نزار صاغية *
في ما يلي القسم الثاني من دراسة الأستاذ نزار صاغية عن تشريعات «البرنامج الإصلاحي» حيث يتناول انكفاء الدولة اللبنانية في مجالات الاقتصاد والاجتماع والإصلاح الإداري استكمالاً للقسم الأول الذي نشر يوم أمس والذي إستعرض فيه توجّهات الدولة وسياساتها على صعيد الأسواق المالية والضرائب.
الجانب الآخر من البرامج الاجتماعية الهادفة، يتناول تحسين مؤشرات التعليم. وهنا مجدداً يطغى طابع الإحسان على طابع الإصلاح الاجتماعي. فالمؤشر الوحيد الذي يتناوله البرنامج هو نسبة تسرّب الطلاب والرسوب في المدارس الرسميّة، وهي نسبة تنخفض حكماً في حال خفض عبء كلفة التعليم، بواسطة مساعدات وإعفاءات من الرسوم تمنح للعائلات الفقيرة! إذاً المسألة كلها مسألة إحسان، إحسان مجرد على الأرجح من أي حق مكتسب! وخير دليل على ذلك هو أن البرنامج لزم الصمت ــ هنا أيضاً ــ في شأن القانون الصادر منذ 1997 بتكريس حق التعليم المجاني والإلزامي للمرحلة الابتدائية والذي ما برح ينتظر أن تتشفّع إحدى الحكومات اللبنانية المتعاقبة بوضع مراسيمه التنفيذية! ولعل أغرب ما تضمّنه البرنامج هو ربط المساعدات المالية للأهل في شأن نفقات التعليم بتعهّد الأهل إبقاء أولادهم في المدرسة حتى نهاية المرحلة التربوية الإلزامية (سن 14)، وهو شرط «هجين» في أي دولة تعترف بحق الطفل في التعليم بمعزل عن إرادة أهله. وهو لا يُفهم إلا إذا كان الهدف (الهاجس) ليس تعليم الطفل، بل فقط المفاخرة بخفض مؤشر التسرّب بأي وسيلة إثباتاً لمردودية برامج الدولة! وكخلاصة في شأن المجال الاجتماعي، ساغ القول بأن الإصلاحات المعلنة اقتصرت على برامج مساعدات اجتماعية (الإحسان) مجردة من أي حق مكتسب لا بل على نحو تراجعي يجافي الحقوق الاجتماعية المكرسة في قوانين سابقة على أساس مبادئ المساواة والمواطنة والتضامن الاجتماعيوالى هذين البندين، تُضاف أيضاً مسائل ضمان نهاية الخدمة والتّقاعد والواردة في خانة على حدة، والتي أعلن البرنامج أنها لا تزال قيد البحث تمهيداً لوضع خطة بالتعاون مع البنك الدولي ليصار الى توحيد صناديق نهاية الخدمة والتقاعد تحسيناً للمردودية. وإذا كان من المتّفق عليه أن ثمّة حاجة إلى إصلاحات مهمّة وربما جذريّة في هذا المجال، فإنّ تقويم الخطة يبقى وقفاً على الموازين التي ستعتمدها في تقدير المصالح المتنازعة، وعلى الإطار المؤسساتي لإدارة نظام التقاعد. ويخشى بالطبع أن تعتمد في هذا المجال موازين وأطر موافقة لروحيّة البرنامج، ولا سيّما أنّ البرنامج أوحى في فقرات عدّة ضرورة خفض اشتراكات أرباب العمل وعلى الأرجح مساهمة الدولة في القطاعين الخاصّ والعامّ. وتجدر الإشارة الى جنوح البرنامج نحو التمييز بين أجراء أو موظفين حاليين بإمكانهم الاحتفاظ بحقوقهم المكتسبة في ظل الأنظمة الحاضرة، وهؤلاء الذين يوظّفون لاحقاً لبدء سريان النظام الجديد ويخضعون لزوماً لأحكامه، من دون أي سعي الى التوفيق بين مبدأ الحقوق المكتسبة وضرورات المساواة وخصوصاً في الإدارة العامة، ما يهدد التضامن داخل الفئات المذكورة. ويلحظ تجاهل كامل لقانون الشيخوخة الذي لا يزال معطلاً منذ وضعه في 1999.
