رشيد أسعد *
يُنظر إلى الصراع في دارفور على أنه اعتداء من قبائل عربية على إثنيات إفريقية أو بالعكس. لكن المفارقة أن جميع المتحاربين هناك متساوون في الفقر، سواد البشرة، الإسلام السنّي، واللغة العربية المشتركة على رغم وجود لغات محلية.. يبدي المجتمع الدولي اهتماماً بهذا الصراع أكبر بكثير مما أبداه إبان مجازر رواندا التي راح ضحيتها أكثر من مليون مدني، أو مما يبديه إزاء المجازر التي يقوم بها جيش الرب في أوغندا.. على ما يبدو، ليس البعد الإنساني ما يحرّك المجتمع الدولي، بل هناك بعد آخر يكمن وراء معظم الأزمات والصراعات في العالم: إنه الذهب الأسود..
تقع دارفور غرب السودان على حدود تشاد، تبلغ مساحتها مساحة فرنسا ويقطنها حوالى 6 ملايين نسمة. يقطن السكان من الإثنية الإفريقية السوداء وسطها وهم مزارعون. أما العرب فهم من الرعيان الرحالة الذين يعتاشون على تجارة الماشية ويوجدون شمال دارفور. بدأ التوتر بين الفريقين خلال مواسم الجفاف التي حصلت في العقود الأخيرة، حيث اتهم المزارعون في الوسط العرب الرحالة بالاعتداء على أراضيهم ومحاصيلهم الزارعية. في ثمانينيات القرن الماضي، أصبحت الاشتباكات أكثر عنفاً وبدأ المزارعون في الوسط تسليح أنفسهم بعدما تبين لهم أن الخرطوم، بدل أن تساعد على حل هذا النزاع، عمدت إلى دعم القبائل العربية حيث يُقال إنها سلّحت أكثر من عشرين ألفاً من ميليشيات الجنجويد العربية (كلمة جنجويد تعني الرجل الذي يمتطي حصاناً مع بندقيته). مقابل ذلك، وبمساعدة دولية وأطراف إقليمية، شكّل المزارعون ميليشيا جيش التحرير السوداني (SLA) وحركة العدل والمساواة (JEM) اللتين هاجمتا واحتلتا عدة بلدات في دارفور في شباط من عام 2003، وطالبتا حكومة السودان المركزية بالمشاركة في السلطة والثروة والتنمية، إضافة إلى تجريد ميليشيا الجنجويد من السلاح. رفضت الخرطوم ذلك وشنّت هجوماً رئيسياً في تموز من العام نفسه حيث استمرت المعارك لفترة طويلة على رغم اتفاقات وقف إطلاق النار المتكررة. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، هاجمت ميليشيا الجنجويد المدنيين مرات عديدة مرتكبةً العديد من المجازر ومسببةً أزمة إنسانية كبيرة، إذ تشرّد أكثر من 1،4 مليون مدني وأقاموا في مخيمات لجوء أو داخل الأراضي التشادية. يوجد حالياً في دارفور أكثر من 300 جندي من دول منظمة الوحدة الإفريقية مع حوالى 80 مراقباً دولياً، يهتمون بإيصال المساعدات إلى المخيمات وبمنع حصول جرائم ضد المدنيين.
فتح هذا الصراع في دارفور نافذة تطل من خلالها قوى الاقتصاد الكبرى في العالم على تلك المنطقة لما تحتويه من ثروات طبيعية مهمة.
السودان هو الأكبر مساحة في إفريقيا (يعادل تقريباً مساحة أوروبا الغربية) ويسكنه 35 مليون نسمة، ويتمتع بموقع استراتيجي على البحر الأحمر ويحد سبع دول إفريقية. في باطن أرضه ثروات طبيعية فتحت شهية الشركات الكبرى ما وراء البحار. يُعتقد على نطاق واسع أن لدى السودان احتياطاً نفطياً ينافس ما لدى السعودية، إضافة إلى مخزون هائل من الغاز الطبيعي. ويمتلك ثالث أكبر ترسّب من اليورانيوم العالي النقاء (امتداداً للترسب الموجود في تشاد)، ورابع أكبر ترسب من مادة النحاس. تقع معظم هذه الثروات في دارفور ما أعطى هذه المنطقة أهمية اقتصادية هائلة، وخاصة مع صعود نجم الطاقة النووية وبدء الكلام الجدي على نضوب تدريجي للنفط في الحقول النفطية حول العالم. بدأ السودان إنتاج النفط عام 1999، حيث كان العائد المالي السنوي للحكومة حوالى 500 مليون دولار، صُرف 80 في المئة منه لشراء السلاح لتغذية حروبها المتفرقة. وتقول دراسات اقتصادية دقيقة إن هذا العائد سيتضخم إلى عشرات مليارات الدولارات لدى استغلال الاحتياطات النفطية الباقية. ويعتبر السودان حالياً سابع أكبر منتج للنفط في إفريقيا بعد نيجيريا، ليبيا، الجزائر، أنغولا، مصر، وغوايانا الاستوائية..
