ورد كاسوحة *
بعد مرور سنتين على قيام «انتفاضة» 14 آذار وانقضاء مفاعيلها يجدر بنا كمراقبين، سواء عن بعد أو عن كثب أن نشرع في عملية إعادة تقويم شاملة وجذرية لهذه الظاهرة غير المسبوقة في تاريخ الصراع السياسي في الشرق الأوسط، وفي المنطقة العربية عموماً.
وهي غير مسبوقة لأنها أرّخت بحسب ما نظّر له مريدوها وملهموها الفكريون داخل لبنان وخارجه لبداية حقبة الشعوب والتيارات الرافضة لتغول السلطات والأنظمة العربية، وصيرورتها ماكينة أمنية عمياء، مختصة حصراً في قمع شعوبها ووأد طموحاتها الشرعية في الديموقراطية والحرية والعدالة.
يمكننا أن نضيف إلى لائحة تطلبات هذه الشعوب: السيادة والاستقلال والقرار الحر، وهذه للعلم فقط مطالب تخص اللبنانيين دون غيرهم من الشعوب العربية، وذلك بحكم «تفرّدهم» في الوقوع طوال عقود ثلاثة تحت نير وصاية شقيقة، مارست في حقهم أشكالاً وأصنافاً مختلفة من القمع والإقصاء وانتهاك السيادة الوطنية.
إذا كان هذا التوصيف للحال اللبنانية الخاصة صحيحاً، فمن الصحيح أيضاً القول بأن الحركة الجماهيرية التي انطلقت في 14 آذار وصنعت إنجاز «الاستقلال الثاني» قد انتهت إلى مآل، أقل ما يقال فيه أنه بائس بامتياز، فضلاً عن كونه مآلاً أودى بكثير من مزاعم الآذاريين وادعاءاتهم الخلّبية بإحراج الوصاية ثم إخراجها، ناهيك عن تحقيق السيادة الكاملة والاستقلال الناجز!!!
فخريطة الانقسامات والتحالفات الطائفية والحزبية التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية في صيف 2005 لم تترك مجالاً للشك في ماهية التحالف الذي قامت عليه 14 آذار، أي تحالف براغماتي ذرائعي، ينسب إلى نفسه مزاعم استقلالية نقيضة لمشاريع الوصاية والهيمنة في المنطقة، فيما تشير سياسات أقطابه الأساسيين إلى عكس هذه المزاعم والادعاءات، وهو الأمر الذي أثبتته الحقائق والوقائع اللاحقة، بدايةً بنتائج الانتخابات النيابية، ومروراً بوقائع الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، ووصولاً إلى أحداث 23 و25 كانون الثاني الماضي، وهي الأحداث التي أوضحت حقيقة بدأت تأخذ طريقها إلى التبلور شيئاً فشيئاً، ومفادها أن الانقلاب الجذري الذي خطّط له في 14 آذار ثم في حرب تموز لم يؤت ثماره، فكان لا بد من وسيلة جديدة تكون أكثر نجاعة وفاعلية.
هكذا استُحضر «المثال» العراقي، وعُمل على لبننته قدر الإمكان، وهو الأمر الذي بات متعذراً معه زعم أي من الفريقين بإمكانية الحل السياسي، ما دام الصراع قد اتخذ من الطائفية والمذهبية وجهتين خالصتين ونهائيتين له.
يستوي في المسؤولية عن ذلك طرفا الصراع والانقسام الحاليان أي 14 و8 آذار، لكن حصة الأسد في هذا هي ولا شك من نصيب أدعياء «الاستقلال الثاني»، فهم الأكثرية وهم الحاكمون، ويعود لهم الفضل الأساسي في الانتقال بلبنان واللبنانيين من أحضان الوصاية الإقليمية السورية إلى أحضان الانتداب الدولي الأميركي، أي جعل لبنان مشروعاً دائماً لوصايات متنقلة، وهذا على كل حال دأب اللبنانيين على ما يبدو وقدرهم الشقي، منذ الاستقلال الأول عام 1943، مروراً بالمرحلة الأميركية ثم المصرية، ثم الفلسطينية، ثم السورية، ثم الإيرانية، ثم الأميركية مجدداً وأخيراً، لذلك لن نبالغ في تحميل فريق 14 آذار وزر نهج سياسي سائد، منذ التأسيس الأول لدولة لبنان الكبير وحتى الآن، وسنكتفي في هذا المجال بعرض مجمل ومكثّف جداً لدورهم الرئيسي في إحلال الوصاية الأميركية المتجددة مكان تلك البائدة، وأعني بها السورية الأميركية المشتركة.
حين «انتفض» اللبنانيون ونزلوا إلى الشوارع في 14 آذار 2005، مطالبين برحيل الجيش السوري وإنهاء عهد الوصاية المشتركة على لبنان لم يدر في خلدهم حينها أنهم بهذا الفعل «اليوتوبي» الذي أُوهموا بابتداعه وإنجازه إنما ينفذون أجندة دولية، أُعدت مسبقاً بدهاء سياسي وخبث أخلاقي، لا يمكن فهمهما عقلانياً وتحليلهما تحليلاً بارداً إلا في ردّهما إلى أصل وجذر واحد: لعبة الأمم ومكر السياسة الدولية، أياً كانت الأثمان، ومهما كان حجم «التضحيات» أو الأضحيات. لذلك كان لا يمكن انقلاباً هائلاً وانعطافةً جذريةً في السياسة الدولية تجاه منطقة الشرق الأوسط أن يتما من دون تدفيع هذه المنطقة ثمناً كبيراً، يترتب عليه اصطفاف جديد للقوى المحلية والإقليمية حسب خريطة المصالح الدولية الجديدة، وهو ما سمي وقتها بمشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد لاحقاً.
