فنسان الغريّب *
لا بدّ لنا، إذا أردنا فهم مجريات ما يحضّر للبنان بعد انعقاد مؤتمر باريس 3، من الذهاب أبعد مما يذهب إليه خطاب الحكومة اللبنانية وأجهزتها الإعلامية التي تروّج أن تلك المؤتمرات تعقد من أجل «إنقاذ» لبنان ــ على حدّ قولها ــ ومساعدته على الخروج من مأزقه الاقتصادي والمالي الواقع فيه. لا يمكننا فهم طبيعة «المأزق» الذي أُوقع لبنان فيه، منذ تسلّم هذا الفريق السياسي السلطة عام 1992، من دون فهم حقيقة أهداف المؤسسات المالية الدولية والقوى الرأسمالية التي تقودها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وهي أهداف تتلخّص بإيقاع بلدان العالم الثالث في دوّامة المديونية، كي تتحكّم باقتصادها وسياساتها على المدى الطويل، وكي تبقى دائرة في فلك الإدارة الرأسمالية العالمية التي تسعى لتحرير الاقتصادات الوطنية خدمة لمصالح الشركات المتعددة الجنسية والقوى الأوليغارشية التي تقود الاقتصاد العالمي والقائمة على تحالف النخب الشرق أوسطية والأميركية والأوروبية، والمشروع النيوليبرالي الذي يهدف في نهاية المطاف الى خدمة الاقتصاد الأميركي القائم على امتصاص الادخار العالمي، الذي يشكّل عبئاً على الاقتصاد العالمي ككلّ، والذي لا يخضع لأية رقابة ولا يتعرّض لأي عقاب من جانب آليات المؤسسات المالية الدولية، على عكس بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.
يقول سامي نائير في فصل بعنوان «النهب الإمبراطوري» من كتابه «الإمبراطورية في مواجهة التنوّع»، إنه في سياق عملية التحرير الاقتصادي الجارية، ينبغي إخضاع مديونية العالم الثالث لسيطرة المؤسسات الدولية المتحالفة مع المصالح المالية الكبرى. ويشكّل هذا العبء الذي يثقل كاهل البلدان الفقيرة ــ التي من ضمنها لبنان ــ استنزافاً هائلاً للكتل السكّانية الأكثر حرماناً وفقراً من جانب المالية الدولية. ويتميّز هذا الاستنزاف من مثيله في النظام الاستعماري السابق بسهولته البالغة حيث إنه لا يتطلّب جيوش تسيطر سيطرة مباشرة على البلد ولا مواجهة مباشرة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية ولا التزامات إنمائية، بل انه يشكّل «ضريبة على الفقراء». وتؤدي هذه الضريبة عملها، بحسب نائير، بواسطة سلسلة من الآليات: في بداية سبعينيات القرن الماضي، أقدمت المصارف الخاصة الكبرى على تحويل أرصدتها إلى «البترو ــ دولار»، وهو دولار تكوّن من انتاج النفط ووضع من جانب البلدان المنتجة في مصارف بلدان الشمال، على شكل قروض تمنح للبلدان النامية، مشجّعة على قيام مشاريع غير واقعية. وفي نهاية الفترة نفسها، أعادت الحكومة الأميركية النظر في سياستها النقديّة لمكافحة التضخّم، فرفعت أسعار الفائدة، ما تسبّب بإحداث تزايد هائل في حجم الدين العام لدى البلدان المدينة في العالم الثالث، ولا سيّما أن 70 في المئة من هذا الدين قد مُنح على أساس معدّلات فائدة متغيّرة. وخلال هذه المرحلة الزمنية، حدث انقلاب على مستوى أسواق المواد الأوليّة ما أدّى الى انخفاض كبير في مداخيل صادرات العالم الثالث. وهكذا تمّ الدخول في «دوّامة جهنميّة»، على حدّ تعبير نائير الذي لخّص هذه الدوّامة على الشكل التالي: لكي تتمكّن دول الجنوب من سداد دين يتفاقم يوماً بعد يوم، تلجأ مرغمة الى الاستدانة من جديد. وفي المقابل، تقترن عملية منح القروض الجديدة بشرط «إعادة جدولة الدين» تتكرّر عند كل طلب، ما يتيح للمانحين إطلاق آلية تسديد لا حدود لها بحيث تتمثّل حصيلة الدين المتراكم في مبالغ تفوق بدرجات كبيرة المبالغ الفعليّة التي استدانتها بلدان الجنوب. أليس هذا ما يحصل للبنان اليوم وما يحضّر له في المستقبل؟ وعلى الرغم من أن الدين في لبنان لا يزال بمعظمه داخلياً، إلا أن الخشية اليوم هي من أن يتحوّل هذا الدين الى دين خارجي يخضع لشروط وأوامر المصارف والمؤسسات المالية الخارجية.
