ناصيف قزّي *
لم يتردَّد أحدُ المتبصِّرين من الزعماءِ اللبنانيّين، عشيَّة اندلاع «حرب السنتين»، في الإفصاح عن قناعاتٍ ثَبُتَت لديه، وهو السياسي الممتلئ ثقافة، والذي اتَّبع الحكمةَ مذهباً، والتصوفَ مسلكاً، وعباداتِ الشرق القديم قدوةً، لم يتردد بايزيد في الإفصاح عن قناعات مفادُها أنَّ مذنَّباً يمرُّ فوق لبنان، فيتسبَّبُ لنا بالمعاصي والشرور. وكم تناقل الناس تلك الحكاية، يومذاك، بعضهم لطرافتها ولما تثيره من غرابة، وبعضهم الآخر لإيمانٍ دفين لديه، ركيزتُه ملامَةُ النفس، بأنَّ ما يجري ربما كان حقاً «غضباً إلهياً» على بلاد الأرز... وما أشبه اليوم بالأمس. فبعيداً من تلك الملامتيَّة الطوباويَّة التي يمارسُها بعضُنا، يركن الكثير من اللبنانيين اليوم، على مدار الساعة، الى أعمال المنجّمين وتوقعاتهم المدوَّنة، لشرح أي ظاهرة قد تطرأ، أو لمعرفة ما سيستجدُّ من أحداث، حتى إن بعضَهم بات يربط المسار الكوني كلَّه بما قاله فلان أو علّان من قارئي الفنجان... أشباهِ الآلهةِ في مجتمع تشوَّه فيه الإيمانُ القويم، الى حدٍّ اختلطت عنده، في نفوس الناس، حقائق وأوهام.
قد يندرج هذا الفهم للأمور في سياق ما كانت الشعوب البدائيَّة تعلِّلُ النفس به، لشرح بعض ظواهر الطبيعة، وذلك قبل أن قدَّمت العلوم تفسيرها لتلك الظواهر، بحيث أمسى الإنسان، وبالمعرفة، سيداً للطبيعة.
في أي حال، ومهما تكن التكهنات والتوقعات، وبعيداً مما يمكن أن نقدِّمَه من مسبّبابٍ للأحداث التي نعيش، فالمذنَّب الذي حُكيَ عنه في بدايات الحرب اللبنانيَّة، أصبح اليوم مذنَّبات، قل مذنَّبون... بل آدميون يُتقنون شتى فنون التعبير والإشارات. وجلُّهم سياسيّون يدورون حول أصابعهم وحول العالم، فيطلقون العنان لأفكارهم وحكمهم... قل نزواتهم، تارة على المنابر والمنصّات، وطوراً في الصحف والإذاعات والشاشات. فيثيرون الريبة والقلق والتعجب، وكلَّ أشكال الانفعالات، في نفوس المواطنين الأبرياء.
