نزار صاغية *
أوّل ما يلفت النظر عند قراءة البرنامج الإصلاحي المعدّ لمؤتمر باريس 3 هو الاستفراديّة في منهجه، والفئويّة الامتيازيّة في أهدافه مع اعتماد الخطابيّة وأحياناً المواربة في الأسلوب، وخصوصاً في مقاربة القضايا التي يريد واضعو البرنامج الإيحاء بأنها تهمّهم خلافاً للواقع.
وإذا حاولت الحكومة التخفيف من حدّة انتقادات مماثلة بوسائل عدّة منها إقامة ورش عمل مختصّة لإنجاز خطط ملحقة بالبرنامج «خلال ساعات» أو تضمين البرنامج بنوداً اجتماعيّة، فإن هذه المحاولات بدت باهتة وغير مقنعة، ولا سيما أنّ الحكومة أعلنت البرنامج نافذاً منذ إعلانه في جلسة 4-1-2007، وأكدت ذلك في جلستها المنعقدة في 8 شباط، وأنها في أية حال توسّلت ونالت موافقة الجهات الدولية وأبرزها البنك الدولي بمعزل عن أيّ ورشة أو ملحق. أضف الى ذلك أن الأفكار المبيّنة في البرنامج بدت أحياناً منفصلة تماماً عن نتائج أعمال الورش القطاعيّة، وفقاً لما أكّده وزير التربيّة في مؤتمر إعلان الخطط الملحقة (22 كانون الثاني)، ما يشير الى وجود انفصام بين أولويّات البرنامج وأولويّات القطاعات التي أوحي بإشراكها في عمليّة الإصلاح، بل كأنما ثمة خطابان: أحدهما خارجي أساسه الورقة الإصلاحية وهو يتضمن ما تريد الحكومة إظهاره للخارج، والآخر داخلي قوامه ورش العمل وملاحق البرنامج والذي يبقى بمنأى عن أولويات الحكومة الحقيقية!
والهدف من هذا المقال هو تحديداً السعي الى الإضاءة على بعض المنزلقات والمحاذير الناجمة عن مضمون البرنامج أو عن روحيّته، على أمل أن تتم الورشة التشريعية على أساس معايير أفضل.
الجزء الأول ــ لئلا تكون التشريعات استفراديّة:
في هذا المجال، نلحظ أن البرنامج تضمّن مؤشّرات عدّة على ميل واضعي البرنامج الى التفرّد في إعداده وتنفيذه على نحو لا يخلو من الفئويّة السياسيّة أو الطبقيّة.
فعلى خلاف الحال في برامج إصلاحيّة موجهة الى الخارج، والتي يتم تخريجها عادة ثمرةً للجهود المشتركة والتوافق الاجتماعي، فإن واضع «البرنامج» لا يخفي تفرّده داخلياً في إعداد المشروع أو في تنفيذه، ما يعكس ثقته بتقبل الدول أو الجهات المطالِب بمساعدتها لهذا الواقع أو على الأقل تفهّمها له. فالمتحدث هو دائماً الحكومة اللبنانية من دون أي إشارة إلى أي مشاورات مسبقة مع أي هيئة اقتصادية أو اجتماعية وطنية ولا حتى مع المجلس النيابي الذي يذكر فقط في نهاية البرنامج أن الحكومة تتعهد بمشاورته في حال تعديله. وإن التفرد يظهر في تنفيذ البرنامج، حيث تتحدث دوماً الحكومة عن إنشاء لجان وزارية (لجنة وزارية لتنفيذ هذا البرنامج مؤلفة من وزارتيْ المال والاقتصاد والمصرف المركزي) أو تنشيطها (اللجنة الوزارية للسياسة الاجتماعية) أو عن تكليف وزارات معينة وضع خطط أو استراتيجيات مستقبلية، بمعزل عن سائر الجهات الوطنية غير الحكومية، لا بل إن الأمر بلغ درجة فاقعة في إشارة البرنامج الى تكليف مكتب وزير الدولة للتنمية الإدارية وضع استراتيجية في شأن الإصلاح الإداري، من دون أي إشارة الى مجلس الخدمة المدنية أو إعلان نية الحكومة إعادة تنظيم شاملة لأنظمة نهاية الخدمة المدنية (وهو أمر يعني مباشرة مئات ألوف اللبنانيين)، بمساعدة فنية من البنك الدولي من دون أي إشارة الى الأطراف المعنية داخلياً وأولها الاتحاد العمالي العام.