انكفاء الدولة في مجال الإصلاح الإداري:
وأخيراً، نسجل انكفاء الدّولة في مجال الإدارة العامّة. فإذ يُسجّل للخطط الإصلاحيّة إعلان نيّة تعديل قانون المحاسبة العمومية على نحو يعزّز شفافيّة الموازنة وشموليّتها وأيضاً إعلان نيّة إقرار مشروع قانون لتسويّة التعدّيات على الأملاك العامّة (وكلاهما مطلب قديم تم تداوله بقوة في حكومة الحص 1999)، فإن البرنامج جاء بالمقابل منقوصاً في مجال الإصلاح الإداري. فعلى صعيد الحوكمة، والى جانب تكليف وزارة التنميّة بوضع استراتيجية للإصلاح الإداري (بما يشكل اعترافاً بأن الحكومة لا تزال في طور استكشاف شروط الإصلاح الإداري!!!)، تعلن الحكومة قرارها ببدء تطبيق الحوكمة في وزارتين فقط هما (وزارة المال ووزارة الأشغال العامة). والسؤال الذي لا يجد جواباً في البرنامج هو لماذا أعطيت هاتان الوزارتان، وبإلحاح أكثر وزارة الأشغال العامة، الأولوية بالنسبة الى سائر الوزارات ولا سيما بعد تراجع دور وزارة الأشغال العامة بفعل حصر النفقات الاستثمارية؟ وهل للأمر صلة بشخصية الوزير الصفدي الذي أعلن في غير موقف إصراره على تجاوز الحكومة في قضايا الإصلاح أم هاتان الوزارتان تتوليان أملاك الدولة (المال و«الأملاك المادية») وبشكل خاص مواردها بخلاف الوزارات الأخرى التي تسعى أولاً ــ أقله مبدئياً ــ الى خدمة المواطن، بما يشكل مؤشراً على تغليب وزارات الموارد على وزارات الخدمة العامة!
وقد تأكّد هذا التوجّه التراجعيّ في أمكنة أخرى حيث تعهدت الحكومة بعدم «طرد» أي موظف (من دون أي إشارة الى أجهزة التفتيش) وكأنها تسلّم أمر إصلاح سائر الوزارات للوقت الذي يكفل انتقال الموظفين الحاليين للتقاعد من دون إعلان آليات كفيلة بضمان توظيف البدائل على قاعدة الكفاءة! وهي بذلك، تجاهلت تماماً دور مجلس الخدمة المدنية الذي أشار في تقريره الأخير الى سوء أوضاع الوظيفة العامة داعياً الحكومة تكراراً الى ضرورة تبنّي مشروع قانون تمكيناً له من أداء دوره بشكل فاعل! وإذا تناول البرنامج موضوع زيادة دوام الموظفين في أيام الأسبوع (من دون أي إشارة الى زيادة أجور)، يسجل أن ذلك لم يرد تحت خانة الإصلاح الإداري بل تحت خانة توفير نفقة الانتقال بدعوى إلغاء العمل الرسمي أيام السبت!! الى ذلك، يلحظ في البرنامج ظاهرة انكفائية أخرى وهي تتمثل في مضاعفة الهيئات والمجالس عامة المستقلة عن القرار السياسي في مجالات اقتصاديّة عدّة، وخصوصاً في القطاعات التي تعدّها الحكومة حيوية، كما هي حال مشروع قانون إنشاء هيئة لإدارة الدين العام وهيئة تنظيم قطاع الاتصالات (التي سارعت الحكومة الى تأليفها بشكل استفرادي في ظل الخصام الوطني) وهيئة تنظيم قطاع الكهرباء (التي أُرجئ أخيراً تأليفها بقانون خاص)، ومجلس الأسواق المالية، والهيئتين العامتين للنقل البحري والبري المذكورتين في خطة النقل الملحقة. ومن خصائص هذه المجالس والهيئات أنها تعمل وفقاً لأصول خاصة وأنها حرة من أحكام كثيرة ملزمة للقطاع العام، ولا سيما في مجال الرقابة المسبقة. وإذا كان إنشاء مجالس عامة مستقلّة أمراً محبّذاً لما يوفّره من عقلنة وديناميّة، فذلك بشرط أن يتزامن مع انتشار واسع لثقافة الاستقلاليّة والحياديّة المهنيّتين. أما أن يعمّم ذلك في موازاة تجاهل القضاء (رمز الاستقلالية والحيادية المهنية) وفي ظل مناخ تتحكم فيه سوء الإدارة في سائر القطاعات، فذلك يشكل إعلان نوايا جديداً بتمييز بعض الإدارات وفقاً لأولويات الحكومة، وهو يصبح في ظروف التشنج والاصطفاف الراهنة بمثابة إعلان الاستئثار بهذه القطاعات بما يقارب صبّ الزيت على النار.
