أمين محمد حطيط *
في قراءة أولية لمؤتمر «الأمن» في بغداد، يستطيع الباحث ان يستخلص نتائج أساسية يمكن إسنادها وربطها بما آل إليه المشهد الأميركي إثر احتلال العراق. إذ بعد الإخفاق في «تحقيق المهمة» على حد قول بوش كانت استراتيجية الإنقاذ التي أطلقت في الشهر الماضي لتكون المحاولة العسكرية الأخيرة لإنقاذ الهيبة الأميركية في العراق.
ولكن هذه الخطة انتهت الى حال من الفشل أكثر مما كان متوقعاً حيث يسجل من آثارها ما يلي:
ــ تصاعد العنف والهجمات بشكل عام وتعاظم القتل في وجهين: الإرهاب الفظيع والمقاومة الناجحة، وفي هذه المسألة بالذات كان التطور الأخطر في المضمون والمدلول، إذ انبرى فريق أساسي من المقاومة العراقية الى الإفصاح عن نفسه وإظهار قدراته وعرضها عبر شاشات التلفزة مع ما في ذلك من دلالات خطرة يفهمها العسكريون بدقة، إذ إن المقاتل الواثق من نفسه وقدراته هو الذي يصطحب الى الميدان كاميرا التصوير وهو الذي يوزع أفلاماً تظهر إنجازاته..
ــ ظهور المقاومة المتطورة وإفصاحها عن انتمائها الديني العقائدي وهذا هو الأخطر في الأمر إذ ان المقاومة هذه هي إسلامية شيعية التركيب والنهج، وفي ذلك توجيه لرسالة عميقة المضمون للأميركيين يفهمها الاستراتيجيون منهم، وكذلك القادة الميدانيون لا يمكنهم تجاوزها.. ولم يعد ممكناً القول ان المقاومة هي سنية وإن الشيعة هم فريق دعم الاحتلال كما دأبوا على وصفهم، أو إن الشيعة يستعينون بالأجنبي ليحكموا البلاد . كل ذلك سقط.. والشيعة كانوا يقاومون ولا يصرّحون، واليوم يقاومون ويتحدون...
ــ ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف العسكريين الى ان زاد معدل الخسارة البشرية اليومية في الصفوف الأميركية بنسبة 30% عما كان عليه الوضع قبل البدء بالتنفيذ، الأمر الذي فاقم الشعور بالإحباط أميركياً وزاد الاتجاه الى التسليم بالصعوبة البالغة لتحقيق أي إنجاز عسكري أساسي في المهمة. وهو ما حمل القائد الجديد للقوات الأميركية في العراق الى طلب المزيد من القوات ولم يُستجب له إلا في سقف محدود هو 2200 عنصر من الشرطة العسكرية.. وفي اختيار القوى المضافة تلك ومن هذه الطبيعة العسكرية دلالات يفهمها العسكريون، إذ ان الشرطة العسكرية ليست للقتال الميداني أو للعمليات الحربية بل وظيفتها الأساس الضبط المسلكي والحراسات الثابتة وملاحقة العسكريين المتمردين على قادتهم والمخالفين للأوامر، وإن لزيادة عديد الشرطة العسكرية بهذا الحجم دلالة مهمة على اتجاه الوضع المعنوي للقوات الأميركية هناك....
ــ عجز في الأداء الرسمي للحكومة العراقية ما يقطع الطريق على أي تفكير أميركي في تحميلها المسؤولية مستقبلاً لأن من يكل أمراً الى عاجز يكن هو المسؤول عن نتائج العمل ويبقى الموكل هو الذي يتحمل مسؤولية أعمال الوكيل، وما دام القرار الأمني والسلطة الفعلية في العراق في يد الأميركي، ولم تثبت الحكومة قدرة على الاضطلاع بالأمر لأن أميركا أصلاً لم تسمح حتى الآن بتشكل ظروف القوة للحكومة... لذلك أميركا تبقى هي المسؤولة.
ــ ثبات دول الجوار على مواقفها وعدم خضوعها للابتزاز الأميركي أو التهويل بملف نووي هنا أو بمحكمة دولية هناك، ولم تنفع الأساطيل المحتشدة في البحار أو شبكات الصواريخ التي يهوّل بنشرها في البر، كل ذلك لم يفلح في تغيير المواقف. هذه الوقائع تؤدي الى قول مؤكد: إن خطة بوش الجديدة انتهت في العراق الى ما انتهت إليه حرب تموز الأميركية الاسرائيلية في لبنان من نتائج معاكسة للأهداف، طبعاً مع الفارق في الطبيعة والأهمية الاستراتيجية لكل من الخطتين.. ونقول إنها خطة فاشلة كما كان التوقع، لكنها فاقته بدرجة الفشل الذي وقعت فيه... فشل أدى الى ردود فعل نسجّل منها أهمها:
ــ ردة الفعل الأميركي الداخلي: إن ما يسجل هنا انطلاق الديموقراطيين في الكونغرس الأميركي لإقرار مشروع قانون يجدول الانسحاب الأميركي في العراق بحيث ينهيه في نهاية عام 2008، أي بعد 20 شهراً من الآن وهي المهلة الأقصر لجيش بحجم القوى المنتشرة في العراق التي تتولى مهمات عسكرية دقيقة في ميدان مشتعل.. إن في هذا الأمر تصعيداً للموقف الداخلي ضد بوش، فقبل الخطة كان رفض لتعزيز القوى، أما بعدها فانقلب الأمر الى المطالبة بالانسحاب. إن مجرد إطلاق المشروع هذا له من الدلالات ما يكفي للقول بأن أميركا أقرت رسمياً بالهزيمة في العراق، وأنها لم تعد تبحث عن نصر تحققه أو مهمة تكملها، بل إن سعيها منصب على تلمّس طريق للنجاة من الأتون العراقي الذي بات المكوث فيه عملاً أخرق ليس له من النتائج إلا زيادة الخسائر. ولن أناقش في مسألة مدى نفاذ القانون إذا أُقرّ، وخاصة ان للرئيس الأميركي الحق في نقضه وعدم الانصياع له.. لكن إلى متى؟
ــ السلوك الأميركي في المنطقة: لئن فشلت أميركا فإنها تمنع نجاح أحد في المنطقة، وبدل أن تنافس الآخرين في تحقيق المنافع، بات سلوكها في طريق تحمل الأعباء والمصاعب.. وبهذا المنطق يفسر منع تنفيذ اتفاق مكة فلسطينياً، والعمل الحثيث على العودة الى الاقتتال الداخلي في فلسطين وخاصة في قطاع غزة، أما في لبنان فإن منع ظهور أي حل للأزمة فيه، ما هو إلا إكمال للتصرف الأميركي المتمثل في القول: «لن ندع أحداً يرتاح قبل ان نضمن راحتنا». ولهذا قلنا إنه لا حل في لبنان قبل ان تفرج أميركا عنه، أو قبل ان يتحرر أتباعها في لبنان من سيطرتها وقبضتها.. (وهو أمر مقطوع الآن بعدم حصوله لأن ارتهانهم ابتعد الى مدى اللاعودة).
ــ مؤتمر بغداد: وهو الأخطر في المسار حيث يعتبر مجرد انعقاده تراجعاً أميركياً كبيراً. فبعد القرار الأميركي بعزل سوريا وإيران وملاحقتهما في كل اتجاه وناحية في العالم، تأتي صورة المؤتمرين في بغداد لتقول ان أميركا تبحث عن حل لمأزقها عبر طلب مساعدة أعدائها... وبصرف النظر عن النتائج العملية الميدانية التي سيتمخّض عنها المؤتمر هذا في مرحلته التمهيدية أو النهائية فإنه وفي أول انعقاد له حقق ما يلي:
أ ــ اعتراف أميركي بالعجز عن مسك العراق بالقبضة العسكرية، وبأن الحل السياسي أمر لا مفر منه إذا كانت أميركا تريد سلامة جنودها، وهذا ما يتقاطع عنده كل تصريح أو موقف لمسؤول عسكري أو مدني أميركي.
ب ــ اعتراف أميركي بأن المنطقة ــ الشرق الأوسط ــ فيها من الدول والقوى من يقدر على رفض إملائها والتمسك بحقوقه، وتالياً عليها محاورته لأن القوة لا تخيفه ولا تثنيه عن مواقفه المشروعة. وهنا يظهر تفسير الوجود السوري والإيراني حول طاولة التفاوض والمناقشة والبحث... وإذا كان لا يستوقفنا كثيراً وجود الآخرين من غير الأميركيين على رغم عددهم الفضفاض الذي ناهز 14 دولة ومنظمة، فلأن جمعهم يُختصر بالقرار الأميركي، وما يهمنا هو الوجود الخارج عن السيطرة الأميركية، وهذا ما يجعلنا نصف المؤتمر بأنه مؤتمر ثنائي بين محورين: إقليمي يجمع سوريا وإيران، وأميركي يجمع بقية الحضور المتحلق حول الطاولة الذي ينظر الى الاميركي ليعمل بإشارته (لنتذكر مؤتمر روما حول لبنان الذي استبعدت عنه الدولتان عندما كانت سياسة العزل هي النافذة).
نقوِّم المؤتمر اليوم عبر النتائج الأولية هذه التي لن تحدّ كثيراً من عمق دلالتها محاولات استغلال مناقض، حتى لو قيل إن بوش شاءها رسالة للداخل الأميركي مفادها أنه يقوم بكل ما يمكن القيام به عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً ليحقق أهدافه...، أو أنه يريد إحراج سوريا وإيران وتحميلهما مسؤولية الفشل أو إلخ...... فمؤتمر المحورين، بعد فشل أميركا في تحقيق أهدافها عبر سلوك سياسة العزل والإلغاء أو التجاوز، لن يكون إلا حافظاً لمصالح المحورين حداً أدنى إذا نجح، ومفاقماً للخسائر الأميركية إذا فشل... وفي الحالين هي خسارة للسياسة الأميركية..
* عميد ركن متقاعد وباحث استراتيجي