ونلحظ أن البرنامج خلا من أيّ إشارة الى «قانون اللامركزيّة» الذي بات يشكل وفقاً لوكالات الأمم المتحدة باباً أساسياً للتنمية المستدامة وللمواطنة، ولا حتى الى «الإنماء المتوازن»، ما يؤكد هنا أيضاً تمسكاً بالسلطة المركزية بما يدعم الميول الى التفرد!!
والى ذلك، واذا تضمّن البرنامج إشارات عدة الى الشفافية، فإنه يخلو بالمقابل من أي إشارة الى الرقابة أو المساءلة أو المحاسبة (وهي أيضاً مفاهيم تنموية بامتياز)، وتالياً من أي اشارة إلى استقلالية القضاء أو ديوان المحاسبة أو هيئة التفتيش أو مشروع قانون وسيط الجمهورية، فيما ورد ذكر مجلس الخدمة المدنية مرة واحدة في سياق إعادة توزيع فائض الموظفين الذي تقرره الحكومة.
إزاء ذلك، يبدو إعلان الشفافية وكأنه إعلان «فطرة ملازمة للحكومة» أو، ربما بأقل تقدير، إعلان استعدادها لتقديم الحسابات لمراجع الرقابة الدوليّة التي بالمقابل يتكرر ذكرها في مطارح عدة منه. وفي هذا الصدد، من اللافت أنّ البرنامج لزم الصمت في شأن مشروع قانون مراجعة حسابات الأشخاص المعنويين العموميين والتدقيق فيها منذ 1990، الذي كانت قد أقرته الحكومة في جلسة 13 نيسان 1996، وإن تناوله وزير المال أخيراً في بعض خطاباته الموجهة الى الداخل.
بالمقابل، وفي موازاة الاستفراد العامّ في الإعداد والتنفيذ، أتى البرنامج مفعماً بما يوحي أن الاستفراد هو استفراد طبقة أو مصالح أكثر مما هو استفراد حكومي. فإذا أباحت الحكومة لنفسها إعادة النظر في حقوق أساسية لغالبية المواطنين من دون أي تشاور اجتماعي مسبق، فإن أسلوبها بدا مغايراً تماماً ــ لا بل معسولاً ــ في البنود المتصلة بالقطاع المصرفي. فبعد إشارة أولى الى «المخاطر السياديّة» التي يتحمّلها هذا القطاع الذي يحمل الأوراق المالية الحكومية (بما يوحي أنه يشارك الحكومة مخاطرها السيادية أو بالأحرى بما ينسي أن ثروات المصارف تضاعفت أصلاً بفضل حملهم سندات حكومات الوصاية)، يعلن البرنامج حرفياً: «بالنسبة الى مساهمة المصارف التجارية لمواكبة وتكملة جهود الحكومة، فإنه ستكون للقطاع المصرفي الكلمة الفصل في تحديد حجم مساهمته وطريقتها، كما كانت الحال خلال مؤتمر باريس 2. إن أي مساهمة اختيارية من المصارف ستكمل وتسهّل جهود الحكومة للإصلاح». وتالياً، نلحظ أن الأسلوب المعتمد لا يتنافى فقط مع الطابع الملزم للتشريع، بل أيضاً مع الطابع التفاوضي التوفيقي للتشريع لينحدر الى أسلوب الإذعان بإيلاء المصارف كلمة الفصل! والواقع أن اعتماد هذا الأسلوب التمييزي، أسلوب المكابرة إزاء الفئات الضعيفة والممالقة إزاء أصحاب القوة والثراء، لا يليق بأي حكومة!