في بداية الثمانينيات، تركّز ما يوازي 50 في المئة من إجمالي مديونية العالم الثالث في كلّ من المكسيك والأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وكوريا الجنوبية، وكانت كبريات البنوك الأميركية هي المتورّط الرئيسي. وقد اتّخذت هذه البنوك، ومعها الحكومة الأميركية، موقفاً حاسماً: كان الهدف حماية المصارف الأميركية، لا إنقاذ بلدان العالم الثالث كما تدّعي. من هنا انطلقت خطط الإصلاح الهيكلي وعمليات إعادة جدولة الديون المتعاقبة والخصخصة. إلا أن اللافت في الأمر هو أن الولايات المتحدة، التي تعتبر البلد المدين الأكبر في العالم اليوم (أكثر من 500 مليار دولار وهو يوازي إجمالي الدين القائم المتراكم لإحدى عشرة دولة مدينة رئيسية من دول أميركا اللاتينية)، تمتصّ «جهود الادّخار» لدى بقية بلدان العالم من دون أن تشارك في هذه الجهود بصورة كافية (الادّخار الأميركي الخاص هو أدنى من مثيله في أوروبا بما يوازي الخمس، وأدنى من مثيله في اليابان بما يوازي 40 في المئة). إن الولايات المتحدة تمتصّ وحدها اليوم بحسب نائير 80 في المئة من الادّخار العالمي، وهي بذلك تعيش على الدين «عالة» على كل شعوب العالم، والاقتصاد الأميركي يعيش وضعاً بنيوياً «شاذاً» يرتكز على احتياجات مالية أجنبية ضخمة. إن تعاقب الأزمات المالية وتفجّر الفقاعة المالية العالمية المرتبط بـ«نموّ اقتصاد الشبكات»، قد جعلا بحسب نائير وضع الاقتصاد الأميركي أكثر هشاشة، حيث إن كل مصادر رؤوس الأموال التي كانت تغذّي الولايات المتحدة هي اليوم في طريقها الى الزوال.
ما زالت بلدان إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا وستبقى على المدى الطويل عالقة، بحسب تعبير نائير، في «مخالب الدائنين الغربيين». وذلك على عكس الولايات المتحدة التي سارعت الى «مساعدة» لبنان في مؤتمر باريس 3. فهي تبدو غير ملزمة بإيفاء أي شيء لأي كان، على الرغم من أنها غارقة في الديون ومن أنها تنمو، كما أشرنا، بفعل امتصاصها المستمرّ للادخار العالمي. ان الاقتصاد الأميركي هو اليوم الاقتصاد الوحيد في العالم الذي لا يخضع لآليات عقاب المؤسسات المالية الدولية التي تحكم حصارها على الاقتصاد اللبناني المنهك بفعل انسياق نخبه الحاكمة خلف المؤسسات النيو ــ ليبرالية المعولمة، بشكل أعمى ومقصود في آن معاً، ما أدخل اقتصاد بلدنا في «دوّامة المديونية» التي سوف تجعل منه هدفاً جديداً من أهداف الإدارة الأميركية في السيطرة على مفاصل الاقتصاد العالمي.
* باحث اقتصادي