عبد الإله بلقزيز *
قد يكون من تحصيل الحاصل في مفردات الفكر السياسي الحديث، وفي منظومة العلاقات السياسية الحاكمة للديموقراطيات المعاصرة، أن جدلية «سلطة ــ معارضة» هي الجدلية السياسية الأكثر تعييناً للنظام الديموقراطي والأكثف دلالة عليه. فهي التمثيل المباشر لعملية تسييل السياسة في شرايين المجتمع والدولة تسييلاً طبيعياً ودورياً، وهي التكثيف الأشد لانتظام أمر اشتغال منظومة الحريات والحقوق السياسية العامة، ثم إنها الجدلية التي تطلق ديناميات التطور في النظام الديموقراطي وتعيد إنتاجه كنظام. وهي لا تكون بهذه المعاني إلا متى كانت جدلية بالمعنى الدقيق للمفهوم، أي منطوية على قاعدة الانتقال لكل من طرفيها الى موقع الطرف الأول، أي في صورة ما يعرف باسم التداول السياسي على السلطة. أما إذا استقرت على حال ستاتيكية، فلا تكون جدلية وإنما خدعة سياسية توحي بوجود نظام سياسي حديث، لا أقل من ذلك ولا أكثر. سيكون ضرباً من ضروب الخطأ أو الخفة وسوء التقدير في السياسة أن نقيس منسوب النمو الديموقراطي في مجتمعاتنا السياسية العربية بمدى استواء الحياة السياسية وانتظامها بمقتضى جدلية «سلطة ــ معارضة». سيكون سهلاً ــ من دون شك ــ أن نميّز في مجتمعاتنا تلك بين ثلاثة أنماط من تمظهر علاقة «سلطة ــ معارضة» في «المجال السياسي» العربي، بين نمط سائد لا تبدو فيه العلاقة أصلاً، أي لا توجد فيه إلا السلطة وحدها لا شريك لها، وبين نمط ثان تقوم فيه العلاقة بين سلطة مستبدة، تسلّطية، كلّانية (توتاليتارية)، وبين معارضة تتوسّل بالعنف الأعشى إما لأنها لا تؤمن بالوسائل الديموقراطية (تُكفِّر الديموقراطية مثلاً على طريقة تنظيمات السلفية «الجهادية»)، وإما لأنها محرومة من الحق في العمل السياسي قانوناً، وإما لأن راديكاليتها السياسية لا تتحمل «انزلاقها» الى عمل سياسي إصلاحي غير ثوري (النضال الديموقراطي)، ثم بين نمط ثالث توجد فيه العلاقة بين القطبين ولكن على نحو غير متكافئ ولا يترجم توازن القوى الداخلي، وفيه تقول المعارضة ما تشاء ــ وأحياناً من دون قيود ــ وتفعل فيه السلطة ما تشاء: ودائماً من دون قيود!
نعود من هذه الاستطرادة الى سياقة الحديث فنقول: نعم، سيكون في مُكْننا أن نقيم مثل هذا التمييز (بين أنماط العلاقة تلك في المجال السياسي العربي)، وأن نسلِّم ــ تبعاً لذلك ــ بأن مجتمعاتنا السياسية تعرف شكلاً ما من أشكال هذه العلاقة (أو هذه الثنائية)، لكنّا ما زلنا بعيدين جداً عن صيرورتها جدلية سياسية حاكمة للدولة والحياة السياسية. إنها ليست معطى معاصراً كما قد يُظن، بل هدف مأمول وقد يكون بعيد المدى. لا نقول إن ثنائية «سلطة ــ معارضة» (التي عليها يقوم النظام الديموقراطي) لا تلائم مجتمعاتنا، لكني أقول إن مجتمعاتنا وحركة التراكم السياسي فيها لم تبلغ بعد الدرجة التي تتحول فيها تلك الثنائية الى علاقة سياسية حاكمة والى دينامية طبيعية من ديناميات المجال السياسي، لا الى ثنائية شكلية لا وظيفة لها سوى تأثيث مشهد السلطة للإيحاء بديموقراطية المجال السياسي. وثمة ــ على الأقل ــ ظواهر وحقائق ثلاث تحمل على الاعتقاد بأن الثنائية هذه ليست سليمة في مجتمعاتنا، وبأن هذه الأخيرة ما زالت بعيدة، في التكوين والتطور، عن معاينة جدلية «سلطة ــ معارضة» بمعناها العصري الديموقراطي.
