العربي مفضال *
اقتحمت العلاقات بين الجزائر وفرنسا معترك الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية المستعرة على أرض الواقع قبل أن تعرف انطلاقتها القانونية الرسمية. وتصدرت قضية الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر وما ارتبط به من انتهاكات جسيمة الحديث الجاري عن تلك العلاقات.
وكانت السيدة سيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي الفرنسي الى الانتخابات الرئاسية التي سيجرى دورها الأول في مارس ـــ آذار المقبل... قد امتشقت هذه الورقة الشديدة الحساسية المتعلقة بالعلاقات بين الجزائر وفرنسا، وخاصة خلال الفترة الاستعمارية... عندما بعثت بمستشارها السيد جاك لانغ في بداية الشهر الجاري، محمّلاً برسالة منها إلى الرئيس الجزائري. وعلى غير المعتاد في خطابات المسؤولين الاشتراكيين الفرنسيين... لم تتردد السيدة رويال في وصف الاستعمار «بنظام الهيمنة والنهب والإذلال» وفي التشديد على «أهمية قيام باريس والجزائر معاً بتصحيح للتاريخ يأخذ بعين ما نتقاسمه» على هذا الصعيد. ومن جانبه... أطلق السيد جاك لانغ مستشار السيدة رويال وأحد القادة البارزين في الحزب الاشتراكي، ووزير الثقافة في الحكومة الاشتراكية السابقة... العنان لتصريحات قوية في الرابع من فبراير ـــ شباط الماضي، اعتبر فيها استعمار الجزائر «جريمة»، ودعا بلاده الى الاعتراف بها، وأكد أن «أفضل طريقة للاعتذار هي الاعتراف بواقع الجرائم التي ارتكبت من طرف الاستعمار في الجزائر ما بين 1830 و1962».
وللتذكير... فإن الاشتراكيين الفرنسيين لم يكونوا متميزين كثيراً عن نظرائهم اليمينيين في مقاربة التجربة الاستعمارية لبلادهم في الجزائر. وعلى الرغم من فوزهم برئاسة الجمهورية، وقيادتهم للحكومة والبرلمان خلال عدة ولايات أثناء الفترة الممتدة من 1981 الى 2002... فإنهم لم يسجلوا أي سبق يذكر في اتجاه تصحيح الموقف من التجربة الاستعمارية المذكورة. وفوق ذلك... سجّل على هؤلاء الاشتراكيين انسياقهم، غير الواعي ربما، وراء قانون 23/2/2005 الذي اشتهر باسم «قانون تمجيد الاستعمار». فقد صوّت هؤلاء لمصلحة هذا القانون السيئ الذكر الذي يستفز عدداً من الدول المستعمَرة سابقاً من طرف فرنسا عندما ينوه بـ«التضحيات» التي قدمها أبناء المستعمرات الذين عبّأتهم باريس واستخدمتهم ضد أشقائهم، وعندما يؤكد «الطابع الإيجابي «للاستعمار الفرنسي ولا سيما في شمال أفريقيا، وعندما يدعو الى إبراز هذا الطابع في الكتب التعليمية.
ولم ينتبه الاشتراكيون الفرنسيون الى هذه السقطة إلا بعد ارتفاع أصوات الاحتجاج داخل فرنسا وخارجها، فطالبوا حينها بإعادة النظر في القانون المذكور، ثم سايروا بعد ذلك استنجاد الرئيس شيراك بالمجلس الدستوري لتخليص هذا القانون من المضامين التمجيدية للاستعمار باعتبارها تندرج في المجال التنظيمي الموقوف على الحكومة، لا في المجال التشريعي الموقوف على البرلمان. فلماذا تندفع السيدة رويال اليوم في إثارة موضوع الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر؟ ولماذا تتجاوز كل ما دأب عليه الساسة الفرنسيون المعتدلون من حذر وحيطة وتهرب حيال هذا الموضوع الحساس؟
مساهمة في الإجابة عن هذين السؤالين... يتعين الاعتراف أولاً بالتقدم النسبي الذي تحقق في مجال الحديث عن سيئات وجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، في وسائل الإعلام وأمام القضاء في فرنسا. ومن الأسلحة التي استخدمت ضد مرشح اليمين المتطرف في الدور الثاني من رئاسيات 2002 جرائمه في حق الوطنيين الجزائريين حين كان مظلياً في القوات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر. وقد تعزز التقدم المذكور بعد الاحتجاجات الواسعة التي أثارها قانون تمجيد الاستعمار وأدت الى تعديله في بداية 2006. وبفضل هذا التقدم لم يعد من المحرج كثيراً لعدد من ساسة فرنسا التطرق إلى الماضي الاستعماري لبلادهم.
وبالإضافة الى التقدم المذكور... يبدو أن السيدة رويال فكرت ملياً في مقادير الربح والخسارة الانتخابيين، واعتبرت عن حق أن الممجّدين الحقيقيين للاستعمار الفرنسي في الجزائر يتكوّنون أساساً من المستوطنين الفرنسيين الذين تم ترحيلهم من الجزائر «ومن الحركيين» الذين جنّدتهم باريس كرديف لقواتها الاستعمارية، واضطرّت لاستقبال بعضهم على أرضها وتجنيسهم، والفئتان المذكورتان محسوبتان إجمالاً على اليمين واليمين المتطرف، ولا أمل للسيدة رويال في أصواتهم الانتخابية.
وفوق هذا وذلك، ومقابل الفئتين الميؤوس منهما... تأمل السيدة رويال، من إثارتها لموضوع الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وانتقادها لما انطوى عليه من هيمنة ونهب وإذلال، ووعدها بتصحيح النظرة الى هذا الماضي في حال فوزها برئاسة الجمهورية... تأمل في كسب قسم هام من أصوات الفرنسيين المتحدرين من أصل جزائري، ويقدر عدد هؤلاء بحوالى مليون ناخب.
ويمكن ألّا تقف الآثار الانتخابية الإيجابية لموقف المرشحة الاشتراكية الفرنسية عند حدود الناخبين الفرنسيين المتحدرين من أصل جزائري. ذلك أن الوقوف ضد تمجيد الاستعمار، والجرأة على إدانة جرائمه يلقيان التنويه داخل عدة فئات من الناخبين الفرنسيين المتحدرين من أصول مغاربية وأفريقية، والمنتمين الى أقاليم فرنسا ما وراء البحار.
وفي ضوء ما سبق، يبدو أن الحسابات الانتخابية لا تؤدي فقط الى مغازلة النزاعات العنصرية والشوفينية... كما يفعل اليمين المتطرّف... ولا تدفع نحو التزلّف للحركة الصهيونية كما يفعل غالبية المتسابقين على المقعد الرئاسي الفرنسي... ولكنها قد تؤدي أيضاً إلى دعم القضايا العادلة.
* كاتب عربي