توفيق المديني *
لقد انبثقت دولة الحق والقانون في سياق التحولات التاريخية الكبرى التي أصابت المجتمعات الأوروبية، منذ أن بدأ المشروع الثقافي التنويري الغربي الذي له خاصياته المتميزة يشق طريقه لجهة إخراج العقلانية من حدود الغيب والتجريد اللفظي إلى عالم المجهول المادي وإلى الطبيعة. وبذلك ولدت الدولة الحديثة بفضل الجهد التاريخي الذي قامت به الذات الأوروبية على ذاتها في مراحل الصراع التوتري الهائل بين العقل المسيحي والعقل العلمي الذي دام ثلاثة قرون، والذي تُوّج بإحداث القطيعة الكبرى ــ وهي قطيعة معرفية وقطيعة إبستمولوجية وسياسية داخل استقلالية العقل نفسه ــ مع التصور الديني للعالم والحياة الذي أصبح معوِّقاً للحداثة والتقدم وغير محتمل وغير مقبول في معارضة النظام المعرفي الجديد الذي شكلته البورجوازية كطبقة صاعدة في أوروبا.
لا شك في أن ميلاد الدولة ــ الأمة، أساسها، وأصلها، ومعناها، تمظهر تاريخياً في ذاته ولذاته حسب تعبير هيغل، حين بدأت العلاقات الرأسمالية تظهر تحت شكل الرأسمالية البضاعية، ومع اندلاع الثورة الديموقراطية البورجوازية التي عمّت الغرب بدرجات متفاوتة الحدة والقوة منذ القرن التاسع عشر وفي أواخر القرن الثامن عشر، وعلى امتداد القرن التاسع عشر. ولدت أشكال متنوعة عبر التاريخ من الدولة ــ الأمة، ففي إنكلترا، تشكلت الرأسمالية الصناعية من رحم الرأسمالية التجارية، وحققت البورجوازية «وفاقاً تاريخياً» مع الأرستقراطية بتحالفها مع النبلاء. غير أن التوازن النسبي للطبقات المسيطرة في مرحلة عملية التراكم البدائي لرأس المال الإنكليزية التي عرفت الكثير من العنف، لم يفسح في المجال لانبثاق دولة قوية كما هي الحال في فرنسا، بل عجّل بقدوم «دولة معتدلة» حسب تعبير مونتسكيو، وعملت هذه السلطة السياسية المخفضة على إدارة هذا الوفاق في إطار التناقض بين الديموقراطية الداخلية والاستغلال الإمبريالي.
أما في فرنسا، فقد استولت البورجوازية على السلطة بوساطة الثورة العنيفة، وبسطت هيمنتها الطبقية على مجتمع ما زال زراعياً وتكمن المفارقة هنا في أن الهيمنة البورجوازية في فرنسا سبقت التوسع الصناعي والرأسمالية الصناعية التي عرفت انطلاقتها الفعلية تحت حكم الإمبراطورية الثانية ابتداء من عام 1850، على نقيض إنكلترا.
وهكذا، فإن المصادر النظرية للأفكار الثورية، وكذلك الممارسات المولدة للدولة الحديثة، ارتبطتا تاريخياً بحوامل موضوعية تجسدت في ذلك التفاعل العظيم بين إبداع الأفكار الثورية في الفيزياء والفلك والرياضيات وما نجم منها من تحولات علمية وصناعية كبرى، وحققت أسس رأسمالية صناعية متطورة، وبين طرح المناهج والأنساق المعرفية الجديدة في الفلسفة، التي تعتبر الإنسان ــ هذا العَلَمُ للثورة، والذي يتصور نفسه تارة كائناً طبيعياً، وتارة كائناً عقلياً ــ مركزاً للعالم، وطرحت في الوقت عينه التناقض بين مثالية القانون الطبيعي الذي بقي قاصراً منهجياً والقانون الوضعي المبني على العقلانية. ويعتبر الحقوقيون أن الدولة الليبرالية للرأسمالية التنافسية التي ولدت في بلدان الغرب هي الشكل النموذج لدولة الحق والقانون بوصفها من أكثر الأنظمة ديموقراطية، وتمثل في الوقت عينه مركّباً بين نظريات القانون الطبيعي أسبق منها ومبادئ حملها إليها القانون الوضعي في القرن الثامن عشر.
إن ما يتم التعبير عنه عبر دولة الحق والقانون، هو نشوء الدولة الحديثة في سياق التجربة الغربية، بدءاً من القرون الكلاسيكية التي أفرزت أشكالاً متعددة من الدولة القائمة على نظرية القانون الطبيعي، مروراً بالتحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية منذ بداية الثورة الإنجليزية وحتى قيام الثورة الفرنسية، والتغيرات التي أدخلتها هذه الأخيرة على صعيد تجسيد القطيعة مع الأشكال السياسية للدولة الاستبدادية التي شهدت نشأة الرأسمالية المركنتيلية والتي عبّرت عن إحدى المراحل الانتقالية من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وإرساء الدولة القومية ــ الأمة التي تعتمد على فكرة سلطة القانون المطلقة، وبناء سياسي وقانوني يتجسد في مؤسسات مدنية تعتمد العمل الأيديولوجي وأخرى عسكرية وأمنية تعتمد العنف المشروع داخل حدود جغرافية معترف بها داخلياً وخارجياً. هذا الجمع بين البناء المدني السياسي والظاهرة القانونية وبين العنف المشروع داخل حدود معينة، هو أساس مفهوم الدولة ــ الأمة.
إن مفهوم الدولة ــ الأمة يتضمن في سيرورته الطابع الكوني العام الذي يحمله إلى العالم، لأن ظهوره ترافق مع ظهور الرأسمالية الناشئة، وانتشار علاقات الإنتاج الجديدة الخاضعة للرأسمال. فالبورجوازية الصاعدة تعمل على توطيد هيمنتها، وخدمة أهدافها على أساس أنها قيم حقائق، وتحقيق الوحدة القومية للأمة المتأمثلة للسوق الاقتصادية من خلال إلغاء الحواجز الجمركية الداخلية الموروثة من الانقسامات الإقطاعية، وانتزاع السيطرة والسيادة للسلطة السياسية من الرجعية الإقطاعية والمونارشية وإقامة دولتها، التي لن تكون أتوماتيكياً نتاج سيطرتها كطبقة، بل عبر الفتوحات التي تقوم بها لفرض هيمنتها والمرتبطة بخوض الصراعات السياسية المستمرة من أجل السلطة، الأمر الذي أظهرته بأكثر ما يكفي تاريخ الثورات، وبالأخص منها تاريخ الثورة الفرنسية الكبرى.
خلافاً لما هو شائع الاعتقاد، فقد عرف العالم دولة «القانون» عبر العصور المختلفة التي مرّت بها البشرية، منذ أيام حمورابي إلى يومنا هذا. لكن ما يميز الدولة الأوتوقراطية والديكتاتورية والتوتاليتارية في هذا المجال عن الدولة الديموقراطية هو كون القانون في الحالة الأولى جائراً، وشكلياً ولا عقلانياً، فضلاً عن انتهاكه وخرقه من السلطة عينها التي يفترض أنها تطبقه، أما في الحالة الثانية فهو يكفل للشخص الإنساني للمواطن، حقوقه الأساسية والحرية والمساواة أمام القانون، ويفسح له في المجال للدفاع عن حقوقه هذه، حتى في مواجهته الدولة التي يفترض أنها ضامنة لها.
* كاتب تونسي