كوفي أنان *
ترجمة أرنست خوري

يُعرَف عن التيارات البحرية في مضيق البوسفور، قوتها وعمقها وخطرها. غير أنّ الشعب التركي، تعلّم ومنذ قرون مضت، أن يفاوض على الحدود بين أوروبا وآسيا، بين العالمين الإسلامي والمسيحي، ممّا أدّى الى ازدهار هذا الشعب على كل المستويات. يشير تقرير «تحالف الحضارات» الى حقيقة أنّ تذويب الاختلافات، أكانت في الرأي، في الثقافة، في الإيمان أم في أنماط الحياة، كان، ومنذ القديم، محرّك التقدّم البشري. هكذا، استطاعت شبه الجزيرة الإيبيرية (اسبانيا) أن تبني مجدها بفضل الاحتكاك الحضاري بين التقاليد الإسلامية والمسيحية واليهودية، حصل ذلك عندما كانت أوروبا تتجاوز عصر الظلمات.
للأسف الشديد، بعد مرور عدّة عقود على هذه الأحداث التاريخية، بات عصر العولمة الحالية يمتاز اليوم، بصعود غير مسبوق للعنف والتطرّف والكراهية. وبدل أن تساهم العولمة في بناء الصداقات المتبادلة والتفهّم بين الحضارات، فإنّ اختصار المسافات وتحسين وسائل التواصل يؤدّيان غالباً الى تصاعد التوتّر والى الشّك الدائم في «الآخر». كثيرون هم الذين باتوا ينظرون الى «القرية العالمية»، باعتبارها مرادفاً للتسلّط الثقافي الأحادي وللنزف الاقتصادي لحساب الأقوى والمهيمن. إنّ معظم مواطني العالم الثالث، يشعرون بأنّ «العولمة» تهدّد قيمهم ومصادر دخلهم في آن.
إنّ هجمات 11 أيلول والحروب في الشرق الأوسط خاصّةً، قد ولّدت ظروفاً لولادة مشاهد وادّعاءات هدفها توتير العلاقات بين الشعوب والثقافات: ليست العلاقات بين الديانات التوحيدية الثلاث اليوم، سوى ترجمة دقيقة لخطورة الوضع على الصعيد العالمي.
في الوقت الذي تدفع فيه الهجرات الكثيفة، أعداداً هائلة من السكّان، متعدّدي الثقافات والديانات والحضارات، للعيش جنباً الى جنب، نرى أنّ الأحكام المسبقة و«النظريات النمطية» التي تروّج لمقولة «صدام الحضارات»، تنتشر باطّراد. يبدو العديد من «الأطراف» مستعجلين جدّاً لإشعال حرب دينية جديدة، ستكون ــــــ فيما لو اندلعت ــــــ عالمية الطابع هذه المرّة.
لكلّ الأسباب المذكورة أعلاه، نرى أنّ فكرة «تحالف الحضارات» لا يمكن أن تحصل على فرصةٍ أفضل ممّا هو متاح لها اليوم، ما دمنا لا نعيش في عوالم مختلفة، بعكس تلك التي عاش فيها أجدادنا. إنّ الهجرات والتقدّم التقني والاندماج، عوامل قرّبت المجموعات الدينية والإثنية بعضها من بعض، وأسقطت الحواجز القديمة بين الشعوب. نحن نعيش اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في مكان واحد، خاضعين في الوقت نفسه لعدد كبير من الأفكار والمؤثّرات المختلفة.
في القرن الـ21، أصبحت «شيطنة الآخر» الطريق الأسهل والأقصر. أصبحنا رهائن مقارباتنا لحقوقنا ولغياب العدالة. بات خطابنا هو سجننا. انطلاقاً من هذه الحقيقة، يرى قسم كبير من المسلمين، أنّ الغرب يمثّل تهديداً ليس فقط لمعتقداتهم وقيمهم، بل أيضاً لمصالحهم الاقتصادية وتطلّعاتهم السياسية. لا تجد كلّ وسائل إثبات العكس، سوى الاستخفاف وانعدام الصدقية. بالطريقة نفسها، يرى كثر في الغرب، أنّ الإسلام دين عنفٍ وتطرّف، حتّى لو أنّ العالمين الإسلامي والغربي يقيمان علاقات تاريخية حيث للتجارة والتبادل الثقافي والتعاون، حيّز أكبر بكثير ممّا تحتلّه فترات النزاعات بينهما.
