علي الشامي *
تظهر الطائفية لحظة توظيف الالتئام المذهبي في سياق الدولة، هيمنة أو شراكة، الأمر الذي يجعل الطائفية عنصراً مضافاً الى الطائفة والطوائفية، بحيث يضفي عليهما علاقة غير سويّة، تشوّه النشأة الأولى وتخضعها لمنطق جديد.
فالطائفية تؤسس، هكذا، عصبية سياسية لكل طائفة، وتحوّل المجتمع الى بؤرة صراع بين عصبيات سياسية توجّه طاقاتها شطر الدولة، مطالبة أو مدافعة. وإذا كانت الطائفية تعبيراًَ عن عصبية سياسية تفعل فعلها في الطائفة، أدلوجة ومصلحة وتحالفات، فإنها قابلة للتعميم على أشكال أخرى من الاجتماع السياسي، كالحزب أو ما في معناه، ومثله الطبقة أو القبيلة أو العرق... ومهما يكن من أمرها، فإن الطائفية تزهو بقدرتها على نقل الاجتماع الأهلي الى اجتماع سياسي، ينتج بدوره تراتبية جديدة وعصبيات داخلية تتسابق في ما بينها على الرياسة والزعامة مدخلاً الى تمثيل الطائفة في نصابها المخصوص في الدولة المتعددة الطوائف. وفيما يكون في مقدور الطائفة أو الطوائف الاستمرار من دون الطائفية، فإن هذه الأخيرة تحتاج، في وجودها واستمرارها، الى الطائفة والمجتمع الطوائفي، إذ هي قاطرة انتقالهما الى سياسة جامعة ومانعة.
وبهذا المعنى، تبدو مقالات بعض المثقفين تبسيطية واختزالية. فالطائفية تنتج السياسي الطائفي في اللحظة التي تتمكن فيها من تحويل الطائفة الى عصبية سياسية، أي ان اللحظة التي يظهر فيها السياسيون كطائفيين، لا تكشف عن مواهب هؤلاء وعبقرياتهم ومنافعهم الخاصة وأضاليلهم، بقدر ما تشير الى إجماع أهلي أو شرعية أهلية لأشخاصهم ومواقفهم ومواقعهم، وذلك كله في سبيل تحصيل مصلحة الطائفة، كطائفة، قبل أي شيء آخر. وبعبارة أوضح، ترجع الطائفية السياسية، ورموزها في الأشخاص والمناصب والخطاب والمصالح، الى جذورها في الطائفة قبل صدورها عن المتحدث باسمها أو الضارب بسيفها. ان هزالة أو هامشية الدور اللاطائفي، على رغم سلامته وضرورته الوطنية، الذي تعلنه أحزاب وهيئات وشخصيات غير طائفية، تؤكد متانة وواقعية العلاقة القائمة بين الطائفة والطائفية والسياسي، من دون ان يعني ذلك ان السياسي بريء من الطائفية وانه لا دور له في تغذيتها، بل يعني انسجاماً في تمثيل الطائفة والتعبير عن مصالحها، حتى وهو يلتقط منافع خاصة لم تفارقه أبداً، في الحلم أو اليقظة، في الحكم أو المعارضة... وبقدر ما يتحمل السياسي مسؤولية تأجيج الميل الطائفي في طائفته، بقدر ما تقع على الطائفة مسؤولية إنتاج الطائفي وتشريع موقعه ودوره، شخصاً كان أو ميليشيا أو حزباً أو جمعية ثقافية أو تحالفاً... فهي التي تلفظ اللاطائفي وتعزله، وهي، كعصبية سياسية، تصنع أمجاد الطائفي وانتصاراته، بقوتها يحكم وينطق ويطالب، يهاجم ويدافع، وبضعفها يهادن ويرضخ ويستنجد بالخارج، يعدّ العدّة وينتظر.
