محمد سيد رصاص *
ذكّر منظر الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي في شهر تموز 2003، وهو جالس في «مجلس الحكم العراقي» في اجتماعه الافتتاحي تحت رئاسة الحاكم الأميركي بول بريمر، بحوادث مشهدية فاصلة خطّها الشيوعيون العرب، مثل قبولهم بقرار تقسيم فلسطين ثم بقيام اسرائيل واتخاذهم موقفاً مضاداً من الجيوش العربية الداخلة إلى فلسطين لمحاربة الدولة العبرية الناشئة، إلى اتخاذهم موقفاً ساكتاً عن الفرنسيين والإنكليز في أثناء حلف هؤلاء مع ستالين ضد هتلر في الحرب ومضاداً لكل من وقف من مواطنيهم ضد ذلك، وصولاً إلى معارضة الشيوعيين الجزائريين لقيام ثورة 1954 وحرب التحرير التي خيضت ضد الفرنسيين وهو ما استمروا عليه إلى ما قبل الاستقلال عام 1962 بقليل.
لم نرَ انزياحات كهذه عن الوطنية، عند من تحوّل من التيار القومي العروبي أواخر الستينيات، بل نجد على العكس أن تجربتيْ الجبهتين الشعبية (1967) والديموقراطية (1969) الآتيتين من رحم حركة القوميين العرب إلى التيار الماركسي، قد أعطتا مثالين قويين نافسا حركة فتح على قيادة العمل الوطني الفلسطيني، كما نجد الآن في فترة ما بعد انهيار السوفييت أن الماركسيين العرب الآتين من الحركة القومية هم أقل اتجاهاً نحو «النزعة الأميركانية» من الشيوعيين التقليديين الذين كانوا من أتباع موسكو القدماء أو من منبوذيها الشيوعيين أو الماركسيين، حيث نجدهم يعودون إلى حضن الحركة القومية أو إلى مزيج موفِّق بين الفكر اليساري الماركسي والنزعة القومية مع حفاظ على موقف مضاد من «الخارج الإمبريالي» الزاحف إلى المنطقة. في هذا الإطار، يلاحظ أن الكثير من الشيوعيين والماركسيين العرب يرتدّون إلى ليبرالية كان جسر عبورها الأولي هو طه حسين الذي كان يرى شعار الخديوي إسماعيل صحيحاً: «مصر هي جزء من أوروبا»، وأن أرض الكنانة بتواصلها مع باريس ولندن لا تفعل أكثر من وصل ما انقطع مع أثينا وروما منذ القرن السابع الميلادي، وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» (1938)، الشيء الذي ترجم سياسياً من جانبه بموقف موازٍ للفكري ــ الثقافي، من خلال مهادنة البريطانيين الفارضين سيطرتهم على مصر عبر رؤية ترى في دور لندن «تمديناً» لمصر وانتشالاً لها من «إفريقيتها»، ومن خلال السكوت عنهم.
في هذا الصدد، يمكن القول بأن موقف الشيوعيين العرب التقليدي لم يكن في موقف التضاد الفكري مع رؤية ماركس لدور الاستعمار البريطاني للهند، الأمر الذي لا يبتعد كثيراً عن موقف طه حسين، ولكنه وضع من جانبهم في موضع المسكوت عنه، فيما نرى الآن كيف يجتمع، عند من تحوَّل منهم من الماركسية إلى الليبرالية، موقف يرى في الاحتلال الأميركي للعراق أو في تأثيرات واشنطن في الأوضاع العربية الداخلية تقدّماً بالقياس إلى الأوضاع القائمة في ظل الأنظمة، مع رؤية نابذة للعروبة، ومعاداة للإسلاميين تلامس حدود العداء للإسلام، ومع عودة عندهم إلى رؤية استشراقية لأوضاع العرب والمسلمين انتقدها وشرَحها بالتفصيل البروفيسور إدوارد سعيد. هنا، نرى كيف تأتي هذه المواقف بالترافق مع رؤية تفضيلية للاحتلال على الاستبداد عبر وضع ثنائية متضادة بينهما، ومع نظرة ترى أن الاستبداد قد جفّف ينابيع عوامل التغيير الذاتية ــ المحلية. بالمقارنة، لا يلاحظ وجود هذه الرؤى والنزعات عند إسلاميين تعرضوا لحجم من الاضطهاد من الأنظمة خلال العقود الثلاثة الماضية فاق ما تعرض له اليساريون بكثير، وكذلك لا نجد عند التنظيمات البعثية والناصرية العراقية التي كانت معارضة لحكم صدام حسين، اتجاهات نزعت نحو «النزعة الأميركانية».
يطرح ذلك كله جملة من الأسئلة الكبرى: هل الحركة السياسية المحلية التي تستمد من الخارج مخزونها الايديولوجي ــ الفكري، لا يمكنها أن تكون وطنية؟ أم الأمر متعلق بارتباط فكري ــ سياسي مع مركز دولي خارجي، لا بينابيع الايديولوجية المعنية التي يمكن أن يتم تبيئتها محلياً وتلقيحها مع القضايا المحلية، إلى حدود مساهمتها في أن تكون الرافعة الذاتية، عبر الأداة التنظيمية لعملية التحرر الوطني ــ القومي، كما جرى في فيتنام مثلاً؟ ثمّ ما عواقب الاستقالة الحالية (أو الإقالة الموضوعية) التي تحصل الآن عند اليساريين العرب من المهمات الوطنية، وخاصة في العراق حيث تترك مكافحة الاحتلال ومقاومته للإسلاميين والقوميين، من يساريين حاليين (الشيوعيون العراقيون) أو يساريين سابقين، مع ما يصاحب ذلك من تعاونات أو أدلجات؟
* كاتب سوري