أيعقُل أن يصيرَ الكلام في السياسة فجوراً، بل إمعاناً بالفجور؟
أيعقلُ ألّا يَخرُجَ من بعضِ الثغورِ إلاَّ الشرور، وأن يصبحَ الرصاصُ بين السطور؟
في الواقع، إن ما سمعناه من تصريحاتٍ لبعض مذنَّبي قوى الأكثريَّة، في دورانِهم المستمر حول العالم، والذي لم يقطعْه سوى هبوطٍ متكرّر في واشنطن ونيويورك وبروكسيل وباريس وغيرها من عواصم القرار، على إيقاع سياسة دوليَّة أحاديَّة المصالح والأهداف؛ إن ما سمعناه من تصريحات، من ربط الوضع اللبناني بالشأن الإقليمي الى إعادة النظر في الجيش وعقيدته، مروراً بضرورة تجريد المقاومة من سلاحها قبل استرجاع الحقوق المغتصبة وقبل بناء الدولة القادرة والعادلة، وما الى ذلك من أحاديث، لا يشي بأن فريق السلطة ضنين بالحلول التوافقيَّة، والتي من دونها لا يمكن البلاد أن تعود الى مسارها السليم... وإلا فلماذا هذا التعجُّل في اتخاذ القرارات، واستباق كلِّ محاولات التسوية التي تعمل عليها جهات لبنانية وعربيَّة، وحتى دوليَّة؟ ثم، لماذا هذا الخروج الفاقع عن أدبيات الحوار ومقتضياته؟
وبعد، هل يدفعنا زعيم الأكثريَّة النيابيَّة في لبنان، بإعلانه من بروكسيل، أنه وحلفاءَه لا يملكون السلاح ولا يسعَون الى ذلك، هل يدفعنا الى الاعتقاد بأن الصحون الطائرة هي التي حطَّت في بيروت، وأطلقت النار على الطلاب المسالمين في منطقة الجامعة العربيَّة وعلى الجيش؟ وأن المتظاهرين في الكورة وجبيل هم الذين استداروا حول أنفسهم وأطلقوا النار في ظهورهم... وأنهم عند نهر الكلب، ونهر الموت، هم الذين ضربوا أنفسهم بالحجارة والعصيّ ضرباً مبرحاً؟
وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من التحريض الرخيص الذي لجأ إليه بعض أطراف السلطة، وما أشيع من أخبار عن إمكان عودة الحرب الأهليَّة، ظلَّ أركان المعارضة، من الرئيس بري الى الرئيس الحص، مروراً بالعماد عون وبقية الحلفاء، متخطّين حالة القرف التي قد تنتابهم من حين الى حين بسبب تعنّت السلطة الذي يخفي ما يخفيه من ارتهانات، وما يلحقه من ضرر بمصالح الناس، ظلوا معتصمين، كما في الساحات، بثوابتهم الوطنيَّة التي تؤكد استحالة قيام لبنان إلا على التوافق والشراكة الحقيقيَّين. أما عن حزب الله، فقد تبيَّن للملأ أن التزامه السلم الأهلي لا يقلّ قوة عن إيمانه بقدسيَّة الدفاع عن الأرض وأبناء الأرض.
وبموازاة ذلك، فقد ظلَّ درج الصرح البطريركي في بكركي مسرحاً للكثير من التصريحات والمجادلات العقيمة. ففي خضم معركة انتخابات الرابطة المارونيَّة، أعلن أحد كبار رجال الأعمال المرشحين لرئاستها، كلاماً فيه من التكابر ما لا يليق بمرجعية تلك الرابطة التي هي بالتحديد البطريركيَّةُ نفسُها، ولا بالموارنة وببعض رموزهم الأفذاذ الذين تولَّوا مهمات تلك الرابطة في مرحلة سابقة... كلام مفادُه أنَّ المرشّحَ المذكور ورفاقَه «‏ليسوا في حاجة الى أيّ موقع في الرابطة ليرفعَ من شأنهم، بل إن مجرّدَ دخولِهم إليها هو الذي ‏يرفع من شأن هذه الرابطة». وتكرَّرَت تصريحات بعض الساسة المسيحيين ومواقفهم من العماد عون التي وإن دلَّت على شيء فإنما تدل على حالة مَرَضِيَّة تنتاب هؤلاء إزاء آرائه المتقدِّمة ومواقفه الصلبة في وجه شتى المؤامرات التي تحاك ضد لبنان وشعب لبنان. وفي وقت ضلَّ أصحاب المؤسسات السياحيَّة في وسط العاصمة الطريق، بحيث جاؤوا يطالبون مَن مِن المفترض أن يكونوا الى جانبه في مطالبته المحقة بإعادة تكوين السلطة على قاعدة الشراكة الحقيقية كمدخلٍ لإنهاء الاعتصام، ارتفعت أصوات، هنا وهناك، تنادي بالفدراليَّة، وكان آخرها موقف رهبانيّ لافت، دعا الى اعتماد ما سماه «الفدراليَّة الإنمائيَّة المفتوحة»... ناهيك عما يبشِّرنا به وزير العدل، بعد زياراته المكوكيَّة، من أن «الدولة الموحَّدة سقطت وأصبحنا أمام كونفدراليَّة الأمر الواقع»، وأنه «بين عدم توافر العدالة وإنشاء المحكمة وفق الفصل السابع»... فهو يحبّذ الخيار الأخير.