تجد هذه الملاحظات المكثفة دلالتها الموضوعية في خاصية الاجتماع التاريخي للطوائف اللبنانية في دولة ووطن. وهو الاجتماع القسري الذي حدث في لحظة أوروبية، أو حدث أيضاً في لحظة انهيار عثماني نهائي وشامل. وبالتالي لم يجتمع في لبنان أفراد من دون طوائف، اختاروه لهم دولةً ووطناً بملء إرادتهم ووفق مصالحهم وطموحاتهم ومعتقداتهم، بل دخلوا إليه كطوائف كانت قائمة قبله وتقيم فيه وستبقى بعده. صنعته لهم أوروبا، مكافأة لطائفة منهم، ومغازلة لأخرى وعقاباً لهذه أو تلك من الطوائف التي رفضت ملاقاة الجنرال «غورو» الى منتصف الطريق الواقع بين هزيمة السلطان وانتصار الجنرال. ودخلت إليه أيضاً كطوائف نخرتها السياسات الداخلية والخارجية بعد حروب أهلية على ولايات وإمارات وضرائب وطرق تجارة وثنائيات إيديولوجية من كل نوع، وتحالفات وخضوع للآخر، كل آخر، خارج نطاق الطائفة المنافسة.
وبعدما أصبح لهذه الدولة حدود وأغنية وعلم، توزعت الطوائف على مؤسساتها في توليفية الأعراف والمصالح بعدما اختزلتها في دستور وقوانين، ثم شرعت في بحثها عن هوية جامعة في وطن حر سيد مستقل، ولكن مع بعض التمايز في النظرة والدور والزمن. وبمعزل عن الأفراد وتطلّعاتهم أسقطت كل طائفة مصلحتها على هيكل الدولة، مثلما قدمت كل واحدة صورة خاصة بها عن هذا الوطن، كادت تحوّل الوطن الى أوطان، أو جعلته كذلك بطريقة ما. وهكذا يكون لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه منذ قيامه، عند طائفة. ويصبح كذلك بعد حربين أهليتين عند طوائف أخرى. ويكون كياناً مؤقتاً ينتظر وحدة عربية طال انتظارها، أو خلافة إسلامية تبتعد أكثر مما تقترب، مثلما يكون نقيضاً للمحيط وجسر عبور غربي إليه، تجارة وثقافة ومشاريع سيطرة ونهب. وفي كل الأحوال، أشرقت الطوائف على وطن ظل رهين إراداتها ومصالحها، كما ظل رهين سياسات خارجية تقذفه وسط تناقضاتها وتقدمه مساومة على طاولة المفاوضات بين أقوياء يملكون قدرة على تكبيره أو تصغيره، توحيده أو تقسيمه، تعيين دوره تقويةً أو تحجيماً... وعلى شاكلة الوطن، أو فكرة الوطن، قامت الدولة أو ما يشبه الدولة. ذلك ان اختلاف الطوائف على هوية هذا الوطن، قبل اتفاقها عليها في الطائفة، انسحب أيضاً على نظرتها الى الدولة. فهذه الدولة، مثل كثير غيرها، قريب منّا وبعيد، لا تخاطب الأفراد وتسوسهم كمواطنين، بل تدعوهم إليها من مواقعهم الفعلية كأعضاء في طوائف وعصبيات. وقد اختزلت الدولة إرادة طوائفها وقدمت نفسها، منذ قيامها، مؤسسة تعكس موازين القوى الطوائفية. لذلك، كانت الدولة اللبنانية طائفية في أصلها وفصلها. وعلى رغم انتقالها من وصاية فرنسية الى استقلال ملتبس عند طائفة ومكتمل عند أخرى، فإنها حملت في أحشائها الطائفية ونثرتها في تاريخها وتاريخ المجتمع الذي تديره. فقد توافقت عليها طوائف وجدتها، كل واحدة، أفضل من الفراغ أو الاستعمار أو الذوبان في دولة أخرى. مثلما وجدت فيها، كل واحدة أيضاً، امكانية لتحقيق مصالحها كطائفة. وفي نهاية الأمر، آلت الدولة الى مؤسسة استقطاب للمصالح المتعددة ومحور لمنازعات الطوائف، فاختزلت بذلك دورها الحقيقي تجسيداً لتراتبية الطوائف وحصصها في مراكز القرار والإدارة والثروة.
وهكذا، قامت الدولة على طائفية سياسية تقودها جدلية الصراع على الهيمنة والشراكة. فالدولة لم تتجاوز الطائفية السياسية السابقة عليها في الوجود والفعل، بقدر ما جعلتها صورة لها ومسلكاً. ولم تعمل على تفعيل ميزة المجتمع الطوائفي في اتجاه ترسيخه وطناً فوق الطوائف وتغذيته كرسالة أنموذجية للعيش المتعدد العقائد والثقافات ومصنع طاقات بشرية للمحيط، وهو تفعيل يبقى مطلوباً منها القيام به، أو هذا ما نرجو حدوثه على قليل الأمل ومشروعية الحلم.
