نصير أحمد*
شكل الكمبيوتر الشخصي أو الحاسب الآلي الركيزة الأساس التي قامت عليها الثورات التكنولوجية المتلاحقة، ابتداء بـ«الإنترنت» وليس انتهاء بـ«الطريق السريع للمعلومات»، الذي هو شيء مختلف كلياً سرعان ما ستضح معالمه عندما تبدأ التقنيات المتفرعة عنه بالظهور في المستقبل القريب. وإذا كان الإنترنت ــ كما كان قد تنبأ «بيل غيتس»، صاحب شركة «مايكروسوفت» للبرمجيات، والرجل الأغنى في العالم، في كتابه «الأعمال بسرعة الأفكار» ــ قد استطاع أن يغيّر كل شيء، فإن المسألة أيضاً بالنسبة إلى الطريق السريع للمعلومات لا تتعلق بتقنيات جديدة سوف تأخذ مجراها بقدر ما تتعلق بطريقة حياة جديدة ونظام عيش مختلف سيعيشه البشر على هذه المعمورة. إذاً فقد كان مصيباً «نيكولاس نيكروبونتي» ــ الذي يعتبر مرشد الثورة المعلوماتية في العالم ــ منذ البدء عندما قدم رؤيته عن «العالم المُحَوْسَبْ»، إذ قال: «إن الحَوْسَبة ليست أبداً كل ما يتعلق بالحاسبات الآلية، بل كل ما يتعلق بالحياة».
مع كل ثورة جديدة تحدث في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، هناك العديد من الخدمات الجلية والمهمة التي يمكن أن تقدمها هذه الثورة من خلال التقنيات المتفرعة، بحيث يستفيد منها العلماء في مختلف مجالات العلوم، وفي كل حقل من حقول النشاط الإنساني. وقد تجلت هذه الاستفادة من خلال العمل مع أنظمة عرفت بأنظمة الاتصال (communication systems)، التي تقدم سبيلاً سهلاً للوصول إلى المعلومات من خلال ما يعرف ببنوك أو قواعد للمعلومات أو للبيانات، والتي هي عبارة عن نظم لإدارة المعلومات المخزنة في ذاكرة الحاسب الآلي واسترجاعها حين تدعو الحاجة، بطريقة سهلة ومبسطة وسريعة، إلا أن أكثر ما تجلت فيه هذه الاستفادة كان من خلال تطوير برامج ذكية عرفت بالأنظمة الخبيرة (expert systems) القادرة على اتخاذ القرار، أو أنظمة المشورة أو الأنظمة الاستشارية المساعدة في اتخاذ القرار (advice systems) التي جاءت نتيجة لأبحاث تناولت مسألة الذكاء الاصطناعي للآلة (artificial intelligence). وهذا ما ظهر بشكل واضح في مجال الطب على سبيل المثال، حيث أصبح الكمبيوتر أداة أساسية للعمل كالمسماع.
لم يكن القانون كعلم بعيداً من هذه الخدمات أو من تلك الاستفادة، إذ ومنذ البدء نشأت هناك علاقة ود ما بين القانون والحاسبات الآلية، واستفاد رجال القانون من تقنيات الترقيم والأتمتة المتأتية من ثورة الكمبيوتر الشخصي، في عملية أرشفة وتخزين واسترجاع المعلومات القانونية سواء بشكلها الخام أو بعد شغلها وتحويرها، فصار هناك ما يعرف ببنوك المعلومات القانونية، الأنظمة الخبيرة أو المساعدة على اتخاذ القرار القانونية، الموسوعة الإلكترونية القانونية، برامج تعليم القانون بواسطة الكمبيوتر،..
