ألبير الخوري*
لم ينتظر الرئيس جورج بوش طويلاً ليصرّح، وقد أتاه الوحي، بعد أسابيع قليلة على تدمير «القاعدة» برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وغزوه أفغانستان وإعلانه الحرب على ما سمّاه «الإرهاب الدولي»، بأنه يتلقى تعليماته من الله، و«السماء تمطرني أفكاراً أعجز عن تجاوزها»... ويبدو أن بوش «صوت الله على الأرض» كشف علناً ما أخفاه رؤساء أميركا منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عن طموح واشنطن لـ«أمركة العالم» وفق نظام عالمي جديد اتفق علماء السياسة والمحللون الاستراتيجيون على تسميته «العولمة». وبعيداً عن أطماع واشنطن المكشوفة للدول الكبرى والصغرى على السواء، الغنية والفقيرة، فإن العولمة ليست وليدة الأمس القريب ولا البعيد، ولا هي أيضاً الابن الشرعي للولايات المتحدة، إذ تتعدى ولاية بوش إلى العصور البدائية الاولى. وهناك بين المؤرخين من يعيد أصولها إلى زمن الآسينيين الذين عاشوا في فلسطين، وكان بينهم نسّاك يمارسون التأمل وصولاً إلى الحقيقة الكونية، عكس اليهود الذين اعتقدوا أن الله الذي سمَّوه «يهوه» يسكن جبل صهيون دون غيره من أصقاع الدنيا.
وتبعاً لهذا الاعتقاد، توجهت الأنظار إلى جهة واحدة تحكم العالم، هي بالضرورة «جهة علوية». ونتيجة للانتصارات الكبيرة التي حققتها الإمبراطورية الرومانية وسيطرتها على ثلاثة أرباع العالم، ترسخ الاعتقاد بأن القيصر وحكمه هو انعكاس لما هو علوي. ومع توالي العهود والإمبراطوريات والحضارات التي نشأت أصلاً على مبدأ القوة، اتخذت العولمة معناها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بانتصار الثورة البولشفية في روسيا وسقوط القيصرية أمام الاشتراكية التي نادت بالأممية، فكانت تلك أول عولمة بالمفهوم المعاصر، وعنت بمفهومها الاشتراكي توزيع الثروات الوطنية عبر وسيلتين:
ــــــ الأولى، وسميت «الشكل الواحد»، ما يعني أن العالم بأسره يخضع لسلطة سياسية واحدة، أو حكومة مركزية تقيم نظاماً اقتصادياً موحداً يخضع فيه كل المواطنين إلى توزيع الإنتاج بالتساوي، تبعاً لحاجة المواطن لا حسب عطائه.
الثانية، سمَّوها «الاتفاق المشترك»، حيث تمارس كل دولة النظام الاقتصادي المشار إليه من دون ارتباط بحكومة مركزية.
في مقابل نظرية الأممية التي عمل بها المعسكر السوفياتي، نشأت، قبيل أفول نجم الشيوعية في العالم، نظرية العولمة التي نادت بخضوع العالم إلى نظريات متماثلة، إن لم نقل متطابقة تماماً. وكان انتشار النظرية الأولي في الجامعات، حيث اعتنى الباحثون بالمنهج الواحد في التربية والتعليم. ثم تعدى الأمر أسوار الجامعة والمدارس، حتى بدأنا نشاهد ونسمع عبر الإذاعات والشاشات الصغيرة المقالات عن النظام العالمي الجديد، أي النظام الواحد تحت عنوان كبير، الديموقراطية، ومن حينها بدأت جيوش الحلفاء بالتوجه إلى كل القارات.
وقد صدرت آلاف المقالات ومئات الكتب في الموضوع نفسه بقلم عدد من كبار المحللين السياسيين والمسؤولين، حيث بات مصطلح العولمة أو «الكوننة» أو «الشوملة» من المفردات الأكثر شيوعاً في أواخر التسعينيات، وإن كانت المؤشرات الإعلامية والإعلانية غير المكتوبة قد أخذت طريقها إلى العولمة بالمفهوم الأميركي من خلال السينما الهوليوودية التي أطلقت نجوماً ومواضيع «معولمة»، فضلاً عن عولمة الأزياء والسجائر والعطور والمشروبات والمواد الغذائية التي عكست آثارها على العادات والسلوكيات والثقافات والاخلاقيات.
