غسان سعود *
لم يتعدَّ الاهتمام الإعلامي العربي بالتحول الكبير في خطاب المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما نشر بضع مقالات مترجمة عن الصحف الأجنبية. وفي المقابل، لا تكاد تخلو صحف الغرب ونشرات أخباره من زاوية تخص فوكوياما، تأييداً له أو انتقاداً. وعلى رغم التحول، ما زال الفيلسوف ــ النجم، بحسب الاستطلاعات الأميركية، الأكثر تأثيراً في المشهد الثقافي الأميركي. وعلى رغم قلة الاهتمام العربي بمعرفة فوكوياما، والتلعثم بلفظ اسمه، والانشغال بتحديد هوية جذوره صينية كانت أو أميركية، يحافظ هذا الرجل، بحسب الاستطلاعات على الموقع الأول بين الكتّاب الأميركيين منذ عام 1992.
ولد فوكوياما عام 1952 في الولايات المتحدة التي هاجر إليها جداه لأبيه من اليابان عام 1905 تجنباً للتجنيد في الحرب الروسية ــ اليابانية. والده من مواليد لوس أنجلوس، وهو «علماني حتى النخاع». تأثر، بحسب المراجع الأميركية، بأفكار الفيلسوف الألماني الأصل ليو شتراوس (المُتهم بالفاشيّة). ويعتبر شتراوس واضع الأسس الفكرية لحركة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.
ودخل فوكوياما عالم الشهرة، عام 1992، حين أعلن أن انهيار الشيوعية السوفييتية يشكل نهاية التاريخ. وقدّم كتابه ــ النظرية الذي حمل عنوان «نهاية التاريخ». ويقول فيه إن «الديموقراطية الليبرالية المنتصرة» تمثل الذروة في عملية التطور السياسي الإنساني. وبعد ثلاث سنوات، قدّم كتاباً آخر بعنوان «الثقة»، عرض فيه القوة الاجتماعية التي تجعل المجتمعات مستمرة في وقت يندب فيه الناس فقدان جوهرهم الديني والأخلاقي. وعام 1999، بيّن في كتابه «الانفصام العظيم» السبب الذي أدى إلى فشل الحركات الاجتماعية الراديكالية في الستينيات. وعام 2002 طالب في كتابه «مستقبلنا ما بعد البشري»، بفرض قيود قانونية على البحوث الوراثية، ليلجأ أخيراً في كتابه «بناء الدولة.. الحكم والنظام العالمي في القرن الواحد والعشرين» الصادر عام 2005 إلى تعداد الطرق التي يمكن بها بناء الدول المنهارة والعاجزة، قبل أن يفصّل في كتابه الأخير «منشأ المحافظين الجدد في أميركا ومصيرهم المحتمل». في السياسة المباشرة، كان فوكوياما أبرز المنظّرين لإحداث تغيير في المشهد العراقي، كتب عشرات المقالات عن «الخطر الصدّامي»، ووصّف تفاصيل «الإرهاب الديكتاتوري العربي المتمثل في نظام الديكتاتور صدام حسين». لكن ومع بدء الاجتياح الأميركي للعراق بدأ المفكر الشاب بالتذمر من الأداء الغربي، وجاء في أول تعليقاته الحادة، المنتقضة للحرب على العراق: «طوال 25 سنة، كانت المجلة التي ينشرها المحافظون الجدد تتحدث عن عبث الهندسة الاجتماعية الطموحة. إن من المدهش حقاً أن ترى هؤلاء الناس يدورون حول أنفسهم ليقولوا إننا نستطيع دمقرطة العراق: هذا هراء».
واعتبر، بحسب أحد الخبراء العرب بالشؤون الأميركية، أن هناك سببين رئيسيين وراء قرار بوش غزو العراق. الأول هو الطريقة التي انتهت بها الحرب الباردة، ومقارنة الشخصيات المحورية في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش مثل كوندوليزا رايس وولفويتز بين نجاح سياسة ريغان المتشددة تجاه الاتحاد السوفييتي وفشل الأوروبيين في حسم مسألة البلقان، الأمر الذي أقنعهم بممارسة أميركا لقوتها بشكل «أخلاقي» وانفرادي من دون الثقة بأوروبا.والسبب الثاني، إعجاب المحافظين الجدد بمبدأ التشدد الاستراتيجي الإسرائيلي، الذي يقوم على الضرب الاستباقي بدلاً من انتظار الهجوم. وبعد 11 أيلول أصبح هذا أكثر غواية لهم، علماً بأن فوكاياما يصف اسرائيل دوماً بالدولة المعادية لأوروبا ولأي منظمة دولية مثل الأمم المتحدة، والمعتادة للعمل الانفرادي.