ومع مجيء الإنترنت الذي استطاع بشبكته المترامية الأطراف أن يضيف العديد من الخدمات وأن يقدم العديد من الفوائد في مجالات العلوم المختلفة، ومنها المجالات القانونية، بحيث تطورت العلاقة بين القانون والمعلوماتية إلى نوع من التزاوج. هذا التزاوج أنجب وليداً سمي المعلوماتية القانونية أو تكنولوجيا المعلومات والقانون. إلا أن العلاقة بين المعلوماتية والقانون لم تقتصر على مجرد استفادة هذا الأخير من المعلوماتية كما بقية أقسام العلوم. فإذا كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد استطاعت أن تقدم العديد من الخدمات وأن تحقق الكثير من الفوائد، فإنها في الوقت نفسه طرحت العديد من المشاكل التي هددت بنسف كل ما تم التوصل إليه من إنجازات، إلى حد أن البعض توقع حدوث أزمة قد تفضي إلى كساد كبير في قطاعات تكنولوجيا المعلومات، نتيجة تزعزع الثقة بهذه التكنولوجيا الجديدة.
وكأي نظام في العالم يحتاج إلى الثقة والأمان والاستقرار لكي يبقى ويستمر، احتاجت المعلوماتية إلى تلك العوامل الأساسية. وهنا جاء الدور على المعلوماتية كي تستفيد من القانون وقواعده المنظِّمة للعلاقات ولطرق التواصل والاتصال داخل المجتمعات، تنظيماً من شأنه العمل على تحقيق الخير العام للأفراد، وكفالة المصلحة العامة للمجموع، ويؤدي في النهاية إلى تعزيز الثقة بهذه التكنولوجيا الجديدة بدلاً من تزعزعها. من هنا كان الحديث عن قوانين المعلوماتية أو قوانين عصر المعلومات.
مع كل تغيّر في طبيعة العلاقات التي تحكم الحياة البشرية على هذه المعمورة، لا بد من قوانين منظمة لتلك التغيرات، وإذا كانت الثورات على اختلاف أنواعها ومنها الثورات التكنولوجية قد استطاعت أن تغيّر في طبيعة هذه العلاقات، فلا بد إذاً من منظومة قوانين جديدة أو مستحدثة أو مطورة تحكم أو تلحظ هذا التغير الحاصل. فإذا كان تيسّر الاتصالات والعمليات الكمبيوترية الحرة قد أدى إلى تغيير في طبيعة العلاقات بين الأمم، وفي ما بين الجماعات الاقتصادية داخل الأمم، وفي ما بين الأفراد داخل الجماعات الاقتصادية، فإنه كان لا بد من قوانين منظمة لهذه العلاقات الجديدة ولطرق التواصل والاتصال الناشئة والمستجدة كي لا تسود شريعة الغاب الإلكترونية. إن هذا الاستنتاج سيقودنا إلى سؤال آخر هو: هل على التطور والتقدم التكنولوجي أن ينتظر رجال القانون ليقوموا باستصدار قوانين منظمة قبل أن يأخذ مجراه؟ وهل بوسعه انتظار هذه القوانين؟ أم على القوانين أن تواكب حركة التطور والتقدم وأن تعمل على حل المشكلات الناشئة منه وذلك لجعله أكثر نفعاً وأقل سلبية؟. وإذا كان من البديهي الجواب بأنه ليس بوسع التكنولوجيا انتظار قوانين منظمة، فإن على رجال القانون أن يبذلوا ما بوسعهم وغاية جهدهم لجعلها أكثر نفعاً وأقل سلبية.
إن التقدم التكنولوجي سوف يجبر المجتمع على مواجهة مشكلات جديدة شائكة ليس بالإمكان التنبؤ إلا بالقليل منها، وإذا كان بإمكان الدول أن تسعى لحل المشكلات الناشئة أصلاً، أو التي يمكن توقعها ولو بشكل عام في إطار النظريات، فماذا تفعل مع تلك التي لا يمكن أن تتوقعها والتي لا يمكن في الأصل توقعها؟
أيضاً عندما كثرت في الآونة الأخيرة أعمال التعدي على الماركات التجارية المشهورة التي تملكها الشركات الكبرى، عبر تسجيلها كعناوين لمواقع الإنترنت، وذلك باستغلال المـبادئ المعتمدة في منح العناوين من قبل الهيئات المانحة.