الجزء الثاني: لئلا تكون التشريعات امتيازية:
على صعيد الأهداف، يتضمّن البرنامج عبارات وعناوين توحي بأنّه يهدف الى إجراء إصلاحات تنمويّة اقتصاديّة واجتماعيّة شاملة. لكن التدقيق في مضمونه يظهر أن مقاربة القضايا على اختلافها، أكانت اقتصادية أم اجتماعية، تبقى مقاربة امتيازية مجتزأة وأحياناً مناقضة لإصلاحات أساسية أو مشاريع إصلاحات أساسية سابقة.
وكدليل أولي على ذلك، أودّ تعداد أهمّ المفردات التي غابت تماماً عن البرنامج فيما يجدر إجمالا وجودها في أي مشروع يدّعي الإصلاح والتكامل. وهي الآتية:
في المجال السياسي، المفردات ذات الأبعاد الاجتماعية: «الإصلاح السياسي، الإنماء المتوازن، اللامركزية، البلديات والسلطات المحلية، المجلس الاقتصادي الاجتماعي، قانون الانتخاب، ديموقراطية، حرية الجمعيات والأحزاب، لبنان الاغتراب، حقوق المرأة، حقوق الإنسان، القنابل العنقودية كعائق للنمو في المناطق الحدودية..».
في مجال المحاسبة والمساءلة والإصلاح الإداري: «استقلالية القضاء، إصلاح القضاء، مؤسسات الرقابة، ديوان المحاسبة، هيئة التفتيش المركزي، المجلس الدستوري، تقويم الموظفين، المعهد الوطني للإدارة والإنماء، إدارة الأبحاث والتوجيه، المباراة، وسيط الجمهورية».
في مجال الاقتصاد والتجارة: «إعادة تنظيم الشركات التجارية، إعادة النظر في قواعد الإفلاس، الزراعة، حماية الإنتاج الوطني، إلغاء المعوقات الإدارية أمام تراخيص معينة وبوجه خاص تراخيص إنشاء معامل أو مؤسسات سياحية».
في مجال الضريبة: «فوائد سندات الخزينة، ضريبة على أصحاب الثروة، ضريبة انتقال، الشركات العقارية وتبادل الأسهم وضريبة على تحسين العقارات، الأوقاف، العدالة الضريبية، الضريبة التصاعدية».
في مجال العمل: «حماية الأجراء والصرف التعسفي أو لأسباب اقتصادية، العقود الجماعية في المؤسسات أو القطاعات، الاتحاد العمالي العام والنقابات، الحدّ الأدنى للأجور، حق المعوقين بالعمل، بطالة، تعويض بطالة، العمالة الأجنبية».
في مجال التربية: «التعليم المجاني والإلزامي، المساواة في فرص التعليم، الجامعة اللبنانية، الترخيص للجامعات الخاصة، تثبيت الأساتذة وتدريبهم، دور المعلمين، المدارس المجانية الخاصة، التعليم التقني والمهني..».
في مجال الصحة: «الدواء، مستشفيات حكومية..».
في مجال الشؤون الاجتماعية: «التضامن الاجتماعي، مؤسسات الرعاية ودور الأيتام، دمج المعوقين، سجون،...».
في مجال البيئة: «الكسارات، حماية الشواطئ، النفايات، مكافحة حرائق الغابات..».
في مجال الثقافة: لا شيء...