انطلاقاً من خصائص هذا التكوين، مسخت الطائفية مشروع الوطن، مثلما ساهمت طائفية الدولة في إدخال المجتمع الطوائفي في نفق مظلم أو بين خطوط تماس داخلية وحقول ألغام خارجية، بل أكثر من ذلك، حددت لكل طائفة سقفاً لتاريخها، بحيث تضيق وتتسع خلافاتها على قاعدة التسابق بين أعيانها على تمثيلها في الدولة. وبالتالي، فالطائفية السياسية باتت تجسيداً لهذا التكوين بقدر ما شيدت نظاماً على صورتها تعززه آلية عمل تعمق الطائفية في الولاءات أكثر مما تغذي طوائفية المجتمع وواحدية الهوية الوطنية.
وبينما تحتضن الدولة إفرازات التنافس على الهيمنة أو الشراكة، تتقاسمها الطوائف وتقتطع منها حصصاً على قياس مصالحها. وفيما تخضع الحصص لموازين القوى ونتائج الصراع، تبقى مؤسسات الدولة نقطة انكسار التنافس الطائفي وتأجيجاً له، في آن معاً. ففي هذه المؤسسات ومن أجلها، تدور الحروب الأهلية الصامتة بين ممثلي الطوائف. وعند عتباتها تتوقف الطوائف عن الاحتراب المباشر بعدما أوكلت الى قادتها متابعة الحرب بأشكال أخرى.
وفي هذا السياق أيضاً، تندرج التحالفات الخارجية لكل طائفة. فالخارج لم يصبح عاملاً حاسماً في توجيه المسار الداخلي إلا في اللحظة التي أدرجته فيها كل طائفة داخل منظومة مصالحها وقذفته في وجه غيرها من الطوائف. وبالتالي، فالخارج يغذّي الطائفية ما دامت تستدعيه دورياً لتأجيج نارها، من دون أن تهمل، بطبيعة الحال، ضرورة الاستجابة لمصالحه واستراتيجيته وشروطه.
وهكذا، ينعقد لواء الهيمنة للطائفة القادرة على القيام بالدور الذي يريد هذا الخارج من لبنان أن يؤديه في المنطقة. وفي كل مرة يتغير فيها هذا الخارج، يتعدل الدور ويتفاقم التنافس على الهيمنة والدور معاً، الأمر الذي يفسر كل سلم أهلي أو كل حرب أهلية من خلال علاقتهما العضوية بتطور الصراع الإقليمي والدولي ومفاعيله في السلم والحرب، مثلما يفسر أيضاً اختلاف الطوائف على هوية هذا الخارج، الذي يكون صديقاً لواحدة وعدواً لأخرى، انطلاقاً من توظيفه في حسابات كل طائفة. بل حتى إن وضوح هويته، صداقة أو عداوة، يخضع بدوره للفوائد التي يمكن كل طائفة ان تجنيها منه على حساب الأخرى. وأكثر من ذلك، فالخارج الذي يرغب في البقاء على مسافة متساوية من الجميع، مثل سوريا، لا تنظر إليه الطائفة الواحدة من زاوية رغبته عينها، بقدر ما تعمل على تأويل رغبته بما يتناسب مع مصالحها. وهذا ما اختزلته الطوائف ولا تزال تختزله في خطاب وطني متناقض، تتحكم به ثنائيات حادة: بين الدولة العثمانية وأوروبا، لبنان الكبير والوحدة مع سوريا، مصر الناصرية وخليج أيزنهاور، سوريا واسرائيل، فرنسا الحضارة وعرب الصحراء، وكل ما يستلهم مقولة صحافية معروفة: نفيان لا يصنعان أمة، وما تتوارى خلفه مقولة سياسية مألوفة: لبنان واحد لا لبنانان... أو بلغة اللحظة الحالية: لبنان الأميركي ــ الفرنسي أم لبنان السوري ــ الإيراني، وبينهما يضيع الباحث عن لبنان من دون إضافة خارجية، وهو مطلب غير قابل للتحقيق في المدى المنظور، على الأقل؟
* باحث وأستاذ جامعي