خورشيد دلي *
أفرز الاحتلال الأميركي للعراق واقعاً جديداً في علاقة تركيا بأكراد العراق، وغيّر المعادلات السابقة للعلاقة بين الجانبين، إذ يوم بعد آخر تواجه السياسة التركية وضعاً صعباً إزاء التطورات الجارية في كردستان العراق حيث تصاعد المد القومي الكردي مع بروز ملامح دولة كردية تُؤسس بـ(التقسيط) على أرض الواقع إلى درجة ان هذا الواقع الجديد أصبح مصدراً للتوتر بين أنقرة والأكراد في كل من العراق وتركيا بعد ذهاب أحد قادة أكراد تركيا إلى اعتبار ان أي هجوم تركي على كركوك هو بمثابة هجوم على دياربكر.
في الواقع، مع اقتراب موعد حسم معركة كركوك ثمة حرب متعددة الجوانب تدور بين تركيا وأكراد العراق حول تحديد الشكل المستقبلي الذي ينبغي أن يكون عليه إقليم كردستان العراق في المرحلة المقبلة، إذ يتخوف كل طرف من الآخر وما يضمره له من أهداف وسياسات غير معلنة. تركيا تخاف من ان تسفر التطورات الجارية في كردستان العراق عن دولة كردية تلهب أحلام أكراد تركيا والمنطقة بكيان قومي يجمعهم على حساب تركيا بالدرجة الأولى حيث يزيد عدد أكرادها على عدد أكراد العراق بأضعاف، فيما المخاوف الكردية التاريخية من تركيا تظل دفينة وقائمة تحت حجج الأمن ومكافحة الإرهاب (حزب العمال الكردستاني) والحقوق التاريخية والدفاع عن حقوق التركمان. وعليه فإن العلاقة بين الجانبين منذ احتلال العراق تأخذ شكل أزمة عنوانها فقدان الثقة على الرغم من أهمية كل جانب للآخر في معركة الحسابات والمصالح. اللافت في المعادلة الجديدة لعلاقة تركيا بأكراد العراق هو سقوط المبررات التقليدية للسياسة التركية تجاه شمال العراق، ولعل أسباب ذلك كثيرة ومن أهمها:
1 ــ إن الإدارة الأميركية التي أعلنت مراراً منذ احتلال العراق أنها لن تسمح لدول الجوار العراقي بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق حرصاً على نجاح خططها هناك، جعلت من هذه السياسة بمثابة تأكيد قطعي لأنقرة أن سياسة التدخل والتوغل في شمال العراق انتهت وان الاستمرار في النهج القديم سيؤدي إلى الاصطدام مع الإدارة الأميركية نفسها، وهذا ما تأكد مجدداً خلال المحادثات التي أجراها كل من وزير الخارجية التركي ورئيس هيئة الأركان في واشنطن أخيراً.
2 ــ إن المحرمات أو الخطوط الحمر التي وضعتها تركيا لنفسها في السابق تجاه شمال العراق سقطت مع دخول القوات الكردية مدينتي كركوك والموصل ومن ثم السيطرة الأمنية على المدينتين والعمل على تحقيق مكاسب سياسية وإدارية ودستورية. ومع هذا الوضع الجديد باتت أنقرة في معضلة حسابات وباتت ترى ان خطوطها التقليدية الحمر (الحقوق التاريخية ــ مسألة التركمان ــ وضع مدينة كركوك..) تجاوزتها التطورات وأن أي خطأ في حساباتها في هذا الخصوص قد يكلفها الكثير الكثير. أمام هذه المتغيرات الجديدة أضحت السياسة التركية أمام محنة حقيقية في شمال العراق، ومع هذه المحنة ازداد الجدل بين القوى التركية في الطريقة الأفضل لسياسة بلادهم تجاه العراق وسط ريبة من سياسة الحليف الأميركي الذي وصف بالاستراتيجي منذ أكثر من نصف قرن.
وفي الإجمال يمكن القول إن تركيا في مواجهة هذه المحنة تحركت على مستويين،
الأول: التحرك على المستوى الأميركي من أجل القيام بعملية عسكرية مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني الذي احتفظ بمواقع عسكرية في شمال العراق، وقد فشلت الجهود التركية حتى الآن في إقناع الإدارة الأميركية بمثل هذه العملية، ولعل أقصى ما حققته في هذا المجال هو تعيين الإدارة الأميركية الجنرال المتقاعد جوزيف رالستون منسقاً بين الحكومتين العراقية والتركية لشؤون مكافحة الإرهاب الكردستاني (حزب العمال الكردستاني) وسط تقارير تركية تشير إلى ان علاقة ما تكونت بين الإدارة الأميركية والحزب المذكور في مرحلة ما بعد احتلال العراق، حيث أكد رالستون مراراً عدم جدوى التدخل العسكري التركي في شمال العراق وضرورة التنسيق مع أكراد العراق بشأن مستقبل الحزب المذكور.
الثاني: التحرك على جبهة الحكومة العراقية وتحديداً مع رئيس الحكومة، وهذا ما حصل خلال زيارة المالكي لأنقرة ومن قبل مع إبراهيم الجعفري، إذ تحاول تركيا دفع الحكومة العراقية إلى التحرك لضبط الإيقاع الكردي العراقي بعيداً من مشاريع الانفصال أو الاستقلال، إلا ان هذا المستوى من التحرك لم يحقق النتائج المرجوة تركياً نظراً إلى أن المسألة على الأرض تجاوزت قدرة الحكومة العراقية التي تترنح على فصول الوضع الأمني المتفجر في البلاد. من دون شك، تركيا في أزمة خياراتها تجاه العراق تقارن بين حسابات الربح والخسارة.. بين من يرى بضرورة مراجعة السياسة التركية التقليدية إزاء أكراد العراق والدخول في علاقة مباشرة معهم كما طالب بذلك أردوغان وغول أخيراً، وبين من يرفض مثل هذا الخيار ويصر على إبقاء الخيار العسكري في الوقت المناسب كما هي حال المؤسسة العسكرية.
وهكذا فإن الخلاف بين تركيا وأكراد العراق على كركوك وحزب العمال الكردستاني وخصوصية الاعتراف بالوضع الكردي العراقي إدارياً تحول إلى خلاف تركي ــ تركي بين المؤسستين السياسية والعسكرية وسط تأييد أميركي للأولى التي بدأت تسحب البساط من تحت الثانية مع تراجع بريق خيار السعي للانضمام إلى العضوية الأوروبية بعد قرار بروكسل التجميد الجزئي لمفاوضات العضوية الأوروبية مع أنقرة.
* كاتب سوري