وفي موازاة تهميش هذه العناوين كافة، بدا بالمقابل كأنما الورقة الإصلاحيّة تهدف الى تدعيم الرسملة، مع الإشارة الى أن الرسملة المنشودة ليست الرسملة الليبرالية القائمة على الحرية الفردية (وهذا أمر مرتقب في نظام ليبرالي دستورياً)، بل الرسملة الامتيازيّة المدعمة بامتيازات تمنحها الدولة، وهي في كل الأحوال الرّسملة الساعية دوماً الى نقض الحقوق الاجتماعيّة بدلاً من تقبّلها. وقد برز ذلك في توجّهين متكاملين، أوّلهما تعزيز سلطة أصحاب الرساميل بفعل تدعيم الأسواق المالية وامتيازات الخصخصة بما يعزز اللامساواة الاجتماعية، وثانيهما تراجع الدّولة شبه المعلن عن بعض أبرز أدوارها الاجتماعيّة بحجة إيفاء الدين العام وخفض الإنفاق لتحصر «عنايتها» في حدود الإحسان في حالات الفقر المدقع. وهذا ما أحاول تفصيله أدناه.
التوجّه الأول: تعزيز الأسواق المالية للخصخصة وبفضلها:
في هذا الصدد، ركّز البرنامج تحت خانة إصلاح القطاع المالي على ضرورة معالجة المشكلة المزمنة للنمو البطيء لأسواق رأس المال كجزء من استراتيجية أوسع لتحديث القطاع الماليّ غير المصرفيّ. وقد ترجم ذلك بقوانين ومشاريع قوانين عدة، أبرزها مشروع قانون تطوير الأسواق المالية الآيل الى إنشاء مجلس متخصص جديد للأسواق المالية، يتولى الإشراف على تنظيمها وتطويرها ومشروع قانون نزع الصفة المادية عن السندات المالية تسهيلاً لتداولها، وأيضاً مشروع قانون الاقتراض بالسندات المالية، فضلاً عن قوانين حديثة في شأن تسنيد الديون، وهي ربما القوانين التنظيمية الوحيدة ذات الشأن التي أُقرّت في السنة الأولى من عمر البرلمان الحالي. فضلاً عن ذلك، أُعلنت نية إقرار أحكام في شأن التعامل بالنسبة إلى المطّلعين على المعلومات الداخلية للشركات، وهو قانون أساسي لتطوير الأسواق منعاً لاستغلال البعض أسراراً مهنيةً خاصةً في مضاربات وجني أرباح على حساب مساهمين آخرين، ومن الطبيعي أنّ تقويم قانون مماثل يتمّ في ضوء تفاصيله.
وإذا بدا إعطاء الأولوية لتعزيز الأسواق المالية طبيعياً من منظور رأسمالي، فإنه يصبح مدعاة للانتقاد، حتى من هذا المنظور، في حال حصوله في فترة تراجع. فأن تتطور أسواق مالية بسرعة يعني أن لأصحاب الرساميل حوافز كافية وخصوصاً لإيداع أموالهم في شركات كبرى. فأنى توجد هذه الدوافع في فترات تراجع الإنتاج؟ بتطوير الإنتاج على أساس المبادرة الفردية وبدعمه وأقله بإزالة العوائق أمامه؟ جواب البرنامج: لا، بل بالخصخصة، وبكلمة أخرى بما تمنحه الخصخصة من امتيازات تقارب الاحتكار وتضمن الربح!
وبهذا الجواب، يصيب البرنامج عصفورين بحجر إذ هو يبرّر إعطاء امتيازات في موازاة انسحاب الدولة، علماً بأنّ كليهما ضرورة ملحة لإيفاء ديون الدولة أو بكلمة أخرى لتجنّب انهيار الدولة!