الجزء الثّالث: لئلا تكون التشريعات خطابيّة:
في هذا المجال، تضمّن البرنامج وملاحقه شعارات وعناوين وآليّات خطابيّة عدّة هدفها الإيحاء بأنّ الحكومة مهتمّة بقضايا معيّنة أو تبذل جهوداً في شأنها خلافاً لحقيقة الأمر، وذلك من باب إرضاء الرأي العام الوطني أو الجهات المانحة. وما نخشاه في هذا الإطار هو أن يفرز هذا الأسلوب قوانين مشابهة به، أي قوانين «كبيرة» في عناوينها، على أن تكبح أو تعلّق مفاعيلها بطريقة أو بأخرى، كأن يعلّق سريانها على إصدار مراسيم تنفيذيّة أو على قرارات وزارية، يعرف سلفاً أنها لن تصدر. ومن أبرز أوجه هذا الأسلوب، الأمور الآتية:
ــ استعادة شعارات باتت محط كلام كشعارات الحوكمة والشفافية والكفاءة وتحفيز النمو والحكومة الإلكترونية والدولة الحديثة وشبكة الضمان الاجتماعي والألفية الثالثة للتنمية وتحسين بيئة العمل، فضلاً عن كلمات أصرّ البرنامج على ذكرها باللغتين العربية والإنكليزية ككلمتي eligibility criteria وPoverty targeting map كأنه يعلن مدى جدتهما في الخطاب العام. واللافت أنّ كلّ هذه الشّعارات تلقى ما يناقضها كما يظهر ممّا تقدّم. ولعلّ أبرز هذه الخطب غرابة هو إصرار البرنامج على أن الإصلاح الاقتصادي لا يستقيم إلا بإصلاح اجتماعي، من دون أي ذكر للإصلاح السياسي وأيضاً شمول مفهوم بيئة العمل قضايا إصلاحية كثيرة من دون أي إشارة الى وضع الأجراء.
ــ اعتماد الفعل المضارع مدعّماً بعبارتي «سوف» أو «س»، مع وضع مهل فضفاضة أو حتى من دون تحديد أي مهلة في قضايا كثيرة. وهكذا نقرأ أنه سيتم مراجعة أوضاع الاستخدام، أو أن الحكومة ستتبنّى برنامجاً استثمارياً عاماً مفصّلاً للمدى المتوسط أو أنه سوف يحدد المستفيدون من برامج المساعدات النقدية استناداً الى معايير الاستحقاق الشفافة أو أن الحكومة سوف تطور برامج تهدف الى تحسين مؤشرات التعليم أو أنه ستُراجع أنظمة التقاعد لأعضاء مجلس النواب إلخ.. وطبعاً كل ذلك من دون تحديد أي مهلة، وذلك بخلاف القضايا التي تهم الحكومة بشكل مباشر كتخصيص قطاع الخلوي والاتصالات عموماً أو فرض ضرائب جديدة. وفي الاتجاه نفسه، نجد إعلان البرنامج بإنشاء لجان وزارية أو تفعيل لجان أخرى (لجنة وزارية للصحة الاجتماعية) أو بتكليف جهة أو أخرى بوضع استراتيجيّة في أمر معيّن كما هي حال تكليف مكتب وزير التنميّة الإداريّة بوضع استراتيجية للإصلاح الإداري. وبالطبع تبلغ الغرابة ذروتها حين ينبئ البرنامج بنية الإقدام مستقبلاً على أعمال معينة في مسائل «قديمة» يفترض أنّه أُنهيت الدراسات والخطط في شأنها منذ فترة طويلة كتحديد فائض الموظفين في الإدارات العامة.
ــ صياغة بعض بنود البرنامج بشكل مبهم وعلى نحو يبقي خيارات الحكومة مفتوحة بالكامل، كأن يعلن البرنامج نية الحكومة إعفاء أهل التلامذة الفقراء كليّاً أو جزئيّاً من رسوم التسجيل، أو أن يعلن نيّة إغلاق صناديق من المتوقع أن تكون أنجزت أعمالها أو أن تعلن بعض الأشياء على سبيل المثال لا الحصر، أو أن تعلن إرادة تحديث قانون العمل من دون أي إشارة الى توجّهاتها على هذا الصعيد حتى مع الإيحاء بوجود نية في محاربة الفساد السياسي عبر خفض رواتب النواب والوزراء أو إعادة النظر في معاشاتهم التعاقدية!
* محامٍ وخبير قانوني