جورج قرم *
إهداء: إلى جوزف سماحة هذا المقال الذي كنت قد وعدته
بكتابته في بداية الأسبوع الماضي


صرّح الرئيس سليم الحص مراراً وتكراراً عن استغرابه لضرورة حوار وطني تتكرر عبر الأزمات المتتالية، بينما في الدول الديموقراطية تنظر المؤسسات الدستورية في أي خلاف بين القوى السياسية المختلفة. وعند استحالة الاتفاق، يعود نواب الأمة الى حكم الشعب عبر انتخابات نيابية جديدة. أما في لبنان، فالوضع لا يتفق مع هذه الممارسة العادية في الأوطان الأخرى. وكما يذكر الرئيس الحص، فهذا يعني أن الاتفاق على منظومة قيمية وطنية واحدة لم يتم بعد، بالرغم من التسويات المختلفة التي مرّ بها لبنان منذ سنة 1840. وبالرغم ممّا ساد من إجماع منذ سنة 1990 بأن اتفاق الطائف كان قد أسّس لقواعد ثابتة وراسخة للحكم في لبنان بعد أن تمّ البت في القضايا الخلافية القديمة. ويبدو جلياً اليوم مدى الاختلاف على الساحة السياسية اللبنانية وهو اختلاف عبر الطوائف وليس اختلافاً بين الطوائف، وإن بدأ يأخذ شكلاً منحرفاً بإثارة النعرات الطائفية بين الطائفتين المسلمتين الأساسيتين في البلاد، بدلاً من الشكل السابق حيث كان يبرز الاختلاف بين المسلمين والمسيحيين. وبذلك، لا بد هنا من تحديد ما افتقده الحوار الوطني الذي جرى في العام الماضي من التصويب على قضيتين جوهريتين يجب الاتفاق عليها لإعادة تأسيس منظومة سياسية قيمية مقبولة بشكل تجمع الأغلبية الساحقة من اللبنانيين عليه.
أولاً: التحدي الوجودي للبنان من قبل إسرائيل
بعد أن اتفق اللبنانيون من جميع الأهواء بأن لبنان هو الوطن النهائي لكل أبنائه، لم يناقش ولم يتم الاتفاق على تحديد من هو العدو ومن هو الصديق للبنان. وهذه هي نقطة جوهرية في حياة أي وطن وإذا انعدم التوافق عليها، فيستحيل بناء الأسس والسياسات الدفاعية والاقتصادية والمالية للبلاد. ولا بد هنا من الاعتراف بأن القضية ليست سهلة لأن اللبنانيين يتأثرون كثيراً بالتيارات الفكرية الغربية والشرقية وما تحتويه هذه التيارات من تناقضات صارخة حول الكيان الصهيوني. وفي هذا المجال لا بد أيضاً من التذكير بتناول هذه التيارات بعض الأنطمة العربية أو الإسلامية أو الأجنبية) مثل روسيا أو الصين (من نظرات سلبية بل، في بعض الأحيان، عدائية الطابع. ورغم وضوح الميثاق الوطني اللبناني في ما يختص بالسياسة الخارجية اللبنانية والذي يقضي بأن لبنان لا يمكن أن يكون ممراً لأي نوع من أنواع الهيمنة الغربية على الشرق، فإن بعض الأوساط اللبنانية، على مرّ تاريخ الجمهورية المستقلة، لم تحترم هذا المبدأ الأساسي في الميثاق الوطني وقد سمحت لذاتها أن تكون ممراً لهذه القوى، وخاصة من الناحية الإعلامية. كما إن بعض الأوساط اللبنانية، وخلافاً لتراث فكري لبناني عظيم، لم تنظر إلى بروز الكيان الصهيوني في جوار لبنان كخطر وجودي لكيان لبناني. فالدولة اليهودية الجديدة دولة نقيضة للوجود اللبناني، كونها دولة لطائفة بشكل حصري تستبعد وتهمّش وتضطهد أتباع الديانات والطوائف والمذاهب الأخرى، بينما لبنان، على عكس ذلك تماماً، هو دولة التعددية والعيش المشترك بحكم تكوينه التاريخي على أبواب منطقة الشرق الأوسط وهي تميّزت عبر تاريخها الطويل بتعددية عرقية ولغوية ودينية.
