ماجد عزام *
لم يكن من الغريب أن تثير شهادة اعترافات رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت أمام لجنة فينوغراد المخوّلة التحقيق في الأداء السياسي والعسكري الاسرائيلي خلال حرب لبنان الثانية، ردود فعل وسجالاً حاداً في الداخل الاسرائيلي ما بين مؤيد ومعارض في ظل إجماع على أن مقرّبي أولمرت ومساعديه تعمّدوا نشر الشهادة أو الاعترافات في هذه اللحظة تحديداً من أجل تحقيق جملة من المكاسب السياسية والحزبية. غير أن الغريب أن اعترافات أولمرت بما احتوته من تغيرات ومواقف ذات طابع استراتيجي تتعلق أساساً برد الفعل الاسرائيلي تجاه التطورات الإقليمية بشكل عام، وتجاه التطورات في فلسطين بشكل خاص، وبعيداً من بعض التفاصيل حتى المهمة منها. إلا أن وضع شهادة أولمرت في سياقها الاستراتيجي وفي سياقها السياسي والحزبي والإعلامي الاسرائيلي الداخلي يستوجب طرح الملاحظات الأساسية التالية:
ــ أولاً: ليس صدفة أن يقوم مكتب أولمرت بتسريب فحوى شهادة الاعتراف أمام لجنة فينوغراد في هذا التوقيت حيث تم التسريب في ذروة الجدال بين أولمرت والمراقب العام للدولة ميشا ليندنشتراوس في الثغرات والنواقص التي شابت أداء الجبهة الداخلية خلال الحرب الأخيرة. كذلك تم التسريب بينما تصل شعبية أولمرت إلى الحضيض ولم يعد سوى 2% في المئة فقط من الاسرائيليين يثقون به ويرونه جديراً برئاسة الوزراء وقيادة الدولة العبرية. إذاً فقد أراد أولمرت ومقربوه عبر التسريب تحسين شعبيته وإثبات مزاياه القيادية والسلطوية وبالطبع التأثير في تقرير لجنة فينوغراد المبدئي المفترض صدوره نهاية آذار الحالي.
ــ ثانياً: في الجوهر أي في اعتراف أولمرت فإن الاستعداد لحرب لبنان بدأ عملياً في آذار الماضي وحتى في كانون الثاني وبالتحديد في الثامن عشر أي بعد أربعة أيام فقط من تولي أولمرت منصب القائم بأعمال رئيس الوزراء بعد دخول أرييل شارون في الغيبوبة في الرابع من كانون الثاني. وبهذا أولمرت يريد القول للاسرائيليين بأنه شمّر عن ساعديه أياماً قليلة بعد تسلمه السلطة وأنه لم يذهب للحرب في الثاني عشر من تموز بشكل متسرع وأهوج بل نتيجة تخطيط وتفكير بسيطين وحتى باكرين جداً. وواضح هنا أن أولمرت يريد إثبات مزاياه السلطوية والقيادية والزعامية ودحض فكرة أنه جُرّ إلى الحرب كغر ومبتدئ سياسي وأن العسكر أثروا فيه واقتادوه وراءهم من دون أي رد فعل ملائم من جانبه.
