نادر صباغ *
ما لم يقله روجيه نسناس في المجلس الاقتصادي الاجتماعي، حاول أن يقوله في كتابه «نهوض لبنان، نحو رؤية اقتصادية اجتماعية» الصادر حديثاً عن دار النهار.
سنتان (رسمياً) قضاهما نسناس في رئاسة المجلس الذي أقرّ اتفاق الطائف، ولأنه لم يكتب لهذه التجربة أن تكون بحجم الآمال التي تُوخِّيَت منها، فقد سعى نسناس ليكون الكتاب تكملة لمسيرة أرادها للمجلس وهي مشاركة المجتمع المدني في رسم مسارات النهوض عبر تقديم الرأي والمشورة إلى الحكومة في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
يقول الكتاب الذي وضع بالتنسيق مع فريق عمل من أبرز خبراء الاقتصاد والاجتماع في البلد، أن هناك ثلاثة تحديات أساسية تواجه لبنان اليوم تتمثل في:
1 ــ بناء مؤسسات الدولة بشكل حديث ومنتج والتخلص من شوائب الفساد والهدر والشلل الإداري.
2 ــ دعم القطاع الخاص ومواكبته بسياسة إنعاش اقتصادي للحد من مسيرة الركود المتفاقم بعد الحرب.
3 ــ دفع وتيرة النمو بشكل متصاعد ومستدام لخفض الدين العام في المدى المنظور، ولتوفير الاستقرار الاجتماعي وتوفير فرص العمل ووقف هجرة الشباب والكفاءات وتراجع الطبقة الوسطى وانتشار الفقر.
رؤية الكتاب تشدد على أن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الشامل ينجح حين يتحول مشروع الدولة إلى مشروع وطن، أي حين تتوافر مشاركة الجميع في بلورته وفي الانخراط في تنفيذه.
لذلك هو يعتبر أنه لا نهوض اقتصادياً واجتماعياًً بلا وفاق وطني شامل، ولا استقرار اقتصادياً بلا أمان اجتماعي، ولا أمان اجتماعياً على حساب الاستقرار الاقتصادي، ولا إصلاح شاملاً لا يجسّد رؤية متكاملة تجيب عن سؤالين: أية دولة نبني؟ وأي دور للبنان مستقبلاً؟. إن كل بناء في الداخل موصول عملياً بدور لبنان في المنطقة والعالم، فرؤية النهوض الاقتصادي والاجتماعي تقوم على ركيزتين متداخلتين، بناء الداخل وتحقيق التكامل الإقليمي.
«ليس بالسياسة وحدها تُبنى الدولة بل بالاقتصاد والــــــــــتـــــــــــــــنمية أيضاً، وهـــــــــــذا الأمر يستدعي العمل على تــــــــــــــــــنظيم المــــــــــــــدن والمناطق تنظيماً يضمن التطور المجــــــــــــتمعي الوطني من خلال تكامل الوظــــــــــائف والمصالح بين الجميع»، يقول الكتاب في أحد مواضعه.
إن التوجه إلى بناء دولة الاستقرار والتنمية يعكس ثلاث قناعات في الكتاب: الوفاق الوطني الذي يعد ضرورة لكن يقتضي التماسك حول برنامج عملي وعلمي يفعّل التنمية الشاملة والمتكاملة بين مختلف المناطق اللبنانية كما بين مختلف الطبقات الاجتماعية. جذب الرساميل من الخارج ضروري لكنه لا يكفي للخروج من الركود إلى التنمية بل يجب العمل على توظيف هذه الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية. فتح فرص العمل أمام الشباب والكفاءات دعامة للتنمية وللحد من الهجرة والبطالة، وهذا يدعو إلى إعادة النظر في واقع التعليم لتخريج الكادرات التي تسهم في تفعيل التنمية.
يرمي مشروع النهوض الاقتصادي والاجتماعي الذي يطرحه الكتاب إلى الإنماء المستدام، ولضمان هذا الهدف لا بد من أن تواكبه شبكة أمان اجتماعي تراعي التوزيع المتساوي والعادل للدخل، وثمة ورشة كبيرة في لبنان من ضروراتها إحياء تكوين الطبقة المتوسطة باعتبارها عاملاًَ مهماً في تفعيل النمو وفي التوازن الاجتماعي.