ويظهر أن فئة من اللبنانيين، أخذت تتوسع كثيراً في العقد الأخير، لم تقتنع بأن وجود إسرائيل بهذا الشكل العدواني السافر في الشرق هو تهديد لا مثيل له بالنسبة للوجود التعددي اللبناني، وذلك بالرغم من كل الوثائق والمستندات والخطط الصادرة من الدولة العبرية أو الأوساط الصهيونية في ضرورة القضاء على التعددية اللبنانية كنموذج مناقض للنموذج الإسرائيلي، وبالرغم من الوحشية التي أبدتها إسرائيل تجاه لبنان منذ أول هجوم كبير على مطار بيروت، في نهاية عام 1968. وقد أصبحت هذه الفئة من اللبنانيين تكبر بالحجم تحت تأثير ونفوذ بعض الحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة المتحالفة هي بدورها مع الكيان الصهيوني تحالفاً عضوياً. وتطوّع العديد من المثقفين العرب لنشر جو إعلامي فكري يقضي بجلد الذات العربية واللبنانية بحجة أن العرب واللبنانيين هم مسؤولون حصرياً عن فشلهم في ولوج الحداثة والديموقراطية والتعامل مع الكيان الصهيوني بالحكمة والروية لكسب عطف الولايات المتحدة التي ينظر إليها على أنها هي الوحيدة التي يمكن أن تلجم العدوانية الإسرائيلية.
وهذه الفئة ذاتها هي التي أصبحت تشير إلى سوريا على أنها هي السبب الرئيسي لمشاكل لبنان ومتاعبه، وهي العدو الحصري للبنان. وتناست هذه الفئة ما ارتكبته بعض الزعامات اللبنانية من استدعاء الجيش السوري عام 1976 لصدّ التحالف بين الحركات الفلسطينية المسلحة والحركة الوطنية اللبنانية، وبعد ذلك بعامين عملت الفئة نفسها لطرد الجيش السوري واستدعاء الجيش الإسرائيلي إلى لبنان، وعملت أيضاً للحؤول دون نجاح حركة العماد عون في القضاء على الميليشيات المسلحة وإعادة هيبة الدولة والجيش اللبناني. وقد يتناسى أيضاً اليوم الكثير من اللبنانيين أن الفساد الذي عمّ لبنان والإخفاقات في السياسات التنموية اللبنانية التي قضت على الطبقة الوسطى وجعلت ما بين ثلث ونصف الشعب اللبناني يعيش على خط الفقر أو دونه، هي بالدرجة الأولى من الصنع اللبناني، وإن شارك كبار المنفذين في هذه السياسات بعض المسؤولين السوريين في الإثراء والأرباح غير الشرعية التي تولّدت من تلك السياسات. وإذا كان للنظام السوري من خطيئة كبرى في لبنان، فهي سكوته عما كان يجري في لبنان من إفقار الشعب بحجة سياسات إعمارية وفرض نظام المحاصصة في الحكم اللبناني وهو نظام يتطلب باستمرار التحكيم بين الأفرقاء اللبنانيين الذين أصبحوا يتقاسمون خيرات هذا الوطن.