وهكذا، تحول فوكوياما من أول مطالبي الرئيس بيل كلنتون بقلب نظام صدام حسين إلى أول المطالبين باستقالة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. وبعد الانتخابات الأميركية الأخيرة، وبروز فوكوياما بصفة المنتصر على زملائه السابقين في إدارة بوش وبين صقور المحافظين، اعتبر فوكوياما أن ثمة عجزاً رئاسياً عن الاعتراف بالحقيقة العراقية كما هي. واللحظة الأكثر تعبيراً عن هذا كانت خلال حفل الاستقبال الذي نظمه دونالد رامسفيلد عندما غادر وزارة الدفاع وإعلان بوش أن اجتياح العراق كان «مداً للحرية الإنسانية عبر التاريخ»
مولّداً الانطباع بأنهم يعيشون في عالم آخر. والعراق، بحسب هذا الكاتب، هو من دون شك الكارثة الأكبر في السياسة الخارجية الأميركية بعد حرب فيتنام. و«الخطأ الأكبر الذي اقترفته الولايات المتحدة الأميركية بعد 11 أيلول كانت في تضخيم الخطر الذي ينطوي عليه الحدث. فحينذاك لم يكن يوجد في العالم أكثر من 36 شخصاً قادرين على القيام بعمل من هذا النوع ضد الولايات المتحدة الأميركية. لكن نتيجة «إدارتنا السيئة» بدأ التنبؤ بالخطر يحقق نفسه بنفسه. أما مقارنة «الخطر الإسلامي» مع الحرب الباردة فمشكوك فيها، ذلك أن الإسلام لا يقارن بالشيوعية. والراديكالية الإسلامية نفسها شديدة التعقيد. إنها مشكلة ثقافية أكثر تعقيداً واستعصاءً على الاحتواء بالقياس إلى الأيديولوجية الشيوعية. إن هذا النوع من الخطابة (الحديث عن الخطر الإسلامي) هو وسيلة لتعبئة الرأي العام حول الرئيس ولكنها أيضاً طريقة لعدم تفهم المشكلة».
ويمكن الاستدلال على الكثير من قول فوكوياما إن المشكلة في العراق كانت في الحرب نفسها، وإعلانه أن أكثر ما يثير غضبه هو «أن التفكير نفسه يسري الآن حول إيران ولبنان، في غياب أي تفكير بالدروس التي يتوجب استخلاصها من حرب العراق، واستمرار دعوة المحافظين الجدد إلى قصف المراكز النووية الإيرانية. وهذا ببساطة الجنون بعينه». وعن احتمال أخذ الرئيس بوش قراراً بقصف إيران، يؤكد فوكوياما سماعه من عدد من الأشخاص المفترض أن يكونوا على اطلاع أن بوش يعتقد بأن عليه أن يظهر المزيد من الحزم على الرغم من اعتراض الرأي العام. وأعرب عن اعتقاده بأن «الواقعيين» عادوا بقوة إلى الكونغرس الأميركي، و«عندما يخرج هذا الرئيس من الحكم ستكون كلمتهم مسموعة في الحزبين الجمهوري والديموقراطي».
وعن ايران، يقول فوكوياما «إن الإيرانيين يريدون الحصول على السلاح النووي، ومهما قدّم لهم لن يحيدوا عن هدفهم. كانت هناك فرصة حتى مجيء أحمدي نجاد إلى السلطة للقيام بمساومة كبيرة مع إيران، ولكن لم يكن في وسع الأوروبيين وحدهم القيام بها. لو أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لإقامة علاقات ديبلوماسية مع طهران والاعتراف بدور إيران كقوة إقليمية لكان الحل الشامل ممكناً. أما الآن فهو أقل إمكانية. أعتقد أن إيران ستحصل على السلاح النووي في نهاية المطاف».
المشكلة الرئيسية أن المحافظين الجدد ولدوا، نضجوا، وحكموا قبل أن يطلع على مبادئهم الفكرية مثقفو العرب وحكامهم. وها هم ينقسمون على أنفسهم، يتجادلون، يتبادلون الاتهامات، ينهارون، من دون أي اهتمام من مثقفي العرب وحكامهم.
إنها نهاية تاريخ المحافظين الجدد بحسب ما يوحي فوكوياما، فهل سيحضّر العرب أنفسهم للمرحلة المقبلة؟
* كاتب لبناني