ــ ثالثاً: في ما يتعلق بالجوهر أي بقرار الحرب أيضاً فإن التسريب لم يتضمن سوى نصف الحقيقة أي إن الاستعداد للحرب بدأ في آذار والخروج منها كان بقرار اسرائيلي مسبق لا تحت تأثير أسر الجنديين في زرعيت في الثامن عشر من تموز 2006، أي إن الخروج كان بقرار تام من العقل لا من البطن حسب التعبير الاسرائيلي. غير أن ما لم يقله أولمرت أو قاله ولم يُسرّب يتعلق بأن قرار الحرب نُسِّق تماماً مع الولايات المتحدة وتحديداً مع مكتب نائب الرئيس ديك تشين، ما يعني أن الحرب على لبنان كانت جزءاً من سيناريو أو سياق أشمل وأعم للمنطقة وضعته الإدارة الأميركية للخروج من الورطة والغرق في المستنقع العراقي واستباقاً لتقرير بيكر ــ هاملتون الذي توقعت الإدارة الأميركية ــ وهو ما حدث فعلاً ــ أن يأتي باستنتاجات تهدم الأسس الفكرية والأيديولوجية والاستراتيجية لحركتها وسياستها في المنطقة منذ غزو العراق. وقد استند سيناريو تشيني على قاعدة أن الطريق إلى طهران تمر بغزة مروراً بالطبع ببيروت ودمشق وبغداد حيث أُعلن الحصار الصارم والقاسي غير الأخلاقي وغير المبرر على حكومة حماس والشعب الفلسطيني بحيث تسقط حماس ومعها خيار المقاومة، فيستأسد المنتصرون عليها وعلى الجهاد الإسلامي وكل فصائل المقاومة، وبعد ذلك تقوم اسرائيل بتوجيه ضربة قاصمة لحزب الله بحيث يستأسد المنتصرون هناك فيتمكّنون من ترويضه واستضعافه ونزع سلاحه. سيناريو تشيني تضمن أيضاً تحييد سوريا من دون تقديم أي ثمن لها بعد إضعاف تيار المقاومة والممانعة في فلسطين ولبنان، بل وإجبارها على التعاون والانصياع لمصلحة المشروع الأميركي في العراق والمنطقة مقابل التفضل بالموافقة على إبقاء النظام ومنع إسقاطه بالقوة، ومن ثم الذهاب إلى الهدف الرئيس وهو إيران، وتوجيه ضربة قاصمة لها تنهي مشروعها النووي وطموحاتها الإقليمية، وبعد ذلك الاستفراد بتيار المقاومة والممانعة العراقية بعد محاصرة ومنع الدعم السياسي واللوجستي، حسب التعبير الأميركي، من دمشق وطهران. إلا أن السيناريو فشل فشلاً ذريعاً وأساسياً بسبب الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني واللبناني ولتيار المقاومة والممانعة بشكل عام. ومن الممكن تصور أن أولمرت لن يجرؤ على التصريح علانية بهذا السيناريو لأنه سيؤكد بؤسه القيادي وقصر قامته السلطوية وعجزه عن مقاومة الضغوط الأميركية والذهاب للمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية إلى حرب هي حرب أميركية بامتياز. وبعدما كان الجنود الأميركيون يموتون في سبيل المصلحة الاسرائيلية العليا باتت القاعدة معكوسة وبات على الجنود الاسرائيليين التضحية من أجل أحلام جورج بوش وسياساته المستعصية والخيالية وحتى المجنونة.
ــ رابعاً: أشار أولمرت في سياق اعترافه إلى كلام مهم منسوب إلى أرييل شارون في تشرين الثاني 2005 بصدد تغيير قواعد اللعبة في مواجهة حزب الله والرد بقوة على ما تعتبره اسرائيل عمليات استفزازية من الحزب. يمكن التأكيد أن أولمرت لم يفهم السياق الاستراتيجي والتاريخي لتغيير موقف شارون من التطورات على الجبهة اللبنانية والذي أشار إليه مستشاره السياسي دوف فايسغلاس في شهادته أمام لجنة فينوغراد ومفاده أن شارون لم يكن يرغب في فتح جبهة ثانية في الشمال إضافة إلى الجبهة الأولى الفلسطينية المفتوحة في الجنوب. وبأثر رجعي يمكن استنتاج أن شارون فهم أن الجبهة في الجنوب ــ قطاع غزة تحديداً ــ قد أقفلت بعد تنفيذ خطة فك الارتباط أو الانسحاب الاسرائيلي الأحادي من هناك وأن الأمن سيسود على حدود قطاع غزة وسينشغل الفلسطينيون بمشاكلهم وخلافاتهم، وهذا الوضع يتيح فتح جبهة الشمال في أي وقت. وأهم من ذلك أن شارون فهم أن الدفاع عن القواعد الأيديولوجية والسياسية لمفهوم فك الارتباط بالانسحاب الأحادي عن الفلسطينيين يقيّض توجيه ضربة قاصمة صارمة لأي جهة تفكر في استئناف المقاومة من المناطق التي تم الانسحاب منها. وفي هذا السياق فإن من المستحيل تعميم فك الارتباط وتوسيعه ليشمل الضفة الغربية، ورسم حدود اسرائيل النهائية من جانب واحد، والمهمة التي اعتقد شارون بأن الظروف مثالية لتطبيقها ومن أجلها انفصل عن الليكود وأسس كديما من دون أن يسود الهدوء قطاع غزة ــ ولبنان ــ أو على الأقل أن تسود درجة منخفضة من الاستقرار بحيث تستطيع اسرائيل التعايش معها.