إن هذه الأمور الخطيرة، إن لم تناقش بعقلانية وموضوعية للوصول إلى قناعات مشتركة ونهائية في موضوع علاقتنا مع كل من سوريا وإسرائيل وأميركا، فإن كل الأمور الأخرى المختلف عليها لا يمكن حلّها وعلى رأسها قضية المنظومة الدفاعية التي يحتاج إليها لبنان والتي لا يمكن تحديدها ووصفها في غياب النظرة المتفق عليها حول هذا الأمر الجوهري. لذلك لا حل لقضية سلاح حزب اللّه ما دام هناك لبنانيون يرون بأن هذا السلاح هو فعلاً حماية للكيان اللبناني من عدوانية وأطماع إسرائيل من جهة، ومن يرى بالعكس من جهة أخرى أن هذا السلاح ليس إلا تعبيراً عن نفوذ إيراني وسوري في لبنان وهو يخلق الشعور بعدم الأمان عند اللبنانيين، بل عند بعض الناس الشعور بالتهديد المباشر في الساحة الداخلية وموازينها الطائفية والمذهبية الدقيقة.
ألم يحن وقت المناقشة الرصينة الجدّية على ضوء كل ما كتبه كبار المفكرين اللبنانيين حول طبيعة إسرائيل وتهديدها للكيان اللبناني، وكل ما كُتب أيضاً في الغرب عن هذه العدوانية وخططها في المنطقة، وخاصة كتابات المفكرين اليهود الغربيين المعادين للحركة الصهيونية وجوهرها العدواني وغير الأخلاقي في تاريخ الدين اليهودي، وكذلك كل ما يكتب في إسرائيل نفسها عن الخطط المستقبلية وطرق تأمين مزيد من الهيمنة الإسرائيلية على منطقة الشرق الأوسط.
ثانياً: التحدي الاقتصادي الوجودي للبنان في حال استمرار النظرة الضيقة للاقتصاد الوطني
هذا موضوع قد أثَرته مراراً وتكراراً في كتابات عدة، ولن أطيل فيه. وأعني بهذا الخطر الوجودي في اختصار، إمكانات وقدرات لبنان الإنتاجية والإبداعية في جميع الميادين، باقتصاد صفقات ومضاربات مالية وعقارية وشبكات فساد. والجريمة الكبرى التي ترتكب بحق اللبنانيين منذ 17 سنة هي هذا الإهمال لقدراتنا الذاتية والنظر إلى الكيان اللبناني على أنه مجرد وظيفة للآخرين (فكرية واقتصادية ومالية وعقارية)، وأن لا إمكان للبنان بأن يقيم اقتصاداً متنوّعاً وقوياً، بالإضافة إلى النظر إلى أنّ ظاهرة المديونية محتومة عليه كما المساعدات الخارجية التي يُدّعى أنه لا بد منها للبقاء على قيد الحياة.
وفي هذه النظرة المنحرفة والمبسّطة والمسيئة والملتوية ينسى اللبنانيون أن اقتصاد لبنان كان فعلياً اقتصاداً متنوعاً وقوياً، وعُملته كانت من أقوى العملات في العالم ولم تقع الدولة في أي نوع من المديونية حتى عام 1975. كما نسي جزء كبير من اللبنانيين ما أنجزه عهد الجنرال فؤاد شهاب في جميع الميادين، وبشكل خاص في الميدان التربوي والاجتماعي والزراعي، وفي توسيع البنية التحتية ووضع أنظمة الخدمة المدنية الحديثة، وكذلك قانون النقد والتسليف وقانون الضمان الاجتماعي وقانون المحاسبة العامة، وذلك في ظرف سنين معدودة وفي خضم تطورات إقليمية خطيرة، كانت تتميز أيضاً بتصادم عملاق بين سياسات الدول الغربية الكبرى المتحالفة مع إسرائيل وبعض الأنظمة العربية وسياسات معاداة الاستعمار والممانعة من قبل أنظمة وأحزاب سياسية عديدة في لبنان والمنطقة العربية. وقد تمكن الجنرال فؤاد شهاب من إرساء قواعد ازدهار واستقرار اقتصادي دامت سنين عديدة إلى أن انفجرت الفتنة الكبرى في عام 1975 حيث زالت كل الحدود بين الحلال والحرام في حياتنا الوطنية والاقتصادية والسياسية والمالية.