إزاء هذا الواقع الذي لا يمكن دفعه، ستجد الدول نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما. أولاً: مواءمة منظومة القوانين الوضعية التقليدية وتطبيقها، أو تطويرها لكي تصبح قابلة للتطبيق على هذا النوع من الظواهر الجديدة مع ما في هذا الأمر من صعوبات، في ظل عالم افتراضي متداخل ومترامي الأطراف، وفي ظل عجز هذه القوانين أحياناً عن الإحاطة بكل جوانب هذه الظواهر الجديدة كما حصل مع الفيليبين والولايات المتحدة الأميركية. وثانياً: استحداث قـــــــــــــوانين جديدة لحل المشكلات الناشئة وطبعاً البقاء على جهوزية لمواجهة ما يمكن أن ينشأ، وهذا ما حدا دولة الفــــــــــــــيليبين على استصدار قانون جديد في 4 حزيران من الســـــــــــنة نفسها يُطبق على الجرائم السيبرية، ويعاقب هذا النوع من الإجرام، وما دفع المشرّع في الولايات المتحدة الأميركية إلى استصدار قانون مكافحة قراصنة العناوين Anti Cybersquater Consuomer Protection Act (ACCP).
إلا أن الصعوبة وكما كنا قد أسلفنا تنشأ في أن هناك بعض الظواهر لا يمكن توقعها في الأصل، فكيف يصار إلى معالجة شيء لا يمكن معرفة كنهه أو طبيعته. والحل التقليدي يكون هنا عبر التصدي لهذه المشكلات كلما ظهرت، والمشكلة تقع هنا، ما العمل في هذه الفترة أي بين اكتشاف المشكلة أو الخلل أو القصور التشريعي، وبين معالجتها باستحداث قوانين جديدة أو تطوير قوانين تقليدية؟ هنا ستسود حالة من حالتين، إما تطويع منظومة القوانين التقليدية في معالجة هذه المشاكل المستجدة ما دام ذلك ممكناً أو متاحاً، وإما على مجتمع المعلومات في هذا الوقت الضائع أن يتحمل زمرة من الأشرار الذين لا يقيمون وزناً للنواميس الطبيعية.
بناء على ما تقدم لا بد من التفكير في المستقبل، وخصوصاً في واقعنا العربي، والبدء انطلاقاً من طرح الأسئلة العمومية بتلمس ما سوف يحصل لنا في المستقبل القريب والقريب جداً، وبتنظيم مجتمعاتنا وإعدادها للدخول في عصر المعلومات أو الطريق السريع للمعلومات أو في عصر الإنسان الآلي، ويجب في هذا الإطار تأليف لجان دائمة من اختصاصيين مهمتها أن تطرح على بساط البحث قوانين منظمة للعلاقات في مجتمع المعلومات، وأن تبقى مستعدة لمواجهة كل ما يطرأ، ومستنفرة لكل ما يمكن أن يستجد، وذلك كي لا نبقي أنفسنا تحت رحمة الفجوة الرقمية الآخذة في الاتساع بين الشرق والغرب، والتي يمكن النظر إليها من وجهة نظر قانونية.
وفي وقت لا يختلف فيه أحد مع حقيقة أن تكنولوجيا المعلومات أصبحت العمود الفقري للتجارة، لا بد من التفكير بقوانين مثل قوانين التعاقد الإلكتروني، وقوانين الدفع والإثبات والتوقيع الإلكتروني، ولا بد من إدخال تعديلات جوهرية على القوانين الجزائية والقوانين الإدارية وقوانين الملكية الفكرية لجعلها قابلة على الصمود والتصدي للظواهر الناشئة من تطبيق تقنيات الطريق السريع للمعلومات.
وإذا كان من المهم أن نبدأ في التفكير بالمستقبل، فإنه وكما قال بيل غيتس في كتابه «الطريق نحو الأمام»: علينا أن نحترس من الاندفاع في خطوات متسرعة، لأن التسرع هنا كما اللامبالاة يعطي نتيجة سلبية، فلقد استغرق الأمر عدداً غير قليل من السنوات لكي نتلمس مجرى الثورة المقبلة، وعلينا أن نستفيد من ذلك الوقت في اتخاذ قرارات ذكية ومدروسة، لا مجرد ردود أفعال مباشرة ومتسرعة.
* باحث في المعلوماتية القانونية