أولها مدة التمثيل السياسي في الأعم الأغلب من المجتمعات العربية، وهو (سوء) ناجم من طبيعة الاجتماع الأهلي وهيمنة العلاقات العصبوية فيه كما من تركيب السياسة والعمل السياسي والتمثيل على تلك العلاقات. ما زالت القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب وسواها من العصبيات التقليدية، وحتى إشعار آخر، هي الأطر الأهلية الناظمة لعلاقات التمثيل السياسي، وما زالت الصراعات والانقسامات السياسية عمودية تحدث وتستعر على حدود العصبيات، ولم تنجح الرسملة والتحديث الاجتماعي والحداثة الثقافية بعد في تبديل نواميس الاجتماع الأهلي (العصبوي) التقليدي أو في تسييل دماء التغيير في شرايينه المفوّقة فواقاً تاريخياً. ومع أن في مجتمعاتنا ما في سائر مجتمعات الأرض من فئات وطبقات اجتماعية متحددة بمواقعها في عملية الإنتاج وبعلاقات الإنتاج السائدة (وهي علاقات رأسمالية... تبعية)، إلا أن العلاقات الحاكمة للمجال السياسي فيها لا تطابق العلاقات الحاكمة للبنى الاقتصادية ــ الإنتاجية، ولا تقود الى اصطفافات طبقية في حقل الصراعات السياسية، بل يظل لتكوينها التقليدي قبل ــ الرأسمالي وقبل ــ الحداثي الأثر الحاسم في تشكيل مشهد السياسة والصراع الاجتماعي وصوغ علاقاته. وثانيها أنه لا وجود في بلادنا العربية لمشروع مجتمعي واحد يقع عليه التوافق والإجماع بين القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة على اختلافٍ بينها في المنابت والمشارب والأفكار والمصالح والبرامج، ويكون الاختلاف بينها حينه وازعاً للمنافسة المدنية الحضارية لتحقيق ذلك المشروع أو لصناعة صيغ منه وصور أفضل، ويكون التنافس على السلطة حالئِذٍ تنافساً مشروعاً وبعيداً تماماً عن منطق الإقصاء والإلغاء بعده عن منطقة الهواجس والمخاوف في النفس. والمعلوم أنه حين يغيب هذا المشروع المجتمعي الواحد في مجتمع ما، كالمجتمع العربي، ينقلب معنى السلطة والمعارضة رأساً على عقب: لا تعود السلطة حينها نصاباً سياسياً مفتوحاً أمام الجميع وأمام المنافسة المحكومة بالقواعد الديموقراطية، بل تصبح غنيمة حرب لا تسلب من صاحبها إلا بحرب أخرى تكون فيها أسلاب أخرى قد سقطت في قبضة المنتصر. أما المعارضة فتتوقف عن أن تكون دينامية ضرورية من ديناميات التوازن السياسي وموقع تمرين ذاتي على بناء الثقة الشعبية وحيازة الصدقية تمهيداً لجولة منافسة أخرى، بل تتحول الى إحدى حالين: موقع هامشي مهجور ومقموع في «الحياة السياسية، أو خندق قتالي في مواجهة خندق السلطة يتحيّن فرصة الانقضاض والاقتصاص...! أي معنى ــ إذاً ــ لثنائية السلطة والمعارضة في مثل هذه الحال؟!
وثالثها ما تعانيه مجتمعاتنا العربية من نقص حاد في القيم الديموقراطية الكبرى المؤسسة للنظام السياسي والاجتماعي الحديث: قيم الحوار، والتسامح، والاختلاف، والاعتراف المتبادل، والمصلحة المشتركة، والانفتاح، والتنافس الشريف، وإيثار الواجب العمومي....، وهذه جميعها ما يحمي لعبة الديموقراطية وانقسام الحقل السياسي الى سلطة ومعارضة من المغامرات المحتملة من أي جانب. إن أي فريق سياسي في بلادنا العربية ــ حاكماً كان أو محكوماً ــ لا ينظر الى خصمه شريكاً في الحياة السياسية بل مُشركاً في حقه هو في السياسة والسلطة. ولذلك يزدهر في الخطاب السياسي الحزبي العربي نظام كامل من المفردات القدحية لا نجد له مضارعاً في الخطاب الحزبي الغربي مثل: العمالة والخيانة وما في معناهما. كيف تكون جدلية السلطة والمعارضة ــ والحالة هذه ــ جدلية سياسية طبيعية؟!
لا مناص إذاً من إعادة استيحاء ثنائية «سلطة ــ معارضة» على نحو نسبي وتاريخي، والتوقف عن حسبانها العلامة الوحيدة على الحياة السياسية الديموقراطية، أي لا بد من إعادة التفكير فيها في سياق عربي تشوبه أوضاع وملابسات لا تقبل تنزيل موضوعة «سلطة ــ معارضة» عليه وكأنه حقل جاهز لاستقبالها كما تستقبلها مجتمعات أخرى أتت الموضوعة تلك ثمرة طبيعية لتطورها السياسي.
* كاتب عربي