إننا، إزاء هذا الواقع، وبعد تبخّر مشروع وزير الدفاع الإصلاحي للأجهزة الأمنيَّة، وخوفاً من تضليل الناس، فيبقى الرصاص بين السطور، وكي لا تضطر المعارضة الى إعلان العصيان المدني إحقاقاً للحق، نناشد غبطة البطريرك الماروني وأصحاب السيادة المطارنة، أن يأخذوا بعين الاعتبار في بيانهم الشهري الآذاري، الذي سيصدر بعد يومين، كل تلك المسائل، معتمدين ما يلي:
أولاً، وجوب التمييز بين المعتدي والمعتدى عليه... بين الضحيَّة والجلاد، في ما جرى ويجري من اضطرابات.
ثانياً، ضرورة اتخاذ موقف حازم من مسألة التسلُّح، وذلك بالابتعاد من التعميم والألغاز، وبالتالي تسمية الأشياء بأسمائها.
ثالثاً، رفض أي شكل من أشكال المساس بالجيش الوطني تحت أي ذريعة كانت في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد.
رابعاً، مطالبة السلطة بالقبول بالتسوية العادلة المنسجمة مع «ثوابت الكنيسة المارونيَّة» التي تتضمن الى إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، تأليف حكومة وحدة وطنيَّة يصار بعدها الى إقرار قانون انتخابي عصري وإجراء انتخابات مبكرة، تليها انتخابات رئاسيَّة.
خامساً، ضرورة حسم المواقف التي تخص المسيحيين، لجهة الهويَّة والعلاقات مع الجوار والنظام السياسي وما الى ذلك، بحيث تأتي منسجمة مع النصوص الكنسيَّة، وفي مقدمها الإرشاد الرسولي والمجمع البطريركي الماروني الأخير.
سادساً، العمل على إقفال ملف المهجرين بأسرع وقت ممكن، وبصورة عادلة تحفظ حقوق الجميع.
سابعاً، العمل مع الجهات المعنيَّة لكشف مصير المعتقلين في السجون السوريَّة وإعادتهم الى ذويهم، واستعادة المبعدين اللبنانيين من إسرائيل.
سابعاً، رفض التوطين ومطالبة المجتمع الدولي باستصدار قرار في هذا الشأن.
ثامناً، رفض كل أشكال التقسيم بما في ذلك الفيدراليَّة التي هي شكل من أشكاله.
لقد أمست سياسات بعض أطراف السلطة أشد إيذاءً من القتل والتهجير والتشريد الذي حلَّ بنا طوال سني المحنة... وكأنني بأمراء الحرب اليوم، بتواصلهم وتناغمهم، يسترجعون ما كانوا بدأوه، فيرصدون إشارات الحياة في أجسادنا لخنق الهواء.
إننا، ومن عمق معاناتنا على دروب الوطن، نسأل هؤلاء الساسة، ولا سيما المسيحيّين منهم:
أتريدوننا حقاً أن نعيش؟
حملوا عنا، إذاً، نظرياتكم التي أثبتت عقمَها... وكلَّفَتنا ما كلفتنا من تهجير وتدمير.
أتريدون حقاً ألا نحمِّلَ أمتعتنا ونرحل؟
التزموا، إذاً، الكنيسة وثوابتها، لجهة الشأن الوطني... وإذا ما رفضتم، فابحثوا لكم عن كنيسة على قياس قناعاتكم والأوهام... ودعونا وشأننا بما نحن به مؤمنون.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة