محمد طي*
مسألة المحاكم الدولية أصبحت مطروحة بشكل اعتيادي منذ تسعينيات القرن الماضي حتى يومنا الحاضر، إذ قام عدد من المحاكم:
* واحدة منها عالمية شاملة، وهي المحكمة الجنائية الدولية، التي انبثقت من اتفاقية روما بتاريخ 27 تموز 1998. إلا أن دولاً كثيرة لم تنضم إليها وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية.
* أما المحاكم الأخرى فقامت كل منها من أجل جرائم ارتكبت في دولة معينة، وأهمها المحاكم الجنائية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة ورواندا وكمبوديا...
أما محكمتا يوغوسلافيا ورواندا فقامتا على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لأن السلطة في الدولة كانت متهمة، فيما محكمة كمبوديا(1) قامت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأنها تستهدف محاسبة قيادات عهد منصرم، عهد الخمير الحمر الذي قضي عليه قبل أن يقوم نظام جديد.
واليوم تعمد الأمم المتحدة والسلطة القائمة في لبنان لإقامة محكمة ذات طابع دولي في لبنان لمحاكمة من سيتهمون بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وقد نشر الرئيس السنيورة مسوّدة النسخة المعتمدة من الحكومة اللبنانية لاتفاق مع الأمم المتحدة حول إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان ونظامها الأساسي(2). وما يجب ان يكون الأقرب، لا النماذج التي قامت لمحاكمة سلطات دول متهمة بكاملها كسلطات يوغوسلافيا السابقة أو رواند، والتي شكلت تحت الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بل النموذج الذي قام في دولة سلطتها الحاضرة غير متهمة، كما السلطة اللبنانية، وهي كمبوديا. سنقارن إذاً بين نظام محكمة كمبوديا ونظام محكمة لبنان، في الأحكام الأساسية التي في اعتقادنا تتناول: سبب الإنشاء، التسمية، تعيين القضاة، تكوين الدوائر (أو الغرف)، القانون الأساس، قوانين الإجراءات، موقع المحكمة بالنسبة إلى المحاكمة الوطنية، مقر المحكمة.
سبب الإنشاء: في لبنان، رأت السلطة ان القضاء اللبناني عاجز عن محاكمة مرتكبي الجريمة، بسبب ما تفترضه من تورط جهات إقليمية لن تستجيب للقضاء اللبناني، ولأن القضاء اللبناني كان في وضع غير مرضٍ بسبب ما تعرض له مما تسميه «زمن الاحتلال أو الوصاية المباشرة»، لذلك طرحت فكرة المحكمة الدولية حلاً لهذه المشكلة.
أما في كمبوديا، فقد طالبت السلطات بالمساعدة لمحاكمة من خرقوا القانون الكمبودي والقانون الدولي الإنساني في مرحلة ما سمّي حكومة «كمبوديا الديموقراطية» حيث قتل حسب الشائع مليونا كمبودي من أصل خمسة ملايين ما بين 1975 و1979.
التسمية: تنم التسمية عن حقيقة المحكمة وطبيعتها، وهي تختلف بين لبنان وكمبوديا.
ففي لبنان سميت المحكمة «محكمة لبنان ذات الطابع الدولي»، وفي كمبوديا سميت «الغرف الاستثنائية (extraordinaires) في المحاكم الكمبودية». فما الفرق؟
ــ في حالة لبنان، نحن أمام محكمة مستقلة عن السلطة القضائية اللبنانية، ما يطرح إشكالاً دستورياً لتعارضها مع المادة 20 من الدستور اللبناني.
ــ أما في حالة كمبوديا، فهي محكمة استثنائية في السلطة القضائية الكمبودية، الأمر الذي لا يتصادم مع حصر الدستور للسلطة القضائية بالمحاكم الوطنية، فمحكمة كمبوديا وطنية وإن تكن مطعّمة بقضاة أجانب.
تعيين القضاة: وهنا يقوم اختلاف عميق بين الصيغة التي وافقت عليها السلطة القائمة في لبنان وصيغة كمبوديا.
ففي لبنان وبناءً على المادة 2/5 من الاتفاق، يعيّن الأمين العام القضاة اللبنانيين من ضمن قائمة تقدمها الحكومة، والدوليين بناءً على ترشيحات من جهة دولية، ويعيّن أيضاً المدعي العام (المادة 3). وفي كل ذلك يشاور الأمين العام الحكومة اللبنانية التي تعيّن نائباً للمدعي العام بالتشاور مع الأمين العام.
أما في كمبوديا فإن المحكمة تُؤلّف من «قضاة» كمبوديين من جهة، ومن قضاة يعيّنهم مجلس القضاء الأعلى الكمبودي بناءً على اقتراح الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة (المادة 3).
تكوين الدوائر (الغرف): وتهمّنا هنا نسب القضاة الوطنيين والأجانب لتحديد صورة الهيمنة: في لبنان، سيكون المدعي العام وقاضٍ في فترة ما قبل المحاكمة، وقاضيان من أصل ثلاثة في كل من دائرتي البداية، وثلاثة قضاة من أصل خمسة في دائرة الاستئناف، إضافة الى قاضٍ مناوب، أي تسعة قضاة من الأجانب. فيما سيكون نائب المدعي العام وقاضٍ واحد في دائرتي البداية، وقاضيان في دائرة الاستئناف، من اللبنانيين.
أما في كمبوديا فسيكون الدوليون قاضيين في محكمة البداية وثلاثة في المحكمة العليا (استئناف)، إضافة الى قاضي تحقيق ومدع عام، أي سبعة أعضاء. أما الكمبوديون فهم ثلاثة قضاة في البداية، و4 في المحكمة العليا (استئناف) مع قاضي تحقيق ومدع عام، فيكون العدد تسعة قضاة، ومجموع القضاة ستة عشر قاضياً:
خمسة في البداية وسبعة في الاستئناف، إضافة الى قاضيي تحقيق ومدعيين عامين.
القانون الأساس: في هذه المسألة يطرح مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. وإذ لا يجوز التجريم على فعل بعد وقوعه، ولا تُشدد كذلك عقوبة على مثل ذلك الفعل، بعدما تكون أخف قبل وقوعه. وفي لبنان تطرح المسألة أمرين:
أولاً: القانون المنوي اعتماده، وهنا يرد قانون العقوبات اللبناني، ولكن مع إحياء قانون وضع عام 1958 (قانون ريمون إده) لتشديد بعض العقوبات وصولاً الى الإعدام، علماً بأن المحاكم الدولية لا تطبق الإعدام.
ثانياً: الأشخاص المسؤولون، وهؤلاء يُحدَّدون من دون الرجوع الى القانون اللبناني، بل يجري النص على المرتكب والمساهم والرئيس بشروط معينة تحمل الكثير من المطاطية والاستنساب، وفي هذا تشريع جديد يحل محل القانون اللبناني الذي يعاقب الفاعل والمحرض والمتدخل والمخبئ (المواد 210 ــ 222) مع تحديد لكل منهم. وأي تغيير فيهم يعد تشريعاً جديداً يتناقض مع مبدأ شرعية الجرائم.
أما في كمبوديا فإن القانون المطبق هو قانون العقوبات الكمبودي والقواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني والاتفاقات التي انضمت إليها كمبوديا، وأصبحت جزءاً من قانونها (المادة الأولى). أما الأشخاص الذين ستطالهم المحكمة فهم قادة حكومة «كمبوديا الديموقراطية» والمسؤولون الأساسيون عن الجرائم التي عرّفها القانون الكمبودي وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية (المقدمة البند «1»).
قانون الإجراءات: إن قانون الإجراءات بأهمية القانون الأساس، وهو يجب ان يكون، كما القانون الأساس، واضحاً ومحدداً، ولكن الأمر يختلف بين لبنان وكمبوديا. ففي محكمة لبنان يرد في المادة 28 من النظام الأساسي.
1 ــ يضع قضاة المحكمة الخاصة، بأسرع ما يمكن بعد تولّيهم مناصبهم، القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات... ويجوز لهم تعديل القواعد حسب الاقتضاء.
وهذه مسألة خطيرة. إلا أن الفقرة الثانية تلطّف منها، فتحدد مصادر الإجراءات معطيةً دوراً للقانون اللبناني، إذ تقول:
2 ــ يسترشد القضاة في قيامهم بذلك حسب الاقتضاء، بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني وكذلك بالمواد المرجعية الأخرى التي تنم عن أعلى معايير الإجراءات الجنائية الدولية...
وبهذا يصبح القضاة مشرّعين ومنفذين، ما يعيدنا الى زمن البرلمانات الفرنسية قبل الثورة. أما في كمبوديا، فقانون الإجراءات هو القانون الكمبودي (المادة 12)، إلا انه في الحالات التي لا يلحظها وكذلك في حال التعارض، فإن قواعد الإجراءات المعتمدة دولياً يمكن ان تشكل المرجعية.
موقع المحكمة بالنسبة إلى المحاكم الوطنية: في لبنان للمحكمة الأولوية على المحاكم اللبنانية التي عليها ان تحيل عليها أوراقها وتحقيقاتها بعد شهرين من تسلم المدعي مهماته، حتى من دون ان تكون التحقيقات قد انتهت وصدرت قرارات بخصوصها. وإن للمحكمة أن تعيد محاكمة أشخاص حوكموا أمام المحاكم اللبنانية (المادة 5) إذا كانت «إجراءات المحكمة الوطنية تفتقر الى الحياد والاستقلال أو إذا كانت موجهة نحو حماية المتهم... أو لم يكن الادعاء قد أدى دوره بالعناية الواجبة».
وفي هذا تشكيك بالقضاء اللبناني وتنكّر لمبدأ عدم جواز المحاكمة على الفعل الواحد مرتين non bis in idem، لأن الحكم الصادر على شخص يوليه حقاً مكتسباً لا يجوز التنكر له. وهذا النص مستعار من نظام محكمة رواندا التي عملت في دولة برّأ قضاؤها المجرمين بالجملة، وهو الأمر غير الوارد في لبنان.
أما في كمبوديا، فليس من ترتيب من هذا النوع، لأن المحكمة الخاصة حددت صلاحياتها بدقة ولم يبق من مجال للتزاحم في الصلاحيات.
مقر المحكمة: يختلف أمر المقر في لبنان عنه في كمبوديا، وللمقر علاقة بالمصاريف وبإمكانية زيارة الأهل وتكاليف المحاماة. ومع ذلك، فمقر المحكمة الخاصة بلبنان يجب ان يكون خارج لبنان (المادة 8)، أما محكمة كمبوديا فهي في كمبوديا.
يتبين لنا من خلال هذه المقارنة مدى حرص كل من السلطة اللبنانية والسلطة الكمبودية على السيادة الوطنية لكل منهما.
1 ــ راجع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 228/57 بتاريخ 22 أيار 2003.
2 ــ راجع الجريدة الرسمية اللبنانية بتاريخ 14/12/2006.
* خبير قانوني