ترتكز هذه الرؤية على دعامتين: المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والرأسمال التقني والبشري. هذا العقد الاجتماعي يشكل جزءاً من برنامج اقتصادي اجتماعي شامل. إنه عقد ثقة يضمن الفرص المتساوية في العمل والصحة والتعليم وضمان الشيخوخة وهو أمر حيوي لتفعيل المبادرة الفردية وتطويرها إلى مبادرة مؤسسية.
في هذا الإطار تولي التنمية الرعاية للتربية ولا سيما أن اقتصاد المعرفة أكد تراجع أهمية الموارد الطبيعية أمام الرأسمال التقني والإداري، والغاية من تلك الرعاية مزدوجة: ربط المناطق كافة وتوسيع السوق وتحفيز المنافسة التي تطالها السوق اللبنانية، إضافة إلى تعزيز البنية التحتية لاقتصاد المعرفة التي توفر دعامات نمو الاقتصاد اللبناني على المدى الطويل.
يحاول الكتاب الإجابة عن واحد من أكثر الأسئلة جدلاً في الواقع اللبناني، ألا وهو أين يكمن الخطأ في الاقتصاد الوطني. يرى الكتاب أن الأداء اللبناني ضعيف على كل الجبهات الاقتصادية عملياً منذ أواخر الحرب، فالمشاكل موجودة في بنية الاقتصاد اللبناني نفسه وهي مستوطنة ودائمة لأنها موجودة منذ الاستقلال وليست من مخلّفات الحرب. فالاعتقاد السائد بأن لبنان كان مزدهراً قبل عام 1975 هو وهن وليس واقعاً. فعلى الرغم من الظروف الاقتصادية المناسبة بعد الاستقلال حتى عام 1975، يساوي النمو الاقتصادي في لبنان المعدل الذي تحققه الدول النامية في العالم وحتى أقل من معظم دول الشرق الأوسط.
تكمن مشكلة الاقتصاد اللبناني البنيوية بشكل أساسي في ضعف إنتاجيته، إذ يؤكد الكتاب أن زيادة إنتاجية العامل اللبناني أساسية لنمو اقتصادي مستدام وللتنمية، وعليه يجب أن تُعالج ثلاث حاجات أساسية ليتمكن لبنان من البقاء اقتصادياً وسياسياً، وهي رفع المداخيل ومستوى الحياة وفي الوقت عينه خفض الحاجة إلى حماية الدخل من الرياعة الطائفية والسياسية، وجعل تمويل مكونات العقد الاجتماعي الأساسية عملانياً، بما فيها التربية والصحة وإعانات التقاعد، ويجب إزالة عبء الدين العام وحمل المصارف مجدداً على تمويل القطاع الخاص بدلاً من القطاع العام.
كثيرة هي الأبواب والمحاور التي يتناولها الكتاب، ولعل الخلفيات المتنوعة لفريق العمل الذي أعده بادية جلياً على غناه الداخلي. من الموضوعات المهمة التي يتناولها الكتاب سياسات الدعم الزراعي والسياسة الصناعية ودورها في الحد من البطالة، السياحة في لبنان، توظيف الأموال والتكنولوجيا العالية، سياسة التبادل الخارجي، دعم صمود المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع دمجها، جدولة الديون ودعم حركة الاستثمار، إضافة إلى عرض مطوّل لسياسات التنمية وأهدافها، والعقد الاجتماعي، وسبل إصلاح النظم التربوية والتعليمية وغيرها من المواضيع والدراسات التي تتناول موضوعات البيئة والقضاء وحماية المستهلك وغيرها.
«نهوض لبنان» محاولة طموحة من قبل واضعيه لإطلاق حوار جدي في الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي يحتاج البلد إلى مناقشتها في هذه المرحلة الدقيقة، فهل ينجح نسناس في تحريك ساكن، يبدو متفائلاً بذلك!
* متخصص في الشؤون الاقتصادية