وأخطر ما في هذا الجواب (أي الاعتماد على امتيازات الرسملة) هو أنه يبقى بمنأى عن أي مسعى جدي الى تعزيز القطاعات الإنتاجية فكأنه يسعى الى حجب «المبادرة الفردية» بإبهارات الامتياز. فلا نجد فيه أي إشارة الى إصلاح قوانين الشّركات على نحو يؤدّي الى تحسين شروط الشّراكة، ولا الى مطالب الصّناعيين لجهة تشجيع دمج الشّركات الصّناعيّة على نحو يسهم في تجميع الرّساميل انطلاقاً من تجميع طاقات إنتاجيّة وبمعزل عن أيّ امتياز، ولا الى ضرورات تعديل القوانين المعوّقة للإنتاج كما هي حال القوانين المتصلة بالمؤسسات السياحية تسهيلاً لإنشائها من دون أكلاف باهظة، علماً بأن أكثرها يعمل حالياً من دون أي حق مكتسب وعلى نحو مخالف تماماً للقانون، ولا الى الطرق الكفيلة بتدعيم القطاعات الزراعية. لا بل أكثر من ذلك، فإن البرنامج يبدو لدى استعراض أولوياته وكأنه يتبرأ من «قانون حماية الإنتاج الوطني»، الصادر قبل أيام من إعلانه إرضاءً للعاملين في قطاعات الصناعة والزراعة، بعد إدخال تعديلات عليه من شأنها تعليق العمل به على صدور مراسيم تنفيذية.
وإزاء ذلك، حاول البرنامج تزيين الخصخصة بالتركيز على طابعها الجماهيري، الى حدّ ذهب فيه وزير الاتصالات الى الإعلان بدخول عصر «الخصخصة الديموقراطية». فالخصخصة تستقطب أكبر عدد من صغار المساهمين على غرار ما حصل عند تأسيس شركة سوليدير!
والواقع أن تجميع الرساميل المتوافرة (رساميل الناس) في شركات كبرى من باب المساهمة أو الإقراض، إنما يؤدي الى مفاعيل معاكسة تماماً للديموقراطية! ألا يؤدي تجميع المال فيها حكماً الى ربط مصالح آلاف المساهمين (وغالبيتهم صغار) بنجاح هذه الشركات بل أيضاًَ بنجاح البورصة من دون أن يكون لهم أي تأثير حقيقي في تحديد مسار هذه الشركات أو البورصة بفعل تشرذم الأسهم؟ وألا يؤدي ذلك الى إخضاعهم لإرادة بعض المساهمين ممن يحوز عدداً محدوداً من الأسهم (أقلية) ويديرها بالكامل؟ بل ألا تبلغ سطوة تلك الأقلية على الشركات ذروتها في ظل القوانين اللبنانية الراهنة التي تخلو من أحكام رادعة إزاء سوء إدارة الشركة وبشكل أعم من أحكام مآلها حماية حقوق الأقليات بشكل فاعل، ما يولي أقليّة ثريّة وزناً سياسيّاً واجتماعيّاً يبلغ أضعاف ما لها من قدرات ذاتيّة؟
ثمّ ألا يفترض تسهيل التعامل في الأسواق المالية أولاً إلغاء شروط المشاركة في رأسمال الشركات أو في إدارتها المتّصلة بشرط التمتّع بالجنسيّة اللبنانيّة، ما يعزز الاندماج في العولمة المالية، على نحو يتجاوز حدود الديموقراطيات كافة ليخضعها لسلطة المال؟ واللافت في هذا المجال أن المشرّع اللبناني تبنّى أخيراً أربعة قوانين في هذا الاتجاه في مجال الأسواق المالية وسط صمت ولامبالاة عارمين، يختلفان تماماً عما دار من نقاشات اجتماعية حادة (تتجاوز غالباً حدود الدوائر المتخصّصة) إبان مناقشة حقوق تملّك الأجانب للعقارات! فيما العارفون يعلمون جيداً أن الثروات المالية (ولا سيما المتوقع نشوؤها عن الخصخصة) باتت أهم شأناً وأعمق تأثيراً من الثروات العقارية. وكأمثلة على ذلك، نذكر القوانين الآتية:
ــ وضع قانون 9 كانون الأول 2005 في شأن هيئات الاستثمار الجماعي بالقيم المنقولة وسائر الأدوات المالية من دون وضع أي شروط خاصة بجنسية المساهمين فيها.
ــ تعديل قانون الوساطة المالية في 15 أيار 2006 بهدف إلغاء شرط التمتع بالجنسية بالنسبة الى كل المساهمين في شركات الوساطة المالية.