على محبّي السلام في العالم العمل على دحض هاتين الرؤيتين في العالمين الغربي والإسلامي. وبدايةً لعملنا، يجب التأكيد على أنّ المشكلة لا تكمن في القرآن ولا في الإنجيل ولا في التوراة. ليست المشكلة في الإيمان، بل في المؤمنين وطريقة معاملتهم للآخر بحجج دينية. من الضروري وضع القيم المشتركة لكلّ الأديان في الصدارة لتكون قواسم مشتركة لسلام عالمي: الرأفة بالآخر، التضامن واحترام الحياة الإنسانية: كلّها تُختَصَر بـالقاعدة الذهبية: «لا تعامل الآخرين بما لا تحب أن يعاملوك به». الأهم في ذلك هو أن نجدّد رفضنا لتكوين الأحكام العامّة بحق شعوب أو أديان أو مناطق، انطلاقاً من جرائم يرتكبها أفراد أو مجموعات صغيرة.
نحن نعرف ما هي الإيجابيات التي يحملها المهاجرون الى أوطانهم الجديدة، ليس فقط نظراً لكونهم يكوّنون يداً عاملة، بل خاصّة كمستهلكين، مستثمرين وعناصر مكوّنة لحضارة غنيّة ومتنوّعة. لكنّ هذه الحوافز ليست موزّعة بالتساوي. غالباً ما يقابَل الوافدون بشعور «أهل البلد» المهدَّدين بمصالحهم وأمنهم ونمط حياتهم التراثي.
لقد نشأ العديد من أبناء الجيلين الثاني والثالث من الهجرات، في «غيتوات» أوروبية، تبلغ فيها البطالة أرقاماً قياسية مع نسب مثيلة من الفقر ومعدّلات الجرائم. يُضاف الى هذه المأساة المرتَكَبة بحق هؤلاء، نظرة ملأى بالاحتقار والخوف تصدر عن «المواطنين الأصليين».
إنّ قضية مكافحة ظاهرة «معاداة الآخر لكونه من دين مختلف» تبدأ من الحماية القانونية. لقد أُدخلَت حقوق الفرد باعتناق أي ديانة، وبعدم الإيمان بأي منها، في بنود القانون الدولي وفي العديد من التشريعات الوطنية. إنّ أي استراتيجية لفتح الثغر في جدار عدم تقبّل الآخر دينياً، يجب ان تأخذ في الحساب جدّياً مسألة التعليم، بحيث يمكن إفهام الجيل الجديد بأنّ الأساطير والتشويهات الطارئة على الأديان، لا يمكن التعامل معها كحقائق مؤسّسة نهائية.
إنّ كلّ تلك الخطوات لن تأتِي بالنفع المأمول، ما دام مناخ الخوف المتبادل معزّزاً بالأحداث السياسية الدامية، خاصّة تلك التي تظهر فيها شعوب مسلمة (العراق، أفغانستان، الشيشان وخاصّة فلسطين) تتعرّض لحروب مستمرّة من قوى غير مسلمة. لم يحمل التاريخ لنا مثالاً أكثر وضوحاً عن تداعيات الحروب على تكوين الصور العدائية ما بين الحضارات والأديان، ممّا يظهره النزاع الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي.
طالما الفلسطينيون تحت الاحتلال، سيظلّون معرّضين للإحباط والإهانات اليومية، سيظلّ الإسرائيليون معرّضين للتفجيرات في حافلاتهم وتجمّعاتهم المدنية...
قد يبدو من غير العادل أن تُربَط مصائر العلاقات ما بين مواطني الدولة الأوروبية الواحدة، بالأزمة السياسية الأكثر حدّة في التاريخ الحديث.
إنّما يبقى الرابط موجوداً بقوّة، لذلك، لا بدّ من العمل على الجبهات كلّها، دون أن ننسى أنّ الأولوية تبقى لحلّ عادل للنزاع الفلسطيني ــــــ الإسرائيلي، وبعدها تصبح كلّ الخطوات معقولة.
(من مداخلة أُلقيت في اسطنبول لمناقشة تقرير «تحالف الحضارات»)
* الأمين العام السابق للأمم المتحدة