من الواضح أن أولمرت لم يلتقط مغزى تصريحات وتغييرات موقف شارون. وفي أفضل الأحوال فهمها ولكن طبّقها بشكل سيء وغير ناجح سواء في غزة في مواجهة الفلسطينيين أو في لبنان في مواجهة حزب الله والشعب اللبناني.
ــ خامساً: في سياق رغبة أولمرت الشخصية في تصوير نفسه قائداً وزعيماً يتصرف بناءً على أفكار سلفه وخططه ومشاريعه ولا ينساق إلى رد الفعل، فإنه وبشكل متهور برّأ وزير الدفاع عمير بيريتس وفي الوقت عينه دان جيش الاحتلال أو على الأقل قيادته السابقة، وتصرف وتحدث طوال الوقت وكأن عمير بيريتس غير موجود لا بل قال إن الخطة العسكرية للحرب وضعت قبل وصول هذا الأخير إلى منصب وزير الدفاع، وهذا ليس ناتجاً من تسامح أو محبة لبيريتس بل من إيمان واقتناع بأن هذا الأخير تحول إلى ضبة سياسية وأن حزب العمل سيقوم بركله خارجاً في القريب العاجل وتحديداً في الانتخابات القيادية التي ستجري في أواخر أيار المقبل. أما تجاه الجيش فقد تعمد أولمرت القول إن ثمة خططاً قد يصعب تنفيذها وأن القيادة السابقة لم تنجح في تنفيذها وأن المشكلة قد انتهت باستقالة القادة العسكريين الرئيسيين الثلاثة المسؤولين عن الحرب: رئيس الأركان دان حالوتس وقائد الجبهة الشمالية أودي أبرام وقائد فرقة الجليل فال هيدس، وبالتالي لا حاجة إلى إطاحة وإسقاط المزيد من الرؤوس السياسية العسكرية وأن على القيادة العسكرية أن تعيد النظر في ما يكفي لاستخلاص العبر وإعداد الجيش بشكل سليم مهني لأي حرب مقبلة.
في الأخير يمكن القول إن تسريب شهادة أولمرت شكلاً وموضوعاً كما مجمل التطورات السياسية والحزبية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية في اسرائيل تؤكد عمق المأزق الكبير والمتعدد المستويات الذي تتخبط فيه الدولة العبرية.
فمرحلة تحقيق الانتصارات السهلة والسريعة على العرب قد ولّت، ومرحلة التراجعات والانكسارات قد بدأت، فخلال أربعة وثلاثين يوماً لم تتمكن اسرائيل من تحقيق الانتصار على حزب الله على رغم الاستخدام الهائل للقوة المحرمة وغير المحرمة دولياً. وخلال ست سنوات لم تتمكن اسرائيل من هزيمة الانتفاضة أو إخماد جذوة المقاومة والممانعة في فلسطين التي مثلت وما زالت مع المقاومة في لبنان عنواناً لانكسارات المشروع المتوسطي لإسرائيل في فلسطين ولبنان وعموم المنطقة.
* مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام