خليل حسين *
على الرغم من بعض الآمال التي عُلّقت على مؤتمر العراق الدولي لجهة توفير مستلزمات تهدئة ملف العراق الداخلي، أخذت سلسلة من القضايا ذات الصلة بدول الجوار العراقي حيّزاً غير معلن سواء في أعمال المؤتمر أو التحضير له، وبصرف النظر عن حدود حجم النجاحات المحققة أو الإخفاقات، فثمة العديد من القضايا المرتبطة من الصعب القفز فوقها أو تجاهلها، باعتبارها مقياساً لما يمكن أن يتحقق لاحقاً.
فقد انعقد المؤتمر لمعالجة ملفات العراق الداخلي وأبرزها الموضوع الأمني وبالتالي تصوير الأمر وكأنه موضوع عراقي بحت، فيما هو، وإن كان الموضوع أمنياً، ذات صلة وثيقة بملفات خارجية متشعبة ليس للعراقيين وحدهم اليد الطولى في تدبير أمورها أو التأثير فيها. وعلى الرغم من خلفيات المؤتمر الكبيرة والحساسة لأغلب المشاركين فيه، لم يكن التمثيل في مستوى هذه الخلفيات والقضايا وظل بمثابة المستوى الذي يخدم حدود جس النبض السياسي المتبادل بين بعض أطرافه، وخاصة بين الولايات المتحدة وكل من سوريا وإيران. وما يعزز هذه الفرضية الإعلان عن مؤتمر لاحق على مستوى وزراء الخارجية سيعقد في إسطنبول الشهر المقبل.
ثمة معطيات ووقائع كثيرة أحاطت بظروف انعقاد المؤتمر وفرضت على أبرز اللاعبين فيه قبول ما لا يرغب فيه، فالإدارة الأميركية وخاصة جناح الصقور في المحافظين الجدد لم يجدوا بداً من القبول بالأمر الواقع والإذعان بتكابر لتوصيات لجنة بيكر ــ هاملتون، وبالتالي الجلوس مع طرفين صنّفتهما ضلعي مثلث محور الشر. ففي الوقت الذي مشت فيه الإدارة الأميركية قُدُماً بالخطة الأمنية عبر زيادة قواتها، كانت الخطة نفسها تتهاوى أمام اشتداد الانفلات الأمني حتى على وقع اجتماعات المؤتمر نفسه، الأمر الذي يوحي بأن واشنطن لم تجد غضاضة في القول إن الجلوس إلى الطاولة عينها مع من ناصبتهم العداء أفضل بكثير من البقاء تحت الطاولة والاحتماء بخطط أمنية لا أفق سياسياً لها.
في المقابل، ثمة طرفان أساسيان في المعادلة العراقية ببعديها الإقليمي والدولي، من الصعب تجاهلهما طوعاً أو إكراهاً. فبحكم التاريخ والجغرافيا تمكَّنت كل من طهران ودمشق من تأدية أدوارٍ أساسية صنّفها البعض بأنها أكبر من إمكاناتهما الفعلية. وبصرف النظر عن واقعية هذا التصنيف ودقته، ثمة واقع لم تتمكن واشنطن من تجاهله دائماً.
فإيران سعت وتسعى إلى تكريس حضور فاعل في القضايا ذات الصلة بالسياسات الخارجية الاستراتيجية، وبنت تراكمات يُعتدّ بها في المحيط الإقليمي ومنها الدائرة العراقية، وما عزَّز هذا الدور هو الاحتلال الأميركي للعراق الذي فرض على طهران البحث عن وسائل فاعلة لتنفيذ أهداف سياساتها الخارجية، الأمر الذي يُفسر بوضوح تام المطلب الإيراني في المؤتمر وهو تحديد جدولة الانسحاب الأميركي من العراق، باعتباره من الناحية العملية إزاحة إحدى ركائز حماية البرنامج النووي وملفاته المعقدة مع الغرب بشكل عام وواشنطن بشكل خاص، فيما هذه الأخيرة تبحث عن الحلول الأمنية التي تحمي مشروعها السياسي والاقتصادي في المنطقة.