بذلك بدأت تنقشع الغيوم عن حقيقة نظرية العولمة، كما عبر عنها مارشال ماكلوهان وكوينتن فيور، صاحبا الكتاب الشهير «حرب وسلام في القرية الكونية» وزبيغنيو بريجنسكي صاحب «بين مرحلتين، دور أميركا في العصر التكنوقراطي».
ينطلق الكتاب الأول من تجربة حرب فيتنام ودور التلفزيون في نقل الصورة الحقيقية والواقعية، ليستنتج الكاتبان أن الشاشة الصغيرة حولت المواطنين من مجرد مشاهدين إلى مشاركين في اللعبة، الأمر الذي أدى إلى اختفاء بين المدنيين والعسكريين. يضيف ماكلاهان أن الإعلام الإلكتروني، في وقت السلم، يجعل التقنية محركاً للتغيير الاجتماعي.
بريجنسكي من جهته فضّل استعمال مصطلح «المدينة الكونية» على «القرية الكونية»، لأن مفهوم العودة إلى الجماعة والألفة المرتبطة بالقرية لم يعد مناسباً للدلالة على البيئة بالتلفزيون والهاتف بالاتصالات اللاسلكية، ما حوّل العالم كله إلى «شبكة علاقات متشابكة ومتداخلة، عصبية، متوترة ومتحركة». وأكد بريجنسكي أن الولايات المتحدة هي المجتمع الكلي الأول في التاريخ. فهي مركز الثورة التكنو ــــــ إلكترونية بحيث تبلغ نسبة اتصالاتها 65 في المئة من مجموع الاتصالات المعالجة التي تخرج منها، من خلال إنتاجات صناعاتها الثقافية، لكن أيضاً بفضل تقنياتها ومناهجها وممارسات التنظيم الجديد.
وفي مواجهة أميركا، يضيف بريجنسكي، أنه في الكتلة التي سيطر عليها الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه، لا نجد إلا مجتمعات جافة تبعث على الملل، ما يعني أن هذه الكونية الأميركية أو الأممية الرأسمالية، استطاعت أن تتحرر من وصمة «الإمبريالية» التي حاول خصومها إلصاقها بها وجعلتها في مصاف المفردات البالية التي تخطاها الزمن.
في ظل هذه المفاهيم، بدا واضحاً أن العولمة التي تُنَفَّذ عبر مقولة النظام العالمي الجديد هي الشريحة المقارنة لنظام «الشكل الواحد»، حيث هناك حكومة مركزية واحدة في العالم تخضع لها وبإرادتها الحكومات الصغيرة في العالم.
ويبدو أن تطبيق نظرية نظام العولمة الواحد من خلال التربية والتعليم فشلت فشلاً ذريعاً، وبالتالي فشلت الوحدة الثقافية والحضارية، حيث بقيت المجتمعات تحتفظ، كل منها، بثقافتها الخاصة، الأمر الذي يؤكد أن الحضارات تتحاور، لكنها لا تندمج في قالب واحد. والدليل على ذلك سقوط نظرية الكتاب الواحد في العالم ولو جزئياً.
وما يخص العالم الثالث، أو ما كان يُسمى هكذا، اعتباراً من أن هذا العالم لم يعد له وجود بعدما قُسِّم إلى ثلاثة عوالم يستحيل وضعها بالترتيب حسب الأهمية والتأثير. لقد سيطرت في السابق قوتان عُظميان: الرأسمالية الأميركية والأممية الشيوعية، اللتان امتلكتا الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي عجزت عنه دول أخرى، ما يعني أن هذا العالم الثالث خضع لسيطرة إحدى القوتين العظميين في الحرب الباردة. وبزوال الاتحاد السوفياتي، نجد العالم نفسه أمام سيطرة قوة سياسية واقتصادية وعسكرية واحدة تجسدها الولايات المتحدة وتحاول جاهدة توسيع رقعة وجودها وتأثيرها على جميع أصقاع العالم تحت عنوان الديموقراطية. من هنا يتأكد أن العولمة معادلة للسيطرة الأميركية على الدول النامية التي تمتلك الثروات الطبيعية الهائلة. وقد سبق للكاتب الأميركي هـ. ج. ويلز أن كتب روايات عدة في هذا المجال، ليبشر بها في ما بعد وزير الخارجية الأميركية الاسبق جون فوستر دالاس، ورسم خريطتها الرئيس الأميركي الراحل دوايت ايزنهاور.
وبانسحاب المعسكر الشرقي من المنافسة فإن الولايات المتحدة التي اعتنقت رأسمالية هجومية، بدت صاحبة الرؤية «المنتصرة» لعالم يعاني أزمة هوية، ولنظام دولي مائع يفتقر إلى المعنى. وقد دفع الانتصار الأميركي المسار الدولي المتباطئ إلى الشارع في غياب العراقيل التي كانت قائمة، في ظل ازدياد مستوى القلق الدولي من «الخطر المجهول» أو «خطر اللايقين» الذي حل محل المخاطر الواضحة المظهر والمصدر التي حكمت العالم خلال سنوات الحرب الباردة.
هكذا تبلورت في بداية التسعينيات، في شيء من العجالة، تجمعات اقتصادية إقليمية كبرى مثل الآسيان، الاتحاد الأوروبي، نافتا... دفعت بمفهوم جديد في العلاقات الدولية إلى البروز إلى جانب العولة. وتميزت هذه التجمعات بترساناتها الخاصة من التشريعات المشجعة للتبادل الحر والسوق المفتوحة ورفع الحواجز الجمركية ومقاومة الضغوط الجغرافية والسياسية. لكن المفارقة أن تشكل أو اندفاع مناطق تبادل الحرب لم يستبعد الخوف من انبعاث القومية الاقتصادية والحمائية مجدداً. فالاقتصاد الريعي ما زال مسيطراً والمضاربات المالية والبورصات الدولية تستمر سارية المفعول على نطاق واسع. لكن على عكس الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فإن القومية الاقتصادية تخلصت من قيود الأمد الطويل والاقتصاد الحقيقي، وبات هذا الأخير يخضع لشروط المردودية على المدى القصير، وهي السياسة التي أدت إلى نتائج كارثية في ما كان يسمى النمور الآسيوية.
قانون السوق لم ينتج انتظاماً وشفافية كما يشاع، واليد الخفية لا تدير لعبة اقتصادية تلقائية أو عفوية. أضف إلى ذلك أن العولمة تعتمد على بنى تدخل سلطوي خارجي تعمل على المستوى العالمي: مجلس إدارة، جماعة السبعة الكبار، معايير إعادة الهيكلة البنيوية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والتي لا تترك هامشاً واسعاً لسيادة الدولة وحريتها في إدارة اقتصادياتها، ودول العالم الثالث هي الأكثر تعرضاً لهذه الأخطار، إذ إن هذا النظام كشف عن أحد المعطيات الجديدة للعصر الكوني الجديد، وهو عصر عسكري بامتياز، يؤكد ذلك انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية انتصاراً كاملاً ومطلقاً، حيث اتسعت الهوة التكنولوجية السحيقة الفاصلة ما بين الدول الغنية والفقيرة، كما كشفت هذه الهوة عن تحول عميق لمصلحة الشمال على حساب الجنوب.
ففي أفريقيا يزداد التبادل غير المتكافئ حدة، وشبح الجوع يجول بين إثيوبيا والكونغو والصومال والسودان وموزامبيق وأنغولا، والبطالة تطال الأكثرية الساحقة من الأفارقة، والوضع الصحي مخيف، ويزداد عدد اللاجئين بمقدار ما تغرق الدول الأفريقية في عنف لا متناه.
وحال أميركا اللاتينية الخارجة من «العقد الضائع» ليس أفضل بكثير، إذ إن القارة الخارجة من الديكتاتورية تدخل بالجملة في دين العولمة الجديد. وكذلك حال دول جنوب شرق آسيا، أو ما كان يسمى النمور الآسيوية، فقد أعادتها الأزمة المالية عام 1997 عقوداً إلى الوراء. والشرق الأوسط حاله معروف في ظل الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي والحصار الأميركي للدول العربية العاصية.
باختصار، فإن حال العالم الثالث عموماً في ظل العولمة المتسارعة يزداد سوءاً وتزيد الهوة التي تفصله عن الشمال اتساعاً وعمقاً.
* كاتب لبناني