علي شهاب *
اتخذت روسيا موقع الند للسياسة الأميركية في العديد من المفاصل، في الآونة الأخيرة، على الساحة الدولية، وجعل فلاديمير بوتين من الشرق الأوسط محور اهتمامه المستجد.
ظهر الامتعاض الأميركي من موسكو جلياً في ساحات أخرى، في تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي عن حقوق الإنسان مثلاً. غير أن حسابات واشنطن تلتمس تمرداً، أو فلنقل تحولاً، في الموقف الروسي منذ وصول بوتين إلى سدة الرئاسة. أعربت الإدارة الأميركية علناً عن هواجسها بدعوتها، في تقرير استراتيجية الأمن القومي لعام 2006، روسيا إلى «وقف كل ما من شأنه أن يعوق نشر وتطبيق مبادئ الحرية والديموقراطية في هذه المنطقة الحساسة والحيوية التي تتمتع بأهمية خاصة في الحرب على الإرهاب» في إشارة إلى الشرق الأوسط.
فبالنسبة إلى واشنطن، من المفترض أن تكون موسكو أكثر تعاطفاً معها حيال «مكافحة الإرهاب»، وهي التي تعاني من الثورة الشيشانية.
كما أن التقارب مع إيران، ركن مثلث «محور الشر»، واستقبال قيادات «حماس» ورد الفعل إزاء قضية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الأكرم (ص)، كلها وقائع تلقي بظلال من الشك الأميركي على دوافع موسكو.
إن إجراء مراجعة سريعة للعناصر التي أسهمت في تشكيل مفاهيم «البوتينية» الجديدة، قد تفسر سبب الصعود الروسي.
روسيا «المسلمة»!
لم تحقق حملة بوتين على «الإرهاب» في الجمهوريات المسلمة سوى القليل من النجاح، منذ أن أمر الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين القوات الروسية بدخول الأراضي الشيشانية في عام 1994. ولم يستطع الكرملين إيجاد حلول ناجعة للمسألة الشيشانية التي امتدت تبعاتها إلى موسكو نفسها، عندما قُتل 120 شخصاً في عام 2002، حينما حاولت القوات الخاصة الروسية إنقاذ 800 رهينة احتجزهم الثوار الشيشان في أحد مسارح العاصمة الروسية. ثم أساء «الدب الروسي» استخدام «مخالبه»، عندما راح مئات الأطفال ضحية عرض القوة «المفرط» الذي قدمته وحدات خاصة في الجيش الروسي في بيسلان في عام 2004.
وحتى اليوم، تبدو القوات الروسية عاجزة عن حماية نفسها في القوقاز، حيث «يقتل يومياً جندي أو شرطي روسي»، بحسب تقارير إعلامية.
وهكذا، قرر بوتين تغيير المسار، وبدلاً من التعاون مع جورج بوش في حربه الشاملة على «الإرهاب»، مدّ الرئيس الروسي يد العون إلى العالم الإسلامي، إلى حد أنه طلب، في عام 2003، الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، في مفارقة لا يفسرها واقع أن عدد المسلمين في روسيا لا يتعدى عشرين مليون نسمة، أي 15 في المئة من عدد السكان، وهي نسبة أقل من الـ50 في المئة التي تشترطها المنظمة للموافقة على طلب الانضمام. ومع ذلك، حصلت موسكو على صفة مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي.
في شهر كانون الأول من عام 2005، وصف فلاديمير بوتين، في كلمة ألقاها في افتتاح دورة عمل البرلمان الشيشاني المنتخب حديثاً آنذاك، بلاده بأنها «دولة أمينة، يعتمد عليها لحماية وتأمين مصالح العالم الإسلامي»؛ كانت واشنطن ترصد الإشارات الروسية.
في 4 شباط 2006، اندلعت احتجاجات في العالم الإسلامي على الرسوم المسيئة للرسول (ص).
استغلت روسيا المناسبة لتثبيت تمايز سياستها عن واشنطن «التي تخوض صراعاً مع الفاشيين الإسلاميين»، بحسب بوش.
أول تعليق رسمي روسي وجهه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما قسطنطين كوتشاييف: «إن رئيس الوزراء الدنماركي قام بغسل يديه بالكامل من هذه القضية، مستخدماً العبارات والمصطلحات المعتادة التي تتحدث عن حرية التعبير».
