«ست الستّات»شكري نصر الله

كنت أسمّيها «ست الستات»: «صباح الخير يا ست الستات»، «مساء الخير يا ست الستات».. وكانت تضحك بصوت خافت ساخر، فأقول لها: «صباح الخير يا ست الستات.. شاء من شاء وأبى مَن أبى». ونغوص معاً في حوارات لا تهدأ. وكانت عليا الصلح، أم رياض، سيدة نادرة في قدراتها، ونادرة في ثقافتها.. وصدقها، وحريتها وإيمانها.
تتكلم بثلاث لغات، وتكتب بثلاث لغات، والذي يكتب غير الذي يقرأ. فالقارئون كثر لكن الكتّاب قلّة. وكانت تحفظ، حتى غيابها، معظم آيات القرآن الكريم وقد حفظته كلّه قبل أن تبلغ الخامسة عشرة.
وكانت عليا الصلح إذا كتبت في صحيفة أجنبية تثير زوبعة من الإعجاب والإطراء. وإذا كتبت في لبنان يهتزّ لبنان كله، ويصرخ اللبنانيون جميعاً إعجاباً بعقلها وجرأتها وقلمها وصراحتها. وإذا عارضت الحكم تهزّ أساساته هزّاً بمقالة واحدة، وبسطور قليلة نارية حارقة. وكانت عليا الصلح بنت الاستقلال وبنت باني الاستقلال. بل كانت بنت أبيها وأمّه، وحافظة أعماله وأسراره وأقواله. وأزعم أنها هي التي جعلت صورة رياض الصلح وهيبته في كل دم لبناني، وعنفوان لبناني ــــــ عربي.
وكانت تقول إنها لا تريد شيئاً من لبنان سوى أن يكون كما صنعه رياض الصلح، وكما أراده رياض الصلح وبشارة الخوري: سيّداً حراً مستقلاً، وأن يكون أبناؤه مثله ومثلها أحراراً وسادة.
وكانت ترفض المناصب والمقاعد والكراسي. وتهزأ من الذين يتراكضون عليها. فالوطن حريّة والحريّة ليست مقصداً. والمواطن أنفٌ شامخ والمواطنية لا تكون منصباً أو كرسيّاً.
وكانت عليا الصلح صديقة صادقة وصدوقة، لا تمالئ، ولا تجامل، ولا تبدي ضعفاً تجاه المديح والمدّاحين، أو أمامهم. كلمتها كالصخر، ورأيها كالفولاذ يلين ولا ينكسر.
في علاقاتها مع الأصدقاء كانت ملكة متوّجة ببريق من الصدق والعفوية والمحبة الخالصة، والجرأة النادرة.
وكانت عليا الصلح مؤمنة ومسلمة من الطراز النادر. تصوم وتصلّي وتزكّي، وترفع الفاقة عن المحتاجين ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فلا تعرف من هم ولا تطلب أن تعرفهم أو تعرف عنهم شيئاً.
وكانت عليا الصلح سياسية من الطراز النادر، وديموقراطية إلى أقصى الحدود، ومسالمة إلى أقصى الدرجات، ولكنها كانت تلعن الديموقراطية إذا وقفت الديموقراطية في مواجهة عروبتها ولبنانيتها وإيمانها.
وكانت عليا الصلح أُمّاً تفيض حناناً ومحبة. وكان همّها الذي أثقل كاهلها، طوال السنوات الماضية، هو كيف تصون عائلتها الصغيرة: ابنها وابنتها وأحفادها. وعندما أصبحت جدّة قرّرت أن تقسم شهور السنة إلى ثلاثة فصول: فصل في أميركا، وفصل في باريس، وفصل في جنيف. وعندما أتعبها هذا التقسيم قرّرت أن تجعل السنة فصلين: فصل لأميركا، وفصل لجنيف وباريس معاً. وأمّا لبنان فكانت تزوره بين الحين والحين. وقبل ثلاثة أعوام قرّرت أن تعود إليه.. وعادت. ولكنها سرعان ما أصبحت بين خيارين، فإمّا أن تدخل مرغمة في العمل السياسي والاجتماعي، أو أن تعود إلى الانتظار، فعادت إلى باريس محبطةً ومصابة بألم شديد ممّا رأت وعرفت وسمعت في لبنان.
وكانت عليا الصلح قد بدأت تتململ من غربتها الاختيارية. وكلما استشهد لبناني أو توفي كنتُ أتّصل بها وأقول لها: «أنظري كيف أننا بدأنا ننتهي الواحد بعد الآخر»، فتحزن وتُسمعني كلاماً محزناً فنتذرّع بالصبر ونواصل الانتظار. لم تكن عليا الصلح مريضة، ولم تكن تعاني إصابة أو علّة. وكانت تكره الطب، ولا تلتقي الأطباء. فهي نباتية تعتني بصحتها كما يعتني البستاني ببستانه. إلاّ أنها كانت تشكو ألماً حاداً في ما يسمّيه العرب «عرق الأنس». وقبل غيابها بخمسة أيام.. اتّصلت بي ليلاً وصوتها لا يكاد يصل إلى أذني، فسألتها: ما بك؟ فقالت: إنه نفسه «السياتيك» يؤذيني كعادته، ويحرمني النوم. وفي اليوم الثاني اتصلتُ بها فقيل لي «إنها خارج المنزل».. وكان ذلك آخر عهدها به.. وبالحياة.
وكانت عليا الصلح، بالنسبة إليّ، أمي وأختي وصديقتي من دون أن يحرجها ذلك أو يخدشني. وكانت توصيني دائماً بأن لا أخفض أنفي أبداً. وعندما داهمني مرض ملعون كانت عليا الصلح الأخت الحقيقية والأم الحقيقية ــــــ (على رغم قصر المسافة في السن بيننا) ــــــ والناصحة دائماً بأن أتذرّع بالصبر والإيمان والأنف الذي لا ينخفض. وكلما اشتدّ عليّ الأمر كانت تقول لي: «لا تخف، فأنا هنا... أنا هنا». وقد كانت مشيئة الله أن أشهد غيابها قبل أن تشهد غيابي.
وكانت ــــــ في نظري ــــــ كلمة.. «وكان الكلمة عند الله. وكان الكلمة.. الله».