أما سوريا التي أدت دوراًَ محورياً إقليمياً مدى ثلاثة عقود من خلال البوابة اللبنانية، وجدت نفسها محاصرة بشبه إحكام بعد خروجها من لبنان على وقع القرار 1559 وسلسلة الارتدادات السياسية التي أعقبت صدوره، وما عزَّز هذا الشعور السلوك الأميركي في التعاطي مع القضايا ذات الصلة بالملفّين العراقي واللبناني، ما دفع دمشق إلى التوجه شرقاً لانتزاع بعض الأوراق التي تريحها جنوباً وغرباً. وبحكم علاقات الضرورة وتقاطع المصالح الاستراتيجية مع طهران التي وصلت إلى حد التحالف، شكَّل الحضور السوري في المؤتمر رافعة لافتة للمطالب السورية ــ الإيرانية المشتركة.
وإذا كان هذا المؤتمر لا يشكل جديداً في سلسلة مؤتمرات الجوار العراقي التي بدأت أواخر عام 2004، إلا أن الجديد اللافت فيه هو الحضور الإيراني والسوري والأميركي على قدم المساواة، وإن اختلفت الأحجام والأهداف والخلفيات المعلنة وغير المعلنة. ففي توقيت هذا المؤتمر بالذات نضجت كل الظروف التي أجبرت جميع أطرافه على الجلوس ومحاولة الاستماع إلى الطرف الآخر للتمعّن والتفكّر في ما عليه الحال. فالولايات المتحدة، وخاصة رئيسها، تعيش مأزق قواتها في العراق، وفرنسا يودّع رئيسها قصر الإليزيه على وقع فشل السياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط، وبريطانيا يحاول رئيس وزرائها توني بلير استعادة أمجاد بلاده السياسية السابقة في العراق، وروسيا تحلم بالعودة إلى المياه الدافئة، والصين تبحث عن الاستثمارات الاقتصادية التي تمكِّنها من بناء نظام دولي جديد على قوائم اقتصادية لا عسكرية، كل ذلك وسط جهود إيرانية لمنع عمل عسكري ضد برنامجها النووي، ومكافحة سوريا لرد سيف المحكمة الدولية عنها، فيما العراقيون وحدهم غير قادرين على التأثير في مجرى الأحداث ووقائعها وهذا ما فسره بشكل أو بآخر رئيس وزرائها نوري المالكي ووزير خارجيتها هوشيار زيباري في خلال أعمال المؤتمر.
إن مجمل تلك الظروف أنتجت واقعاً آخر في نهاية المؤتمر تمثَّل في تأليف لجان متابعة، منها لجنة أمنية باعتبارها بيت القصيد المعلن من هذا الاجتماع. وبصرف النظر عن قدرة تلك اللجنة على تنفيذ أهدافها ومهماتها، فإن أموراً ذات صلة تنتظر الملف العراقي وغيره من الملفات، فماذا في المستقبل المنظور وما هي المعطيات التي يمكن البناء عليها لاحقاً؟
أولاً لا شك في أن القمة الإيرانية ــ السعودية قد وفّرت مروراً هادئاً لأعمال المؤتمر وأنتجت بيئة سياسية عربية ــ إقليمية قابلة للبناء عليها، وخاصة في الملفّين العراقي واللبناني، وإن بحذر نظراً إلى عدم الرضا الأميركي الكامل، وذلك يتقاطع مع مواعيد مفترضة مقبلة ذات دلالات سياسية فارقة لوضع المنطقة برمتها، ما يجعلنا نسجل بعض الملاحظات، منها:
ــ إن المؤتمر المقبل للجوار العراقي الذي سيعقد حكماً بعد القمة العربية المقررة في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من الشهر الحالي، سيكون على مستوى وزراء الخارجية، ما يعطي انطباعاً أن هذا المؤتمر كما أسلفنا يعتبر مرحلة اختبار نيات وفحص دم سياسي قبل اللجوء إلى العمليات الجراحية إذا اقتضى الأمر.