وعند انتهاء الحرب عام 1990 لم تتم محاسبة أحد على أعمال النهب والقتل والسرقة والتهجير، ولذلك بقيت تلك الحدود بين الحلال والحرام ـــ وهي أساس كل حياة اجتماعية آمنة ومستقرة ـــ مفقودة تماماً، وذلك بحجة الوفاق الوطني تارة أو نسيان السنوات السوداء للحرب وتأمين السلم الأهلي تارة أخرى. وبعد ذلك اعتاد اللبنانيون على استمرار شبكات الفساد، بل توسّعها، وعلى سرقة المال العام وعلى ترك قدرات البلاد الإنتاجية الضخمة غير مستغلّة وهي نابعة من قدرة هذا الشعب على الصمود والإبداع لإبقاء لبنان موحّداً وعلى قيد الحياة في أحلك ظروف تدميره خلال فترة 1975 ـــ 1990. وبدلاً من توظيف هذه القدرات في إعادة بناء البنية الإنتاجية للبلاد، تمّ توجيهها في الصفقات والمضاربات العقارية والمالية، الأمر الذي أدّى إلى إهمال الزراعة والصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة العالية. فكان الهم مركّزاً بشكل حصري على استجلاب الأثرياء من العرب ليشتروا عقاراتنا وبناياتنا وشققنا وجذبهم للإنفاق في لبنان في الفنادق الضخمة ودور اللهو، بينما يغترب الشباب اللبناني القادر والمتعلّم والطموح إلى ديار الأثرياء العرب أو إلى أوروبا وأميركا.
نتج عن ذلك كله الوضع الذي نحن فيه والذي يسبب هذه المعاناة الاجتماعية الضخمة ويشتت العائلات اللبنانية إلى أنحاء العالم ويساهم في ارتهان السيادة السياسية، وخاصة عندما تقوم الحكومة باستبدال الديون الداخلية بالديون الخارجية بحجة خفض كلفة الدين وتطويل آجاله. وطالما تبقى الديون داخلية، فإن نفوذ الدول الأجنبية يبقى محصوراً، أما استبدال الدين الداخلي بديون خارجية، فهذا ما يعطي لتلك الدول أداة إضافية للسيطرة على قرارات الوطن الاقتصادية والسياسية، أو على أقل تقدير التأثير عليها تأثيراً بليغاً. وعندما تعتاد دولة ما، في تسيير اقتصادها، على الاتكال على المساعدات الأجنبية من قروض وهبات بالعملات الأجنبية، فيصعب عليها بالتالي استنفار واستغلال القدرات الذاتية للاقتصاد الوطني للخروج من مأزق المديونية. ولذلك، هناك من لا يرى أن السياسة التي نمشي عليها منذ أكثر من عشر سنين في عقد المزيد من المديونية بالعملات الأجنبية أو مع دول أجنبية تؤدي حتماً إلى مزيد من ارتهان السيادة.
وكما هو معلوم، فمنذ صدور القرار 1559، ونحن نسير على درب تدويل الأوضاع اللبنانية، السياسية والقضائية والمالية لمصلحة فئة من الدول الغربية والأنظمة العربية في إطار الصراع المزمن على الهيمنة على هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم. وبعملنا هذا نخالف مرة أخرى روحية الميثاق الوطني الذي بدونه لا حياة للبنان. وإذا كان في الماضي بعض اللبنانيين الذين انخرطوا في تحالفات عربية وفلسطينية خرقت السيادة اللبنانية، فإن جزءاً من هذه الفئة ينخرط اليوم بتحالف عربي ـــ غربي يناقض أيضاً الميثاق الوطني وروحيّته.
هاتان القضيتان حَرِيتان لأن تصبحا على رأس أولويات أية مناقشة سياسية معمّقة حول مصير البلاد، فالقضايا الأخرى تحلّ تلقائياً أو بصعوبات بسيطة قابلة للتغلب عليها بسهولة في حال الاتفاق على هاتين القضيتين المركزيتين.
* وزير لبناني سابق