع «فتح» وكيفية التأقلم مع وقائع جديدة. ومع أي تقدم دبلوماسي آخر، ستضطرّ حماس الى تحديد مواقفها من مسألة إنشاء علاقات مع اسرائيل، وهذا قد يؤدي إلى انقسام الحركة. في المقابل، قد يؤدي انقسام كهذا الى نشوء كتلة جهادية متطرفة ومنفصلة عن الحركة الأم، قد تنتشر بسهولة نظراً إلى توافر القاعدة الشعبية لأعضائها الذين يعملون على الأرض الآن ولهم جذورهم في المجتمع.
حتى في ظلّ أفضل الظروف، سيتطلّب إنجاز كلّ ذلك وقتاً طويلاً. وإلى حينه، ستبقى الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة مشروع قيد التطوير، محشورة بين نظام انتهت مدّته وآخر ما زال يناضل ليتشكّل.
مهما يحصل، ستبقى الحركة الفلسطينية قابلة لأخذ أشكال مختلفة، يصعب إخضاعها، ويصعب الضغط عليها أو حتى التعامل معها. من جهتها، ستميل كل من الولايات المتحدة الأميركية واسرائيل إلى تجاهل التغيّرات، وستصرّان على سياسة عزل «حماس» والتعامل فقط مع الأعضاء غير الإسلاميين في الحكومة الفلسطينية. ولكنها مجرّد مسألة وقت فقط، قبل أن تبدأ تلك الأوهام بالانهيار. سيكون أحد أهدافهم، دعم الرئيس عبّاس، ولكن، كما تبيّن، كل دعم خارجي في غير محلّه للرئيس عبّاس لم ينجح سوى في إضعافه. وإذا شعرت «حماس» أنّ هناك من يقف في وجه محاولتها لتقاسم السلطة، فهي ستحاول ما في استطاعتها ــ وفي استطاعتها فعل الكثير ــ لنسف المباحثات الاسرائيلية ــ الفلسطينية. فلا يمكن أن تمنع الإسلاميين من تسلّم السلطة، ومن ثم تتوقّع منهم أن يذعنوا لعملية سياسية قد أُخرجوا منها. أن تقوم بمشاورات مع السلطة الفلسطينية، مستبعداً «حماس» عنها، هو كأن تقوم بمشاورات مع طرف واحد من النظام السياسي، يسيطر على جزء من القوات الأمنية فقط، ويستحوذ على موالاة جزئية من شعب مقسّم وشكّاك بطبيعته.
هل في إمكان النظام الاسرائيلي أن يقدّم ما عجز عنه نظيره الفلسطيني؟ توجد أسباب للشكّ في ذلك. منذ فترة غير بعيدة، كانت اسرائيل تتصرّف بقدر واضح من الثقة بالنفس. رئيس الوزراء أرييل شارون كان قد نصّب نفسه سيّداً لشؤون الأمة السياسية الداخلية، وقاد المبادرات في المجال الدبلوماسي أيضاً. فلم يكن الإسرائيليون، الباحثون عن وجهة جديدة، بحاجة إلى المزيد من البحث. لم يكن يتكلّم كثيراً، ولكن ما كان يقوله كان يلخّص كل شيء: فهو لم يتحدّث عن حلّ الأزمة بل عن ترسيم الحدود الاسرائيلية، ولم يتحدث عن مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين ولكن عن فصل عملي عنهم، ولم يتحدث عن مناقشة الاتفاقات ولكن عن خطوات اسرائيلية أحادية الجانب. أُخذ الشعب الاسرائيلي بهذا الخطاب، فأصغى إليه. آمن به، فتبعه.
كم يبدو ذلك بعيداً الآن! فإذا كانت مبادرات السلام الجزئية تتطلب قيادة قوية وواثقة من نفسها، فالأمل ضئيل في تحقيقها. فقد حلّت الحيرة والإرباك محلّ الوضوح وبقدر يفوق التصوّر. إنّ الأداء الرديء للجيش الاسرائيلي في حرب لبنان الصيف الفائت كان أكثر من كبوة. لقد كان صدمة كبيرة لأمّة تضع البنية الأمنية، تاريخياً، في صلب مجتمعها ونظامها، وتعتبرها أساساً يُركن إليه وسط المحن السياسية التي قد تعصف بالبلاد. إن النظام السياسي الاسرائيلي بحدّ ذاته يعاني أزمة شبه دائمة. فكلّ يوم يحمل معه فضيحة جديدة ومحيّرة، بالإضافة إلى تحقيقات علنية تطال بشكل أو بآخر أبرز الشخصيات القومية.