ــ تعديل قانون شركات الهولدنغ في 11 تشرين الثاني 2006 بهدف إلغاء شرط وجود عضوين لبنانيين على الأقل في مجالس إدارة شركات الهولدنغ.
ــ تعديل قانون تشجيع الاستثمارات بهدف إعفاء الشركات المغفلة على أنواعها التي يكون هدفها تملّك و/أو إدارة مشروع استثماري مستفيد من أحكام عقد سلة الحوافز من موجب وجود أشخاص لبنانيين طبيعيين أو معنويين في مجالس إدارتها.
وتجدر الإشارة الى مشاريع قوانين لا تزال عالقة أمام اللجان النيابية كتعديل قانون التجارة بحيث تعفى الشركات المغفلة في المطلق من موجب وجود أشخاص لبنانيين طبيعيين أو معنويين في مجالس إدارتها.
وكخلاصة عما تقدم، ساغ القول بأن أولويات البرنامج تؤول الى تعزيز الرسملة الامتيازية في لبنان، وبكلام آخر في تعزيز قوة المال بمعزل عن جنسيته أو هويته في مواجهة الأكثرية أو الأكثريات الشعبية على اختلافها، التي يفترض ان تكون سيدة في منظور القيم الديموقراطية. وما يفاقم هذا الأمر، هو انكفاء الدولة عن حماية حقوق الأجراء أو عن دعم حرياتهم النقابية، ما يضاعف نفوذ القلّة المتحكّمة ليشمل مجالات اقتصاديّة واجتماعيّة واسعة. وهذا ما يسمح لنا بالانتقال الى التوجه الثاني المتمثل في انكفاء الدولة.
التوجّه الثاني: انكفاء الدولة اقتصادياً واجتماعياً، تعزيز الدولة كسلطة:
وفي موازاة فتح أبواب الرسملة والخصخصة، تبدو الدولة وكأنّها تتخلى تدريجاً عن مسؤوليّاتها في تصحيح اللامساواة الاجتماعيّة، علماً بأنّ هذه المسؤوليّات هي أصلاً محدودة، وأنّ بعضها مبدئيّ متّفق عليه. وبالطبع، من شأن أي تراجع للدولة في هذا المجال في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة أن يسبب تزايداً في الاحتجاجات الشعبية، ما يولّد الحاجة الى إيجاد آليات وطرق لتعزيز هيبة السلطة. وهذا ما يتجلّى في مجمل سياساتها المعلن عنها وفقاً لما أحاول إثباته أدناه.
انكفاء الدولة في مجال الضرائب:
في هذا الصدد، يلحظ أن البرنامج يغفل الضرائب على الثروات أو ضريبة الانتقال أو التحسين من جراء تداول أسهم الشركات العقاريّة أو الضريبة التصاعدية أو الضريبة على سندات الخزينة إلخ، وهو بذلك يتفق إجمالاً مع السّياسات الحكوميّة السّابقة لجهة خلوّه من أيّ إصلاح مبنيّ على اعتبارات إعادة توزيع الثروات أو العدالة الضريبية... وما يؤكد ذلك هو أن البرنامج خلا من أي عنوان مستقلّ للضريبة، بل جاء ذكرها عَرَضاً في سياق توفير موارد إضافية (زيادة الضريبة على القيمة المضافة وزيادة الضريبة على الفوائد) لسد عجز الكهرباء وفي خضم تأكيدات وزير المال أن الدولة لا تحتاج الى أي ضريبة إذا تحررت من هذا العجز! واذا أعلن البرنامج عن نيّة توحيد ضريبة الدّخل (وهو عنوان قديم منذ إصلاحات 1999)، بما قد يخفّف بشكل محدود أعباء صغار المودعين، فإنّه سرعان ما حدّ من تأثيراته مع تأكيده إبقاء نسب الضرائب على حالها. والى ذلك، أعلن البرنامج مشاريع قوانين تُدرس حالياً أمام اللجان النيابية لتسهيل الإجراءات الضريبية أو لتعديل أصول تحصيلها (وتحديداً من حيث التّدقيق والتّغريم)، بما يعزّز هيبة الدّولة في تحصيل مواردها!