وقد كان الثمن الذي دفعته المنطقة، وخصوصاً لبنان، كبيراً بالفعل، حيث إن تنفيذ مشروع إقليمي ودولي بهذا الحجم لم يكن ليمر من دون العودة إلى مسلك سابق كانت تُعقد فيه الصفقات الإقليمية الكبرى على حساب دماء بعض السياسيين المحليين، وهؤلاء فئتان: إما ممانعون لهذه المشاريع وبالتالي حجر عثرة في طريق تحقيقها، وإما موالون وحلفاء استُغلّوا حتى النهاية، وبالتالي استُنفدت طاقتهم على تمرير الصفقات وعقد التسويات، بمعنى آخر تحولوا إلى ما يشبه الورقة المحروقة.
في هذا السياق أتت عملية اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، كخطوة ثانية في مشروع تكريس الهيمنة الأميركية المباشرة على لبنان، بعد استنفاد ورقة الوصاية السورية وانقضاء مفاعيلها، فالأميركيون لم يعودوا بحاجة إلى قوة إقليمية تكون بمثابة ضمانة لاستقرار المنطقة وعدم وقوعها في دوامة النفوذ الأصولي المستشري منذ 11 أيلول 2001، وخصوصاً مع عودتهم الى سياسة النفوذ المباشر والتدخل العسكري الفظ، منذ احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين في نيسان 2003.
بعد إنجاز المرحلتين الأولى والثانية، المتمثلتين في القرار الدولي 1559 واغتيال رفيق الحريري، كان لا بد من المضي قدماً في الشق المتعلق بالداخل اللبناني، فكانت محطة 14 آذار أساسية على هذا الصعيد، لإضفاء شيء من الأسطرة على الحدث نفسه، ولحصر شبهة الاغتيال في جهة واحدة دون غيرها، صُوِّرت يومها على أنها المستفيد الحقيقي والوحيد مما جرى صبيحة 14 شباط، بحيث باتت أي محاولة لمعاندة هذه الوجهة وإظهار مدى خطلها وبعدها عن الحقيقة والموضوعية في آن موسومة سلفاً ــ أي المحاولة ــ بالمحاباة والعمالة لنظام الوصاية، حتى لو أتت من جهات وشخصيات مشهود لها بالاستقلالية والحياد والنزاهة، ناهيك عن القراءة الحاذقة والموضوعية للمستجدات في المنطقة.
فالقراءة الموضوعية والمنطقية لما جرى تقول بأن النظام السوري لم يستفد في شيء من كل عمليات الاغتيال والتفجير والقتل «العشوائي» التي حدثت في لبنان، وخصوصاً أن معظم الشخصيات التي استُهدفت بالاغتيال معروفة بمعارضتها الشرسة والعلنية للنظام في سوريا، فهل يُعقل أن يقدم نظام موسوم وموصوف علناً بالعداء للنزوع الاستقلالي في لبنان بتثبيت التهمة المنسوبة إليه من جانب كثيرين داخل لبنان وخارجه، وذلك عبر ارتكاب سلسلة من الجرائم أقل ما يقال فيها إذا صح نسبها إليه، أنها تشكل ذروة غير مسبوقة في الحمق السياسي والغباء الأمني من طرف نظام مستهدف ومعزول ومحاصر دولياً وإقليمياً!!!
وجرياً على هذا المنوال بُني المعمار السياسي لحركة 14 آذار، وهي حركة قامت في مجملها على مجموعة من «الأساطير» الوضعية من قبيل: النظام الأمني اللبناني السوري بطبعته «اللحودية» حصراً، حكم الجنرالات الخمسة، إعادة الاعتبار لمشروع رفيق الحريري الاقتصادي والإعماري، تبييض صفحة الفريق الأمني السوري الذي حكم لبنان منذ اتفاق الطائف... إلخ. يمكننا الرد باختصار وتكثيف شديدين على تهافت المزاعم السابقة بالقول إن الوصاية على لبنان بشقها الأمني والسياسي قد بدأت فعلياً مع الترجمة السورية لاتفاق الطائف، التي قام بموجبها السوريون بتقسيم العمل في لبنان على النحو التالي:
الاقتصاد وإعادة الإعمار من اختصاص رفيق الحريري وفريقه، المقاومة ومواجهة إسرائيل من اختصاص حزب الله والمقاومة الإسلامية، وهي الثنائية المشهورة التي عرفت في التسعينيات باسم اقتصاد المقاومة.
من نافل القول بعد هذا العرض والتحليل لمسيرة 14 آذار أنها إذا لم تكن قد انقضت بالكامل فإنها باتت على أقل تقدير محط مراجعة جذرية، مراجعة لمبادئها ولشعاراتها، ولفكرة قيامها أساساً، بعدما اتضح أنها مجرد توطئة لمشروع كولونيالي جديد، لا تعدو كونها خطوة أولى فيه، ولبنة من لبناته التي لا تحصى.
يبقى أن مشروع الانقلاب على الثوابت الأساسية في هذا المشرق العربي جارٍ على قدم وساق، ولن تعوقه على ما يبدو ممانعة من هنا ومناهضة من هناك، ما لم يدرك أهل هذا الشرق أنهم مستهدفون في عروبتهم النهضوية، في عدائهم لإسرائيل، في تطلّعهم إلى حرية لا تأتيهم على متن الدبابات الأميركية، وفي انتظارهم الطويل لديموقراطية لا تصنعها «ثورات» ملونة ومفبركة على قياس المصالح الغربية، على الرغم من كون بعضها «ثورات» تستبطن نيات محقة ومشروعة، لكننا نعلم أيضاً أن الطريق إلى الجحيم معبّدة بالنيات الطيبة.
* كاتب سوري