ــ إن مؤتمر القمة العربية المقبلة في الرياض سيقف على مفترق طرق ربما يكون الأدق في تاريخ قمم الدول العربية، باعتباره مطالباً بالإجابة عن العديد من الأسئلة وخاصة ما يتعلق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي وما يمكن أن يُقدم من طروح جديدة تكون بمثابة بديل غير معلن من مقررات قمة بيروت عام 2002.
ــ وبالموازاة وربطاً بما يمكن أن يقدم في القمة العربية، ثمة اتجاه يقوده رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتس من خلال زيارته غير المعلنة للمملكة العربية السعودية وإعادة الإضاءة على ملف القاعدة في اغتيال الرئيس الحريري، ما يوحي بأن تقريره المقبل سيشكل بيئة مناسبة لإراحة الوضع السوري، وبالتالي تسهيل مرور ما يمكن تمريره في القمة العربية بما يختص بالصراع العربي ــ الإسرائيلي.
ــ في الملف النووي الإيراني ثمة اتجاه أخذ مساره مجدداً تمثّل في إعادته مؤقتاً إلى نطاق الوكالة الدولية للطاقة الذرية على قاعدة ما بناه القرار 1737 من عقوبات في النطاق التكنولوجي، وبالتالي تجميد البحث العالي السقف إلى شهرين إضافيين ليبنى على الشيء مقتضاه.
ــ وفي الملف اللبناني ثمة إسقاطات واضحة تتجه نحو مزيد من الوقت المستقطع لحل مؤقت على قاعدة عدم اللجوء إلى التصعيد من كلا الطرفين المعارضة والموالاة بانتظار سلة الآمال الإقليمية المنتظرة.
ــ وفي حمأة تلك الاستحقاقات وتشابكها ربما سيكون الوقت عبئاً طويلاً على ملف العراق الدامي، فلو اتفقت جميع الأطراف التي شاركت في أعمال المؤتمر على ما ينهي لعبة الموت في العراق، فثمة أطراف من الصعب السيطرة عليها، وبالتالي ستظل تجد المنفذ الملائم لإظهار عدم موافقتها واعتراضها على ما اتفق عليه في المؤتمر أو ما يمكن الاتفاق عليه لاحقاً، وتالياً سيظل العراقيون وقوداً لحسابات من السهل معرفة بداياتها لكن من المستحيل معرفة نهاياتها.
ثمة شكوك كثيرة تحيط بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وهو ما شكَّل التحدي الكبير أمام مؤتمر العراق الدولي الذي كان بمثابة الامتحان الخطي لمجمل التفاهمات المرغوبة من جميع الأطراف أولاً، وسيكون الأمر أيضاً مرهوناً بما يمكن التوصّل إليه في مؤتمر القمة العربية في الرياض أواخر الشهر الحالي. وإذا كان الحضور الإيراني والسوري لافتاً في المؤتمر الأول لكونه جمعهما مع الأميركيين للمرة الأولى منذ فترة ليست بقصيرة، فإن طيف إيران سيكون حاضراً بشدة في المؤتمر الثاني. وحتى ينعقد مؤتمرا الرياض وإسطنبول ثمة وقت سيكون طويلاً في حسابات الزمن السياسي العربي الدائم الاتكال على المواعيد والاستحقاقات التي غالباً ما لا يكون له اليد الطولى في صناعة وقائعها وأحداثها وبالتأكيد نتائجها.
لقد أدى الإسرائيليون قسطهم للعلا في عدوانهم على لبنان في تموز الماضي، وتركوا لحلفائهم الأميركيين وغيرهم كيفية ترتيب الاستثمار السياسي للعدوان على رغم اعترافهم بالهزيمة، فهل ستتمكن واشنطن مجدداً من جرِّ العرب إلى مفاوضات جديدة على قاعدة الاستثمار السياسي نفسها لهزيمة النظام العراقي عام 1990 وتصويرها هزيمة لكل العرب بمواجهة إسرائيل؟ صحيح أن المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين، إلا أن السؤال يُطرح هل ثمة مؤمنون ما زالوا حريصين على تبيان عدالة قضيتهم؟ الجواب مرهون بالمقبل من الأيام.
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية