حسن جابر *
يقارب البعض مفردة الديموقراطية كأنها أيقونة تستدعي التقديس والصلاة وتقديم القرابين، ويكاد المرء يصاب بالغثيان جراء الجمود عند العنوان، وكأن مفردة الديموقراطية مجرد معنى بسيط لا يحتمل الشروط والحيثيات، مع العلم بأن البشرية، التي سبق لها أن ابتكرت هذه الآلية، نجحت في ابتكار أشكال مختلفة تتواءم وحقائق الاجتماع السياسي. فالديموقراطية التي يرشح منها معاني الحرية في الاختيار وتداول السلطة وحق الأفراد والجماعات في المساءلة، ليست معزولة عن التوافقات التي تنتجها القوى الفاعلة، وهذه التوافقات هي التي تضفي على الديموقراطية اللون والطعم والرائحة، وإلا خرجت عن مقصدها وتحولت إلى عامل تسلط وظلم، الأمر الذي يتناقض ومنطلقاتها وخلفية من ابتكرها.
لقد ارتضى الأميركيون والبريطانيون صيغة محددة للديموقراطية، هي في الواقع ترجمة أمنية للتكوين الثقافي والتاريخي لما يعرف بالمجتمع الإنكلو ــــــ أميركي، فكانت صيغة الحزبين علامة فارقة تميز هذين المجتمعين وتشير إلى شكل من التراضي وفّر عبر عقود طويلة استقراراً سياسياً وتفاعلاً، ولم تخرج ندوب أو حالات اعتراض توحي ببطلان هذه الصيغة أو تقاومها. في المقابل، تبنت بعض الدول الأوروبية شكلاً آخر للديموقراطية اصطلح على تسميته بـ«الأوروبية القارية»، وهي صيغة أخرى مغايرة استساغت التعددية الحزبية تعبيراً أميناً عن التعددية الإثنية والطائفية والمناطقية التي تسم هذه البلدان، وهي لم تأسر نفسها في «نموذج إرشادي» معين يكبلها أو يعرض مكوناتها للاهتزاز، وثمة تصنيفات أخرى كثيرة تكاد، في عددها، توازي مجوع الدول المنضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا كان التمتع باحتمالات عالية لديمومة الديموقراطية والانطواء على مستوى منخفض من العنف المدني الفعلي أو المحتمل*، هما من أبرز سمات النظام الديموقراطي، فكل ترسيمة تستهدف حماية هاتين السمتين، هي بكنهها ووظيفها لا يمكن أن تكون إلا ديموقراطية.
والانقسامات في المجتمعات الحديثة ليست سواء، فهي، عادة ما تكون وثيقة الصلة بخطوط التباين القائمة موضوعياً، التي أطلق عليها «هاري اكشتاين» تسمية الانقسامات القطاعية، وهذه قد تكون دينية، إيديولوجية، لغوية، إقليمية، ثقافية وعرقية. وثمة مستتبعات يلحظها «اكشتاين» في طول تلك الانقسامات ينبغي أخذها بعين الاعتبار، لأنها متفرعات متناسخة من تلك الانقسامات القطاعية. فالأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والمدارس والجمعيات التطوعية التابعة لا يمكن النظر إليها إلا من زاوية كونها تعبيرات لصيقة الصلة بتلك المكونات.
بناً على ما تقدم، حدد بعض الباحثين في الديموقراطيات التوافقية ومنهم «جرهارد ليبروخ» الغاية من صياغة الأشكال المختلفة للديموقراطية بأنها «استراتيجية في إدارة النزعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب بدلاً من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية»، عليه، تكون الديموقراطية التوافقية محكومة سلفاً، برغبة مختلف المكونات في طمأنة بعضها بعضاً والشروع في إدارة الدولة والمجتمع دون مخاوف أو هواجس تقلق الجميع وتقعدهم عن الإنتاج والتنمية والتطور.
فالصيغ المبتورة أو المشوهة التي جرى اعتمادها في بعض البلدان العربية ودول أخرى تنتمي إلى دائرة العالم الثالث، لم تكن سوى تغطية لأشكال مختلفة من الاستبداد. أما تحكم الأكثريات بالأقليات أو العكس، فالتعامي عن الانقسامات القطاعية والقفز فوق التطلعات الخاصة لا يسعفان في إقناع الضحايا، مهما كان شكل التمويه أو لون الرقع الذي يغطي وجه الاستبداد. ومحاولة الهرب إلى الأمام بمدعيات غير عملية كالقول بالمواطنة والمساواة أمام القانون، لا يجدي، في هذا المقام، لأن الاكثرية المشبعة بعناصر ثقافية خاصة بها ستحول، في الغالب، دون تمثيل الأقلية بما يطمئنها.
من هنا لجأت الدول المركبة إلى تبني استراتيجيات تناسبها في دول العالم، فانفردت كل واحدة إلى إضفاء صبغتها ومذاقها وتلاوينها على دستورها ليخرج متساوقاً مع طبيعة التكوين وعمق الهواجس ومستوى التحديات.
لكن الواضح أنه لا يستطيع المشرع وضع محددات وضوابط خارج إطار قوة احتمال النسيج الاجتماعي، فنظام الحزبين الذي تعتمده المملكة المتحدة والولايات المتحدة، هو موائم لتكوين هذين المجتمعين، وقد لا يكون قابلاً للتعميم، لذلك لا نلحظ إصراراً فرنسياً أو ألمانياً، وحتى إيطالياً على محاكاته.
وإذا كان نقل التجربة من النمط الإنكلو ــــــ أميركي إلى الأوروبي القاري غير ممكن، فمن المؤكد أن تعميمه على العالم الثالث يضحي مستحيلاً، فثمة عدد كبير من السمات التي تميز العملية السياسية في المجتمعات التعددية غير الغربية، ويكفيها افتراقاً أنها مجتمعات تتعايش فيها مختلف قطاعات المجتمع جنباً إلى جنب لكن بانفصال.
انطلاقاً من هذا التنوع لجأت دول عدة إلى تخير صيغ تلائمها، كالتجربة البلجيكية والسويسرية والهولندية والنمساوية والماليزية والنيجيرية، وقد تفاوتت الضوابط وتنوعت من بلد لآخر، فبعضها اعتمد «الفيتو» في القرارات المصيرية كحق تستخدمه المكونات الأساسية للحؤول دون تعرض أحد المكونات للضرر أو الأذية، والبعض اعتمد الإجماع، وثالث توافق على توزيع الأدوار كما هو حال ماليزيا التي ارتضت للملاويين الغلبة في الملف السياسي فيما أعطي الصينيون صلاحيات واسعة في الاقتصاد، وهناك صيغ كثيرة أخرى يمكن معاينتها في الدول التعددية، إلا أن الذي يجمعها كلها هو التعاون والوفاق كبديل آمن من «التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية». ولا يضر الصيغ التوافقية في شيء إذا اعتمدت المواطنة والديموقراطية العددية وتداول السلطة داخل كل مكون ما دام لا ينال من المكونات الأخرى أو يحدث لها ضرراً.
* باحث واستاذ جامعي