انكفاء الدولة على الصعيد الاجتماعي:
وكذلك الأمر على الصعيد الاجتماعي. ففي إثر عبارات عامة رتّبها البرنامج تحت عنوان «العناصر الرئيسة للخطة الاجتماعيّة» وتناولت بشكل عارض وغير تفصيليّ أبنية المدارس الرسميّة (المتضرّرة بسبب الحرب) وتحسين الصحّة الوقائيّة وتنسيق صناديق التأمين الصّحي والبطاقة الصحيّة أو دمجها، نصّت الورقة على برنامجين محدّدين وهادفين فقط (التعابير للورقة)، أولهما خفض مستوى الفقر وثانيهما تحسين مؤشّرات التّعليم، بما يشير الى توجّه الدّولة نحو حصر تدخّلها في حدود الرأفة والإحسان إزاء الأوضاع المأساويّة.
فإذا قرأنا بند خفض مستوى الفقر، يتضح أن البرنامج حصر تنفيذه بوزارة الشؤون الاجتماعية، وذلك إما بفعل تحسين بعض برامجها الحالية من دون أي تحديد أو تفصيل، وإما بفعل إيجاد برامج جديدة مفادها تقديم مساعدات نقدية مباشرة للمسنّين الفقراء والعائلات الفقيرة التي ترعاها سيدات والمعوقين الفقراء وفقاً لمعايير واضحة وعلى أساس خريطة الفقر. وأول ما يلفت نظر العارفين بمشاكل الوزارة هو غموض الورقة الإصلاحية في شأن البرامج المراد تحسينها داخل الوزارة، وتحديداً في التزامها «التابو» السائد في شأن مؤسسات الرعاية المستفيدة من هذه البرامج وتأوي في غالبها معوقين وأيتاماً وأطفالاً لعائلات فقيرة من دون أن تخضع لأي رقابة فعلية، بفعل حصاناتها السياسية والطائفية! فهل تمهّد برامج المساعدات النقدية المباشرة لتعديل البرامج الحالية، وتالياً لتقليص دور مؤسسات الرعاية ومساعدة المعوزين (وخصوصاً الأطفال) من دون سلخهم عن محيطهم؟ أم الأمر لا يعدو كونه مجرد تمويه يحفظ حرمات «مؤسسات الرعاية»، في موازاة تحويل الوزارة الى أداة مباشرة لأحكام الزبونية، بما يوحي بتطعيم المحاصصة الطائفية بميل حكومي الى الاستئثار بالسلطة؟ مهما يكن، فإن أسوأ ما في نص البرنامج هو الإيحاء بأن «الإحسان» هو الطريقة الوحيدة لخفض مستوى الفقر، بمعزل عن أي إصلاح اجتماعي. وخلفية هذه المقاربة تناقض بالواقع تماماً قانون المعوقين الصادر منذ عام 2000 الذي هدف أساساً حسب أسبابه الموجبة الى إخراج مسألة الإعاقة من حيّز الإحسان والشفقة لتصبح مسألة مواطنة وحقوق، ولا سيما في ضمان اندماج المعوق في الحياة العامة وعلى الأخص في الحياة الإنتاجية. وإذا بقي المعوقون منذ ذلك الحين يطالبون بتنفيذ هذا القانون، وخصوصاً لجهة الالتزام بكوتا 3% من الوظائف العامة، والعمل في المؤسسات الكبرى تحت طائلة التغريم، فإن الورقة الإصلاحية، في ذكرهم في خانة الإحسان حصراً، بدت وكأنها تتنكّر مجدداً وتحت ستار الإصلاح لأحكام هذا القانون الذي هو بالمقابل قانون إصلاحي اجتماعي بامتياز.
* محامٍ وخبير قانوني