إياد مسعود*
انصبّ الترحيب باتفاق مكة، بين فتح وحماس، لكونه وضع حداً للاقتتال الذي كاد أن يتحول إلى فتنة، تهدد ما حققته المسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني من مكاسب وانتصارات، كما لكونه فتح الباب أمام تأليف حكومة فلسطينية جديدة، طال انتظارها. وقد أكدت المعطيات ضرورتها لإخراج الحالة الفلسطينية من مآزقها السياسية، وكمدخل لوضع وثيقة الوفاق الوطني (27/6/2006) موضع التطبيق.
وإذا كان البعض قد انتقد طرفي الاتفاق، لأنهما أهدرا وقتاً أكثر من اللازم (ودماءً بريئة وأرواحاً بشرية ذهبت ضحية الاقتتال) للوصول إلى الاتفاق، فإن الانتقاد انصبّ أيضاً لأنهما استفردا بالحل بعيداً عن إشراك باقي أطراف الحالة الفلسطينية، ما خالف روح الحوار الذي قاد إلى وثيقة الوفاق الوطني التي توافق عليها الطرفان كمرجع للحكومة الجديدة.
وقد أثبتت وثيقة مكة، وقبلها وثيقة القاهرة (آذار/ مارس 2005) أن الحالة الفلسطينية، رغم نضجها السياسي، ما زالت بحاجة إلى طرف ثالث يتدخل للتوسط بين أطرافها لحل خلافاتها ومساعدتها للتوافق على القواسم المشتركة.
ففي القاهرة كان للجانب المصري دور بارز في ولادة الاتفاق المذكور، وخاصة أن الخلافات احتدمت بين الفلسطينيين وعطلت الحوار الجماعي ليومين كاملين، شهدت خلالهما أروقة فندق نوفوتيل مشاورات ولقاءات على أكثر من صعيد وفي أكثر من صيغة بذل فيها الوزير عمر سليمان وكبار مساعديه جهوداً مضنية كي لا يصل الحوار إلى الطريق المسدود. وبفضل الرعاية المصرية وجدت الأطراف الفلسطينية نفسها مــــــــــــلزمة بتطبيق الاتفاق، أو تطبيق معظمه في أسوأ الأحوال.
ومع أن الفلسطينيين توصلوا إلى التوافق على وثيقة الأسرى من دون طرف ثالث يجلس إلى طاولة الحوار بشكل مباشر، إلا أن الشروع في تطبيق الوثيقة، أي العمل على تأليف حكومة جديدة، تطلّب تدخلاً سعودياً على أعلى المستويات. ولم يتوقف الدور السعودي عند حدود توقيع اتفاق حماس وفتح في مكة، بل تواصل لنزع فتائل الانفجارات وإزاحة الألغام التي كادت أن تنفجر بين غزة ورام الله، في ضوء التفسيرات المتباينة لكيفية البدء بتطبيق اتفاق مكة، بما في ذلك استقالة حكومة هنيّة الأولى، وتكليفه بتأليف الحكومة الجيدة. ولولا التدخل السعودي لتحوّلت الشروط المتبادلة بين فتح وحماس إلى عقبة كادت أن تعطل تطبيق ما اتفق عليه في مكة.
وقد عكست تصريحات الطرفين حجم التباين بينهما في قراءة الاتفاق، ففتح على سبيل المثال تؤكد في تصريحاتها أنها حققت في الاتفاق مكاسب جديدة حين نجحت في دفع حماس للتخلي عن حقيبتي المال والداخلية، وقبلت بإسنادهما إلى شخصيات مستقلة بعدما كانت تصرّ على التمسك بهما، باعتبار أن الأولى مدخلها إلى مكافحة الفساد، والثانية إلى مكافحة الفلتان الأمني. كما نجحت في إلزام حماس بقرارات الشرعيتين العربية والدولية، موضحة في السياق نفسه أن الحديث عن الشرعية العربية، على أرض المملكة السعودية يعني بوضوح وبدون تردد مبادرة السلام العربية التي كانت حماس تبدي إزاءها تحفظات عدة. ولا يخفي الناطقون باسم فتح انتصارهم حين يقولون إن حماس بعد توقيع اتفاق مكة انتقلت في برنامجها السياسي إلى مربع منظمة التحرير الفلسطينية، حين تتحدث عن السلام كخيار لها (بديلاً للمقاومة) وعن الدولة المستقلة ضمن حدود الرابع من حزيران (يونيو)، وضمان حق اللاجئين في العودة، ورهن الاعتراف بإسرائيل باعترافها هي بالدولة الفلسطينية، أي أن الاعتراف بإسرائيل بات عملية مشروطة ولم يعد مرفوضاً من حيث المبدأ، وفي هذا الموقف ما يشكل بداية واضحة للالتزام بالمبادرة العربية.
حماس بدورها لا تخفي أنها قدمت تنازلات في اتفاق مكة (عن حقها ــ كما تقول ــ في وزارتي المال والداخلية). لكنها تشير في الوقت نفسه الى أنها تمسكت بموقفها المبدئي في رفض الالتزام بالاتفاقات الموقّع عليها مع الجانب الإسرائيلي. وعندما يشار الى قرارات الشرعية العربية، تستأنف حماس فتقول إن هذا يشمل كل القرارات بما فيها قرارات الخرطوم (اللاءات الثلاث). أما بشأن الدولة المستقلة فإن حماس تحرص على أن تذكر أن هذا كان قد ورد مراراً على لسان مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وهو في سجون الاحتلال، وأن الموقف المذكور لا يحمل جديداً. الطرفان يتفقان على أن اتفاق مكة فتح الباب لتأليف حكومة وحدة وطنية، لكنهما يختلفان على أسماء بعض المستقلين المرشحين لدخول هذه الحكومة، كما يختلفان على إشراك بعض الفصائل فيها. ويخفي هذا الخلاف رغبة لدى كل من الطرفين للإمساك بأغلبية الأصوات في الحكومة، لذلك يحاول كل طرف أن يحشد أكبر عدد من الأصوات الموالية له. وهو ما يفسر أسباب التأخر الحاصل في الإعلان عن الحكومة الجديدة مع أن اتفاق مكة كان قد وزّع الوزارات الرئيسية على الطرفين، وهو أيضا ما ينبئ بأن الحكومة المقبلة مرشحة لأن تتعرض لتجاذبات واهتزازات، بل ربما لاختناقات في أدائها لمهماتها وذلك تحت تأثير رؤية كل من الطرفين للاتجاه الواجب على الحكومة أن تسلكه لأجل فك الحصار عن الشعب الفلسطيني، كما تحت تأثير تنافس الطرفين في قطف أكبر كمية من الثمار السياسية ثمناً لقيام مثل هذه الحكومة.
* كاتب فلسطيني