بسام الهاشم *
يوم بادرت الى كتابة مقال أفنّد فيه بعض ما أعرفه من جوانب سلوك السيد كارلوس إده في مجالي التكليف الضريبي والديموقراطي، وقد تكرمت «الأخبار» الغرّاء بنشره لي في عددها الصادر بتاريخ 27 كانون الثاني 2007، تحت عنوان «تعليقاً على تصريحات كارلوس إده ضد العماد عون»، كان أملي أن يردع هذا المقال السيد إده عن المضي في تجنّيه المتمادي منذ زهاء سنتين على الرمز الوطني الكبير المتمثل في العماد عون فيما لا أحد من أهل التيار الوطني الحر يكلف نفسه الرد عليه. وكان أملي بالتالي أن يكون هذا المقال الأول والأخير الذي أكتبه من نوعه، إذ لا السجالات مع المفترين تستهويني بأية صورة من الصور ولا حتى لدي وقت أهدره في مساجلة من بقي عليه إثبات أنه حالة سياسية تُذكر.
غير أن السيد إده، بدلاً من أن يرتدع، ما لبث أن ردّ على مقالي بواسطة محاميه في كتاب نشرته «الأخبار» بتاريخ 8 شباط 2007 تحت عنوان «رد من كارلوس إده على التيار الوطني الحر»، بينما تماديه في الافتراء والتجنّي على العماد عون ماض على أشدّه، وقد كانت ذروة حلقاته الكلمة المضحكة المبكية التي ألقاها في 14 شباط، في ساحة الشهداء، لمناسبة إحياء الذكرى السنوية الثانية لاغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري.
فلأنه هكذا ما عرف أن يتوقف عند حد، أراني ــ للأسف ــ مضطراً إلى الرد على رده إيفاءاً بما كنت قد وعدت به في مقالي الأول. وفي ما يلي ما عندي لأقوله:
أولاً ــ في ردّه عليّ، نعت وكيل السيد كارلوس إده مقالي بأنه «صادر عن التيار الوطني الحر ممثلاً في رئيس لجنة التثقيف السياسي فيه» وبأنه لم يتناول شخص السيد إده المحترم فقط، بل «حزب الكتلة الوطنية» أيضاً (يراجع البند 1 من الرد). ان هذا في الحقيقة ما لا شيء في مقالي يسمح بزعمه، إذ لا أنا تكلمت فيه باسم التيار الوطني الحر ككل، بل باسمي الشخصي، وان كنت قد أردفت الى اسمي الذي ذيّلته به ــ من باب التعريف بالمتكلم ــ المسؤولية العائدة إليّ في التيار، ولا جاء في مضمونه ما يتناول من قريب أو من بعيد حزب الكتلة الوطنية الذي بقطع النظر عن عميده الحالي، لا أكنّ له كحزب إلا كل المحبة والاحترام، وهو حزب الناس الذين نشأت شخصياً وترعرعت في أحضانهم. فلأن الأمر كذلك، يكون السيد إده قد شاء من خلال زعم وكيله المزدوج هذا أن يصوّر وقوفي في وجهه كأنه يندرج في نوع من المجابهة بين حزبين، فيما الحقيقة ان المجابهة قائمة بين ما أعرفه عنه شخصياً وبينه كشخص يفتري ويتمادى في الافتراء على العماد عون فيما العماد لا يأبه له.
ثانياً ــ في مقالي عينه، ما حصرت مآخذي على السيد كارلوس إده في جوانب سلوكه الضريبي، بل تعدّيتها الى مجمل سلوكه السياسي و«الديموقراطي» سواء داخل حزبه أو خارجه. وقد سردت في هذا الباب الكثير من الحقائق التي أفضت بعشرات القياديين الكتلويين الكبار الى الاستقالة من الحزب، وقادته هو شخصياً، كما الحزب، في طريق ما جنيا منها سوى الإخفاقات المتلاحقة والهزائم (للتحقق، يراجع مقالي المعني). فعلى أي من هذه الحقائق ما علّق وكيل السيد إده بكلمة، اللهم إلا باعتباره ــ الهروبي الى الأمام ــ ان «مضمون المقالة ــ أي «مقالتي» ــ بمعظمه لا يستأهل حتى التوقف عنده» (البند 2 من الرد). فلماذا إذاً لم يعلق؟ بطبيعة الحال، لأن الحقائق التي سقتها (وهي التي لم يستأهل أيّها من جانبه «حتى التوقف عنده»!) حقائق عصيّة على النكران، إذ الشهود عليها كثر، ولأن التعمية عليها بهذا النوع من المكابرة الصلفة كانت بالتالي أقل إحراجاً له من محاولة إنكارها بوجه معنيين كثيرين كانوا ليكذّبوه لو فعل. وإني، على أي حال، أكرر تحدي السيد إده أن يجرؤ على إنكارها.