وبعد ثلاثة أيام، تكلم بوتين: «على المرء أن يفكر مئة مرة قبل أن يقوم بنشر أو رسم شيء من هذا النوع. وإذا كانت الحكومة (الدنماركية) غير قادرة على منع نشر هذه الأمور، فعليها على الأقل أن تطلب الصفح والسماح» من المسلمين. ولم يكتف النظام الروسي بالإدانة، بل ذهب بعيداً في إغلاقه صحيفة «غورودسكي فيستي» التي قامت، في 17 شباط 2006، بنشر رسوم مسيئة للنبي محمد (ص) وللسيد المسيح (ع) وللنبي موسى (ع) ولبوذا.
كما أُغلقت صحيفة «ناش ريجيون» في مدينة فولغودا بتهمة «التحريض على الكراهية العرقية»، بعد أن قامت الصحيفة بإعادة نشر الرسوم الدنماركية، فيما أظهر استطلاع روسي أن 14 في المئة فقط من الشعب الروسي «غاضب» بسبب قضية الرسوم؛ هي غاية في نفس بوتين إذاً! وإلا فكيف يمكن تفسير هذا «التعاطف» مع قضايا العالم الإسلامي.
الحليف الإيراني «الغني»
من وجهة نظر تاريخية، فإن المصالح الروسية والإيرانية أقرب إلى التصادم منه إلى الاتفاق. ويسهم العامل الجغرافي وتداخل مناطق النفوذ في دعم نظرية التصادم، لكن الطرفين بنيا جسراً من العلاقات الجدية على خلفية مواجهة الخصم الأميركي منذ اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979.
وتشكل عقود التسلح بين الطرفين عاملاً مهماً في الحفاظ على هذه العلاقة؛ تقدم موسكو أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ، وتغذي طهران الاقتصاد الروسي المترنح بالمال.
للوهلة الأولى، يبدو صحيحا أن المال هو المؤثر في العلاقة بين روسيا وإيران، لكن ثمة آفاق استراتيجية تحكم هذه العلاقة.
إن روسيا، بدخولها في شراكة نووية مع إيران، رغم سوء التفاهم العابر بينهما الذي برز أخيراً، تثبت اتفاقاً ضمنياً تمتنع بموجبه طهران عن التدخل في القضية الشيشانية وغيرها من القضايا ذات الطابع الإسلامي التي تشكل تهديداً للكيان الروسي. (إسرائيل أيضاً تدرك أبعاد وأهمية هذا التهديد بالنسبة إلى روسيا، لذا فهي تقوم منذ عام 1999 بإطلاق تصريحات تشبه فيها الثوار الشيشان بالـ«إرهابيين» الفلسطينيين، فضلاً عن التعاون العسكري والأمني مع موسكو).
«إرهابيو» حماس في موسكو
انفردت موسكو، من بين أطراف اللجنة الرباعية، بدعوة حماس لزيارتها في شباط 2006، وردت واشنطن بحذر: «نتوقع من روسيا أن تبلغ حماس الرسالة نفسها التي سبق أن تبلغتها، وهي تحديداً، إدانة ونبذ العنف، الاعتراف بإسرائيل، واحترام الاتفاقات الدولية التي عقدتها السلطة الفلسطينية السابقة» قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية شون ماكورماك.
كان عادياً أن تتواصل موسكو مع منظمة التحرير، لكن فتح باب التواصل ــــــ علناً ــــــ مع حركة «إرهابية»، بنظر واشنطن، يُعد تطوراً خطيراً. جاء وفد حماس إلى موسكو، جال في شوارعها، لكن لم تصدر أي نتيجة عن الزيارة. علّق صحفي روسي بالقول: «لقد دعت موسكو الفلسطينيين فقط لمجرد الدعوة، وقد حضرت حماس فقط لمجرد الحضور».
استعادة الدور المفقود
عند الحديث عن الدور الروسي في المنطقة، يبدو أن واشنطن تلقت صفعة؛ لعلّ راسمي الخطوط العريضة للسياسة الأميركية أغفلوا أولويات روسيا التي وضعتها وزارة الخارجية الروسية في عام 2000، بالإشارة إلى «العمل من أجل استعادة وتعزيز مواقع روسيا، في الشرق الأوسط والاقتصادي منها بشكل خاص».
إن إنجاح هذه السياسة، يتطلب تسليح إيران وسوريا، فتح علاقات مع حركات مقاومة كحماس، ومد يد العون للعالم الإسلامي.
فهل نحسن التقاف المبادرة الروسية «المرحلية»، أم تنجح واشنطن في إعادة موسكو إلى ركبها؟
* كاتب لبناني