فالفساد الذي لم يعد يُنظر إليه انحرافاً قد أصبح طريقة عيش. لم يُفاجأ الإسرائيليون بقدر ما استسلموا لهذه الظاهرة، فاقدين أية أوهام عن الحياة السياسية وعن حكومتهم، وإنّ ندرة القادة من أصحاب الكاريزما والجيل الجديد من السياسيين العاديين، هو عارض آخر يُثبت أنّ النظام يعيش أزمة كبيرة. فشارون، الذي كوّن نفسه على أنه آخر بطل اسرائيلي، كان قد أبدى، بشكل صريح، مخاوفه من أن تصبح اسرائيل بلداً عادياً، كغيره من البلدان، غير مدفوع بأحلام كبيرة وبروحية الانتصار الحربي، فيتحول البلد إلى ضحية قلّة الصبر والضعف والمادية الباحثة عن المتعة فقط. لو كان في استطاعة شارون أن يرى الوضع الآن، لقال إن هذا اليوم قد أتى.
ولم يعد هناك أي حماسة إيديولوجية للحلّ القائل بنشوء دولتين. فالإسرائيليون يقبلون به، ومعظمهم يرى أنّه حل لا بدّ منه، ولكنهم فقدوا الشغف والحماسة تجاهه. حلم اسرائيل العظيمة قد تبدّد أيضاً، وزالت أيضاً رؤية أوسلو حول المصالحة السلمية مع الفلسطينيين. فلقد مورس عنف كبير وأُريقت دماء كثيرة، وتبخّرت كل الآمال أن يكون للشعب الفلسطيني ولقادته القدرة على تسلّم الحكم.
ومع صعود «حماس»، وتقدم إيران والحرب مع حزب الله، أصبحت السياسات في المنطقة أكثر إرباكاً وبدأ الاسرائيليون بإظهار تذبذب غير مسبوق. فهم لا يدرون إذا كان الوقت مناسباً لعمليات عسكرية شاملة أو لعقد صفقات دبلوماسية كبيرة. لا يعلمون هل يتجاوبون مع انفتاح سوريا على السلام معهم أم يستخفّون به، هل يتعاملون مع عبّاس أم ينسون أمره. والحكومة الاسرائيلية، التي اختلّت بعد هزيمتها أمام حزب الله وفشلها في فك أسر جنودها، لا تزال تبحث عن طريقة للتعامل مع تسلّح الإسلاميين المكثّف. فبعدما وُجّهت لها الانتقادات من كل الجوانب، وبعدما انقسمت داخلياً، تعيش الحكومة الاسرائيلية حياتها يوماً بيوم، كما لو أنها في وقت مستقطع. فالأمة التي تعوّدت اليقين، باتت أسيرة الشكوك.
إنّ شعور اسرائيل بالعجز حالياً، يقوّي حاجزين قديمين في وجه عملية السلام. الأول مؤسساتي: فالحكومات الاسرائيلية لا تعيش طويلاً عادة، وتبقى عرضة لمؤثرات نظام سياسي أكل عليه الدهر. وهذا النظام هو نفسه نتيجة نظام انتخابي يتطلّب إقامة حكومات تحالف، ما يسمح للأحزاب الصغيرة أن تملي رغباتها على الأحزاب الأكبر منها، أو أن تسقطها. وعملية السلام تهدد بقلب التوازن السياسي وبتقليص مدّة ولاية رئيس الوزراء. إنّ الفارق بين الدعم الشعبي الناقص لمبدأ الاتفاق مع الفلسطينيين وعدم قدرة القيادة على تحقيق تلك الرغبات يمكن تفسيره جزئياً من خلال هذا العامل.
العائق الثاني استراتيجي. وهو متعلّق بعدم توازن القوى الهائل بين اسرائيل وأعدائها، كلاً بمفرده أو متّحدين، الذي قد برهن على أنه قد يكون هبة أو قد يشكّل عائقا أحياناً. إن قوّة اسرائيل تزوّدها الثقة بالنفس، ولكنها في الوقت نفسه تجذبها بعيداً من الحاجة إلى إبرام تسويات. فمن دون تهديد، يقلّ الضغط، ومن دون ضغط يضعف حافز الإقدام على مجازفات سياسية أو عسكرية باسم سلام غير مؤكّد وغير متعارف عليه بشكل واضح. فلِما التخلّي عن موجودات حسيّة وملموسة مقابل وعود من قبل أطراف قد تفشل في تحقيقها؟
إنّ إحساس اسرائيل بالأمان محدود، وقد اختُبرت حدوده أخيراً. فأعداء اسرائيل يمكن أن يعتمدوا تكتيكاً لا تستطيع أن تقاومه، الانتحاريون الفلسطينيون مثلٌ على ذلك، أو يمكن إسرائيل أن تبدأ حرباً، فيفاجئها العدو بردّ فعّال وغير متوقّع، كحرب الصيف الأخيرة على حزب الله في لبنان، حيث فشلت اسرائيل في تحقيق أي من أهدافها. وفي كلتا الحالتين، يجب على اسرائيل ان تواجه حدود القوة الهائلة التي تمتلكها على الرغم من أن هذه القوة تشكّل أضعاف قوة أعدائها.
إنّ تبعات هذا الوضع أصبحت نهجاً معروفاً: هناك صدمة بعد هزيمة غير متوقعة، ثم غضب على من تسبب فيها، ثم التفتيش عن أشكال جديدة للانتقام، وأخيراً إنزال عقاب مميت وأعمى. ولوهلة، قد تؤخذ بعض الخيارات الأخرى بعين الاعتبار، كمبادرات السلام مثلاً. ولكن عندما يبدأ الضغط المباشر بالتراجع، تميل اسرائيل الى الانسحاب إلى خيار الأمان بالإبقاء على الوضع الحالي كما هو عليه، والدفاع عن الخيارات الجريئة الذي فُتح لوهلة، يُقفل بسرعة، ويختفي حافز اتخاذ المبادرات والتحرّك الذي يظهر في وقت الأزمات عندما يُعاد نظام اللاتوازن السابق بين القوى.
قبل خمس سنوات من اليوم، في نيسان 2002، قدّمت 22 دولة منضوية تحت لواء «الجامعة العربية»، مبادرة سلام تقوم على تطبيع شامل للعلاقات مع إسرائيل مقابل انسحاب كلّي من الأراضي العربية المحتلّة منذ 1967، وأيضاً مقابل إقرار حلّ مُتفاوَض عليه لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وتزامناً مع بلوغ الانتفاضة الفلسطينية حدّها الأقصى، قدّم العرب المبادرة في ظلّ شعور عميق بالإحراج. ثم ابتعدوا عنها وأبقوها جانباً. وقد صرف أرييل شارون، رئيس الوزراء حينها، النظر فوراً عنها. ثم جاء الاستهداف الفلسطيني لمدينة نهاريا الاسرائيلية متزامناً ولحقه ردّ اسرائيلي عنيف ليُجهزا على المبادرة كليّاً. حينها تنفّس العالم العربي واسرائيل الصعداء.
تمّ إحياء المبادرة العربية المتعددة الجوانب تزامناً مع فشل مشروع إقامة مباحثات ثنائية ناجحة بين الطرفين. بعدما كانت راقدة لسنوات عديدة ــ باستثناء ذكرها عرضاً في «خريطة الطريق الاسرائيلية ــ الفلسطينية» عام 2003 ــ أصبحت مبادرة السلام العربية فجأة محطّ اهتمام وجذب كبيرين وموضوع توافق وتأييد واسع. وكانت الولايات المتحدة الأميركية الأولى في تغيير موقفها. فبعدما فقدت صدقيتها في الحرب على العراق وفي دعمها للحرب على لبنان، وبعدما تلمّست خطر إيران المتنامي في المنطقة، وعانت فوز «حماس» الساحق في الانتخابات والمزعج لسياستها، إضافة الى حاجتها الماسة إلى تحقيق أي هدف في الشرق الأوسط، شرع بعض المتحدثين باسم الإدارة الأميركية يمدحون بحذر تلك المبادرة في تصريحاتهم. وتغيّرت اللهجة أيضاً في اسرائيل عمّا كانت عليه سابقاً. أما «جامعة الدول العربية» التي كانت متقلّبة في البداية، أحيت بالإجماع وببعض الصخب مبادرة السلام العربية في قمّة الرياض في آذار 2007.
هي جوقة منتقاة من مصادر مختلفة ولكنها أيضاً جوقة خادعة. فإذا ما قيس بقياسات اليوم اليائسة، فإن إعادة إحياء المبادرة العربية للسلام يبدو اختراقاً مهماً، ولكن التناغم والاتفاق الظاهري عليها يخفي وجهات النظر المتفاوتة للأطراف الأساسية فيها، وخاصة طبيعة المقترحات ومدى فعاليتها.
فكما تتصوّرها الدول العربية وخاصة المملكة العربية السعودية، لا يجب تقويم المبادرة العربية من حيث مضمونها. فهذا المضمون تشوبه لغة ضبابية في ما يتعلّق بالأرض واللاجئين، ومن الصعب التمسّك به حتى كاقتراح سلام، لا كخطة سلام فحسب. ولكن من الممكن تقويم هذه المبادرة بسبب ما تعد به. فعوض أن تقدّم المبادرة أي مواد مفصّلة لعقد اتفاق، كانت طريقة ملتوية لدعوة الاسرائيليين والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين للجلوس معاً والاتفاق على حلّ خلافاتهم آخذين بعين الاعتبار أنّ ما سيتوصلون إليه سيلقى الترحيب والمكافأة والرعاية على الصعيد الإقليمي.