ثالثاً ــ بعدما اختار الوكيل هكذا السكوت التام عن جوانب السلوك السياسي لموكّله، ما كان منه، والحال هذه، إلا أن حصر اهتمامه في الدفاع عن سلوك الموكل في المجال الضريبي. فهل أجاب بالتالي عن جميع الأسئلة التي كنت قد وجّهتها في مقالي الى الموكل حول سلوكه هذا؟ وهل أتت من ثم الأجوبة التي قدمها حاسمة في إزالة الشبهات المحيطة بهذا السلوك؟
1 ــ في مقالي المشار إليه، في البند 1 منه، كنت قد تحدّيت السيد إده ان ينكر واقعة أنه، قبيل وفاة عمه، سعى ما في وسعه لإقناع العم ببيعه أملاكه المرشحة للانتقال إليه بيعاً صورياً وهو بعد على قيد الحياة، بدلاً من تركها تنتقل إليه كإرث موصى به بعد مماته (وذلك لا لغاية سوى التهرّب من معظم رسوم انتقال الملكية التي سيترتب عليه دفعها، عبر تحويلها بواسطة البيع الصوري من رسوم على تركة تتجاوز قيمتها 30 في المئة من القيمة المقدرة للتركة الى رسم تسجيل لعقارات مشتراة تقع قيمته في حدود 6 في المئة فقط من تلك القيمة)، ولكنه ما نجح في إقناعه. فعلى تحديَّ هذا، ما علّق الوكيل في ردّه بغير الصمت المطبق. وهذا ما، بطبيعة الحال، لا يعني سوى إقرار ضمني من صاحب العلاقة بالواقعة.
2 ــ في مقالي أيضاً، في البند 3 منه، كنت قد ساءلت السيد إده عن حقيقة ما يشاع عن أن ما دفعه للخزانة اللبنانية من رسوم انتقال للتركة الموصى بها إليه كان في نهاية المطاف، بعد مساع حثيثة قام بها، أقل بكثير مما كان ليتوجب شرعاً، إذ من أصل 17 الى 19 مليون دولار كانت لتتوجب، ما بقي عليه ان يدفع، بنتيجة مساعيه، أكثر من مليون دولار، على حد ما يشاع أيضاً. وهذا ما أتى رد وكيله عليّ بمعظمه مركّزاً على إجلائه. فما الذي قاله في هذا المعرض؟
في ما يتعلق، بداية، بقيمة رسوم انتقال التركة، يقر الوكيل بأن تحديدها بقي مدة موضع نزاع ومراجعات، كانت قد بدأت إدارية ثم انتهت أمام القضاء، بين موكله ووزارة المال. ويفيد، من جهة، أن هذه المراجعات كان حافزها اعتبار السيد إده أن ما جاءت الوزارة في الأساس تطالبه بتسديده من رسوم فاق بكثير ما كان هو يعتبره حقها، ومن جهة أخرى أن حسم النزاع تم في النهاية بحكم صادر عن القضاء أتى متجاوباً مع وجهة نظر السيد إده المطالبة بالخفض. فعلام بالتالي رست قيمة تلك الرسوم المخفوضة التي قضى بها الحكم المشار إليه؟ إن هذا ما لم يعيّنه صاحب الرد بالتحديد، وقد اكتفى بقول ان القيمة هذه «بقيت بالرغم من الخفض القضائي اللاحق بها تفوق مبلغ (مليون دولار أميركي) المذكور في المقالة (والمقصود «مقالي») بأضعاف» (الفقرة ح من البند 2). فلماذا من ثم آثر هكذا إبقاء الرقم المعني، بأضعافه المذكورة، موضع تكهّن؟ ولماذا، تالياً، لم يبادر الى نشر مستنداته الثبوتية أمام الرأي العام ليطلع عليها الجميع، بدلاً من إعلان أنها «بتصرف أي ممثل للتيار الوطني الحر يرغب في الاطلاع عليها» (الفقرة نفسها)؟
أما في ما يتعلق بالادعاء الذي عليه بنى السيد إده مطالبته وزارة المال بخفض رسوم انتقال التركة هذه، فقوامه ما أورده وكيله في الفقرة «د» من البند 2 من ردّه عليّ.