واقع الأمر، في دارفور حربان: تُستخدم في الأولى السكاكين والسيوف والكلاشنكوف ورجال على خيول وجمال فوق سطح الأرض، أما الثانية فتُستخدم فيها آلات قياس جيولوجية عائدة لشركات نفط كبرى لوضع خرائط للنفط الموجود مئات الأمتار تحت سطح الأرض. يغذي هاتين الحربين لاعبان أساسيان: الصين والولايات المتحدة.
تعيش الصين تطوراً ونمواً اقتصادياً هائلاً ما جعلها لاعباً أساسياً في الاقتصاد العالمي وفتح شهيتها للمواد الخام حول العالم. مع بداية نضوب حقولها النفطية في الداخل، تعيش الصين تحت ضغط توفير مصادر بديلة، وخاصة مع كونها المستهلك الثاني للنفط عالمياً. وبحسب آخر الإحصاءات، ارتفعت واردات الصين من النفط أخيراً من 6 في المئة إلى ثلث حاجتها المحلية وسترتفع إلى 60 في المئة حوالى عام 2020، وهذا يعادل تقريباً 15 مليون برميل في اليوم الواحد.
استثمرت شركة نفط الصين الوطنية (CNPC) المملوكة من الحكومة حوالى 300 مليون دولار لتوسيع أكبر مصفاة للنفط في السودان، ما أدى إلى مضاعفة الإنتاج. عام 2004 بدأت هذه الشركة إنتاج النفط جنوب دارفور إضافة إلى امتلاكها حصة كبيرة من إنتاج الحقول جنوب السودان. وبنت شركة سينوبيك الصينية 1000 ميل من الأنابيب من دارفور إلى بورسودان لتحميل النفط على متن الناقلات.. بالإجمال، تستورد الصين ثلثي الإنتاج النفطي السوداني، وتعتبر السودان أكبر مشروع نفطي لها ما وراء البحار.. لذلك تمده بالسلاح الذي يحتاج إليه في حروبه، وبالإعاقة التي يحتاج إليها في مجلس الأمن لأي مشروع لا يتوافق مع مصلحته.
على عكس ما يحصل مع السعودية، لم تتمكن الولايات المتحدة إلى الآن من السيطرة والتحكم بسياسة السودان ولا سيما النفطية منها.. بل سعت ولا تزال إلى عرقلة تطوير هذا المصدر الاقتصادي المهم واستخدامه.. عبر سعيها الدؤوب في مجلس الأمن إلى فرض عقوبات على السودان، يكون الحظر على الصادرات النفطية والعقوبات على الشركات المتعاملة مع السودان بنداً أول.. ودعمت خلال عقدين حرب الانفصال في الجنوب التي استنفدت كل مصادر الحكومة الاقتصادية.. وبعد توقيع السلام هناك، توجه الاهتمام الأميركي إلى الغرب في دارفور حيث تُتهم الولايات المتحدة بأنها وراء رفض واحدة من الميليشيات هناك توقيع اتفاق السلام الأخير.. وتعتمد الولايات المتحدة على سياسة المبعوثين إلى السودان للضغط على الحكومة ولمحاولة وضع موطىء قدم نفطي لشركاتها الكبرى هناك.. كما في مناطق مختلفة من العالم، انسحب التنافس الاقتصادي بين الكبيرين الصين والولايات المتحدة إلى صلب أزمات السودان ولا سيما في دارفور.
على رغم الانتقادات الحادة التي توجّهها المنظمات الإنسانية إلى رد الفعل البطيء على أزمة دارفور، تتحكم عدة عوامل موضوعية بهذا البطء أو التباطؤ، أبرزها:
ــ تضارب مصالح الدول الكبرى في السودان، ما يمنع الوصول إلى قرار حاسم في مجلس الأمن لحل هذه الأزمة.
ــ سيُنظر إلى أي تدخل عسكري غربي تحت أي مسمى إنساني، على أنه اجتياح غربي لدولة مسلمة ما يزيد الوضع العالمي توتراً بعد تجربتي أفغانستان والعراق.
ــ لم يتوصل مجلس الأمن حتى الآن إلى اعتبار أو إثبات أن ما يحصل في دارفور هو بمثابة إبادة جماعية لشعب أو عرق أو دين.. وهذا يعني عدم وجود مبرر قانوني للتدخل هناك..
وتبقى أزمة دارفور مفتوحة على كل الاحتمالات، كما هي الأزمات والحروب التي يتداخل فيها النفط بالدم..
* كاتب لبناني