افتقرت المبادرة إلى الوضوح في ما يتعلّق بتبادل الأراضي للانحراف عن خطوط 1967، وكيفية حلّ مشكلة عودة اللاجئين الفلسطينيين بطريقة تحمي مصالح اسرائيل الديموغرافية وتحافظ على أكثرية يهودية فيها، ومصير المناطق اليهودية شرقي القدس. ولكن هذه الضبابية هي جزء من طبيعة المبادرة. فمبادرة «جامعة الدول العربية» ليست دعوة لإجراء مباحثات مع اسرائيل، بل كان هدفها وصف شكل الحياة بعد اتفاق شامل: سلام ومصالحة وتطبيع للعلاقات مع العالم العربي بأكمله.
إذا ما نظرنا إلى المبادرة من هذا المنظار، وعلى الرغم من أن مضمونها الفعلي ضئيل، تتمتع المبادرة بإيجابيات عديدة. فالفلسطينيون، وبالنظر إلى ظروفهم الداخلية الحالية، لا يمكنهم أن يصنعوا بأنفسهم قرارات مصيرية وتاريخية، ولكن قد يكون في إمكانهم التوصّل إلى ذلك تحت غطاء سياسي عربي شامل. فالصراعات الداخلية الفلسطينية، التي تؤثر بشكل كبير في محادثات ثنائية فلسطينية ــ اسرائيلية، قد تذوب في إطار صفقة عربية ــ اسرائيلية أوسع. وفي وجه إجماع عربي وإسلامي وداخلي على اتفاق سلام، سيكون على «حماس» أن تُعيد تكييف وضعها. وعلى الرغم من أنها على الأرجح لن ترضى عن اتفاق سيعترف بإسرائيل وسينهي الصراع معها، ستجد «حماس» صعوبة في الاعتراض عليه أو مواجهته. صحيح أن «حماس» قامت بعمليات انتحارية، ولكنها ليست حركة انتحارية في حقّ نفسها. والانقسامات الفلسطينية الداخلية سيمحي جزءاً منها، إجماعٌ عربي شامل، تماماً كما تراجع الخلاف بين «فتح» و«حماس» حول المبادرة العربية في قمّة الرياض الأخيرة. هكذا في إمكان تدخل عربي أن يعوّض عن ضعف النظام السياسي الفلسطيني.
وستستفيد اسرائيل بطرق مماثلة. ففي حال توصّلها الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين فقط من دون الاتفاق مع سوريا ولبنان، فذلك لن يعني بالضرورة نشوء علاقات مسالمة بين اسرائيل وبقية العالم العربي، ولن يمنع اتفاق كهذا حلفاء دمشق في فلسطين من العمل على هدمه وإلغائه، ولن يردع حزب الله عن مواصلة الضغط على شمال اسرائيل. إنّ الإيجابيات الاستراتيجية لاتفاق منفصل مع الفلسطينيين لن تكون إلا جزئية وذات تكلفة سياسية عالية بالنسبة إلى اسرائيل. ولكن في المقابل، إن أي اتفاق سلمي مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين سيضاعف المردود الإيجابي لها. فاتفاق كهذا سيؤدي إلى معاهدات سلام، واعتراف دبلوماسي، وإقامة علاقات طبيعية مع الجيران العرب القريبين منهم والبعيدين. فإذا توصّلت اسرائيل وسوريا الى حلّ ينهي خلافهما، فإن حزب الله سيضطر الى التخفيف من الاعتماد على العنصر الحربي والتحول تدريجاً الى حزب سياسي. وإن القيادة الإيرانية ستضطر إلى التأقلم مع الوضع، لا بقطع علاقاتها مع سوريا بل بمحاولة التماشي مع نمط جذري جديد في العلاقات العربية ــ الاسرائيلية. يمكن اتفاقاً تفاهمياً، ومن خلال رفع المكافآت مقابل تقديم تنازلات في ما يتعلق بالأراضي، أن يعوّض عن غياب الضغط الحقيقي على اسرائيل للتوصل إليه. وباختصار، إن مباحثات السلام، تحت مظلّة المبادرة العربية قد تساعد في تقليص العقبات الفلسطينية للتوصل الى اتفاق، وفي الوقت عينه قد تزيد من الأرباح التي تتوقع أن تجنيها اسرائيل من اتفاق كهذا.
(عن «نيويورك ريفيو أوف بوكس». ولمناسبة نشره في «الأخبار» يهدي الكاتبان المقال إلى روح جوزف سماحة)

اجزاء ملف "الطريق من مكة":
الجزء الأول | الجزء الثاني