ففي هذه الفقرة، زعم صاحب الرد ان العميد ريمون إده رحمه الله، في وصيته لابن شقيقه كارلوس، منع هذا الأخير من بيع العقارات موضوع التركة «لكي يرثها ولداه من بعده وبحيث تبقى ملكيتها ضمن عائلة إميل ولودي إده»، وقد أردف ان هذا ما «جاء في نص الوصية حرفياً».
فعليه، يكون ادعاء السيد كارلوس إده، بعبارات أخرى، ان التركة الواصلة إليه من عمه لم تكن تركة عادية تنتقل إليه كملكية خالصة ذات قيمة تجارية، له ان يتصرف بها كما يشاء بلا قيود، بل كناية عن وقف ذري له حق الانتفاع به فقط، من دون حق البيع، ما دام حرّم عليه عمه بيعها «كي يرثها ولداه...». وتكون من ثم مطالبته وزارة المال بخفض الرسوم التي جاءت أساساً تطالبه بتسديدها عنها مبنية على اعتبار ان من غير العدل تحميله عنها، والحال هذه، من التكاليف الضريبية ما كان ليجوز تحميله إياه لو كان مطلقاً حقه في التصرف بها كما يشاء. ومما لا شك فيه ان السيد كارلوس كان ليكون محقاً في مطالبته هذه لو كان عمه قد منعه فعلاً من التصرف بكل العقارات التي أورثه إياها. ولكن هل هذا الادعاء ينطبق حقاً على ما أورده العميد ريمون إده في النص الحرفي لوصيته؟
من حسن حظ الحقيقة ــ التي من حق الناس معرفتها ــ ان وصية العميد ريمون إده، وهي مكتوبة بالفرنسية، سبق ان نشرت في الصفحة الأولى من جريدة «الحوار» الصادرة في باريس بتاريخ 22 تموز 2000. وقد جاء فيها حرفياً ما ترجمته:
«أوصي لابن شقيقي كارلوس بيار إده بجميع أملاكي غير المنقولة المسجلة باسمي والكائنة في عانا ــ البقاع وفي تل الأخضر، وأطلب إليه ألا يبيعها كي يرثها ابناه بدورهما. وأوصي أيضاً لابن شقيقي كارلوس بمنزلي في بيروت المسجل باسمي، موجباً عليه ألا يبيعه وفاء لذكر والدي إميل إده ووالدتي لودي».
من الواضح كل الوضوح ان العميد قسّم تركته المعنية الى جزءين هما: من جهة منزله في بيروت، ومن جهة أخرى أملاكه الواقعة في عانا ــ البقاع وفي تل الأخضر. وقد فصل، من حيث الشكل اللغوي، فصلاً تاماً ما بين هذين الجزءين، بدليل خصّه كلاً منهما بجملة مستقلة، وهو الذي كان في وسعه، لو شاء خلاف ذلك، أن يجمعهما في جملة واحدة. أما من حيث المضمون، فقد لحظ لكل منهما تدبيراً لا ينسحب على الآخر، بدليل التعبير عن كلا التدبيرين بفعل هو ليس مرادفاً للفعل الآخر، فضلاً عن ربط أحدهما بحرص هو غير الحرص الذي ربط به الآخر.
ففي ما يتعلق تحديداً بالمنزل في بيروت (المشيّد على مساحة 1500 متر مربع، والذي يقدر سعره بحوالى 6 ملايين دولار أميركي)، صحيح ان العميد، إذ أوصى به لابن شقيقه كارلوس، إنما أوجب (فعل exiger) عليه، أي فرض عليه فرضاً، «ألا يبيعه وفاء لذكر والد(ه) إميل إده ووالدتـ(ه) لودي». وهو بهذا المعنى يكون قد أقام المنزل نفسه حقاً في مقام وقف ذري. ويكون كارلوس وريثاً، في ما يتعلق بهذا المنزل، ما طالب حقاً بغير الإنصاف إذ طالب وزارة المال بخفض رسوم انتقال ملكيته إليه.
أما في ما يتعلق بأملاك العميد البقاعية في عانا وتل الأخضر (التي مساحتها ستة ملايين وثمانمئة ألف متر + ثمانمئة ألف متر = سبعة ملايين وستمئة ألف متر مربع، فيما قيمتها التجارية تقدر بما بين 45 و50 مليون دولار أميركي)، فلم يرد مطلقاً في وصية العميد، والنص واضح وضوح الشمس في عز الصيف، لا ما يربطها بهمّ الوفاء لذكر المرحومين إميل ولودي إده، ولا ما يحرّم على كارلوس الوريث التصرف بها كما يشاء، وقد كان جلّ ما وجّهه الموصي إليه حول هذه الأملاك مجرد طلب «ألا يبيعها كي يرثها ابناه بدورهما»، ومن البداهة بمكان ان الطلب لا يعني التحريم بأية صورة من الصور.
ولأن الأمر كذلك، لا ندري كيف استطاع السيد إده إقناع المحكمة الموقرة بوجهة نظره القائلة بأن كل ما أورثه إياه عمه العميد الراحل من عقارات كان وقفاً ذرياً، ومن ثم الحصول منها على ما طالب به من خفض لرسوم انتقال ملكيتها إليه(!؟).
رابعاً ــ عن مقالي نفسه، يُذكر أنني كنت أنهيته بمقطع ورد في نصه المنشور على موقع التيار الوطني الحر الإلكتروني ولم يرد في النص الذي نشرته جريدة الأخبار، وهو التالي «ان هذا ليس، يا حضرة السيد كارلوس إده، إلا بعضاً يسيراً مما نعرفه عنك على مختلف الأصعدة. فإن كان ما تقدم ذكره لا يكفيك للاقتناع بضرورة وقف التعدي على كرامة التيار الوطني الحر ممثلاً بمؤسسه وقائده التاريخي، فلا بأس، تابع، لعلك بهذه الطريقة تبرر لنا ما لن نتردد إذ ذاك من المضي في فضحه من أمورك». وعلى هذا المقطع علق أيضاً وكيل السيد إده، زاعماً انه «يشير الى تهديد صريح من التيار الوطني الحر للموكل بفضح أمور أخرى... إذا استمر في مهاجمة العماد عون». وأفاد بأن موكله «يأخذ هذا التهديد على محمل الجد ويقوم بمراجعته من الناحية القانونية لاتخاذ الموقف المناسب منه تجاه التيار الوطني الحر والقيمين عليه». فبماذا عساي أعلّق على هذا الموقف التهديدي المفتعل؟
1 ــ لا أدري من أين أتى الوكيل وموكله المحترم بنسبة مقالي الى «التيار الوطني الحر والقيمين عليه»، فيما كان صاحبه شخصاً فرداً وحسب هو الداعي، وقد ذيّل اسمه، للتعريف فقط، بصفته الحزبية ـــ أفلا يفهمان اللغة العربية؟
2 ــ مما لا شك فيه ان عدم اكتراث التيار الوطني الحر والقيمين عليه كتيار وكقيمين في طليعتهم العماد ميشال عون، حتى اليوم، للرد على افتراءات السيد كارلوس إده المتكررة قد حدا هذا الأخير على تلمّس أية فرصة لتصوير نفسه كمن حظي أخيراً بردّ عليه من العماد، فإذا بمقالي يعطيه، حسب ظنّه، هذه الفرصة. ولكنه يخطئ كل الخطأ في تقريره، إذ التيار والقيّمون عليه وخصوصاً العماد لا وقت لديهم للدخول في مهاترات معه.
3 ــ مع أني أعرف، كما يعرف الكثيرون في لبنان، ان الموكل يهوى الدعاوى القضائية ــ وقد أمضى حياته في رفعها ــ لا أرى أين وجد الوكيل النبيه في كلامي ما يُشتمّ منه ولو شبهة من تهديد. إن جلّ ما رجوته من السيد إده هو أن يكفينا شره، فيتوقف عن التعدي على رمزنا الأكبر، حتى لا يضطرني إلى الاستمرار في نشر ما أعرفه عنه، لأني، على رغم كل شيء، لا أرغب في الذهاب في الخصام الى أبعد مع شخص، كائناً ما كان تقديرنا له، من آل إده. ذلك ان هذا الاسم يعني لـــــنا الكثير، ولـو لم يدرك المحدثون في السياسة.
  • (جزء من رد أوسع)
    * رئيس لجنة التثقيف السياسي في التيار الوطني الحر