قاسم عز الدين *
لا ريب أن المعارضة اللبنانية وقفت عند حاجز يصعب القفز فوقه، إذ اصطدمت باندفاع ميليشيات السلطة الى الحرب الأهلية، ولم توفر لنفسها طموحات وآليات تغيير سياسي واجتماعي تستعيض به عن تقاتل العصبيات، وحصرت خلافها مع السلطة بالمشاركة السياسية (الديموقراطية التوافقية)، وهو تناقض في خيارات سياسية لم تعد المؤسسات الدستورية المتقادمة مؤهلة للتوفيق بينها، فموضوع الخلاف الحقيقي، في الواقع السياسي والاجتماعي، مقاربة عقيمة لإعادة بناء الدولة، أو على الأرجح تباين في مقاربة الأسس الأولية في بناء أي دولة وهي: السياسة الخارجية، السياسة الدفاعية، السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية، وشكل الحكم. لكن السلطة تنسجم بتكامل خياراتها في هذه الأسس، وهي ليست إملاءات خارجية كما تتهمها المعارضة، إنما خيارات تلاقي مصالح اجتماعية وسياسية مع الدول الغربية في مجلس الأمن. فهذا التلاقي يتجاوز النفعية المادية والعلاقة الزبائنية، الى الانخراط في التحولات السياسية للنظام الدولي لمصلحة حرية التجارة والريع العقاري في البلدان الضعيفة. فالفئات النافذة المستفيدة من هذه التحولات في لبنان، لا وزن لها يؤهلها للاندماج ما لم تكن في السلطة وما لم تكيّف السلطة مع تبنّي خيارات «المجتمع الدولي» واستراتيجية التحوّل في ما يلي: التراجع عن الاستقلال السياسي للدول الضعيفة التي نشأت إثر إزالة الاستعمار، توكيل «المجتمع الدولي» بالسياسة الدفاعية والمراهنة على الزمن لتحقيق الاستقرار (الستاتيكو)، توكيله بالسياسة الخارجية وتكييفها مع تلاقي المصالح، توكيل المؤسسات الدولية بالسياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية «لتحقيق الازدهار وإيجاد فرص العمل».
وهذا كله يقتضي مشاركة السلطة المحلية في إزالة الحواجز السياسية والاجتماعية و«الأمنية» التي تعترض هذه الخيارات، سواء بقوى الجيش والأمن أو بقوى ميليشيات السلطة والشركا ت الأمنية الخاصة. فالسلطة في لبنان لا تخفي هذه الخيارات السياسية المتمثلة في تلاقي المصالح مع المجتمع الدولي شأنها في ذلك شأن بقية السلطات العربية والسلطات التجارية الأخرى في «العالم الثالث»، كل يدعم الآخر بترويج ثقافة سياسية هي غيض من فيض ثقافة نيوليبرالية تشمل جميع أحوال العمران وأحوال المعاش. وقد أنتجتها بطبيعة الحال المؤسسات «العلمية» ومراكز الأبحاث الكبرى ونجحت بنشر أحلام اليقظة بين الفئات الاجتماعية التي همّشها انهيار مشروع الدولة طوال مرحلة الاستقلال السياسي. لكن هذا النجاح هو أيضاً أثر من آثار عجز المعارضات السياسية عن إنشاء تلاقي مصالح اجتماعية، مغاير لتلاقي مصالح السلطة، في مشروع إعادة بناء الدولة.
تلتقي المعارضة في لبنان، موضوعياً وذاتياً، مع ممانعة الدول الإقليمية المناهضة لاستراتيجية تهديد بقاء الدول والمجتمعات في «الشرق الأوسط الكبير». لكن دول الممانعة لا تبحث عن استراتيجية بديلة تقوم على تلاقي المصالح بين الفئات الاجتماعية في بلدانها وفي المحيط الإقليمي، بل على العكس يحرص «المحور الإقليمي» على تهميش تلاقي المصالح بين الفئات الاجتماعية سواء في مشروع بناء الدولة والمصلحة الوطنية، أو في المصالح المشتركة بين الدول في المحيط الإقليمي. يبني سياسات رد فعل على استراتيجية «المجتمع الدولي»، لكنها أدنى منها وأقل طموحاً. فهو يأمل عرقلة زحف هذه الاستراتيجية على السلطة لا زحفها على المجتمعات بالاقتصاد وتهميش قطاعات الإنتاج. يسعى الى توسيع نفوذه السياسي في المحيط الإقليمي ويحاول ان يملأ جزءاً من الفراغ السياسي الذي يحتله «المجتمع الدولي»، لكن هذا التوسع لا يتم فقط على حساب الزحف «الدولي» بل أيضاً على حساب الهويات الوطنية وعلى حساب الفئات الاجتماعية المتضررة من احتلال أي فراغ سواء كان دولياً أو إقليمياً.
وإذ لا يبحث المحور الاقليمي عن تلاقي المصالح وتبادل المنفعة بين الفئات الاجتماعية، يترافق توسعه السياسي مع سطوة أمنية عارية وثقل اضافي في المشاركة بنهب الثروة المحلية (تجربة توسع النفوذ السوري في لبنان، والنفوذ الايراني في العراق). لقد حصدت المعارضة في لبنان آثار عدم وجود استراتيجية بديلة في المحيط الاقليمي لتلاقي المصالح بين الفئات الاجتماعية، بينما حصدت السلطة نتائج تملّصها من المسؤولية عن تقاسم المصالح مع النفوذ السوري، وهي تحصد اليوم نجاح ترويج أساطير الاستقرار والازدهار في استراتيجية «المجتمع الدولي»، وتحصد كذلك أزمة المعارضة في قلة طموحاتها السياسية والاجتماعية، فالمعارضة لا تتجاهل فقط تلاقي المصالح بين الفئات الاجتماعية بل تتجاهل وجودها. تنظر الى الفئات الاجتماعية نظرة اليانكي الأميركي إليها، فتراها مجرد طوائف ومذاهب وقبائل يمكنها ان «تتعايش» في السلطة ولا يمكنها ان تبني دولة مدنية فوق الانقسامات العصبية. ترى ان الانقسام العصبي «الطبيعي» ينقل انقساماً عصبياً «طبيعياً» الى السلطة، حيث ينبغي التفاهم والحوار «بين العقلاء»، ولا ترى ان السلطة تنقل صراعاتها العصبية الى الطوائف والمذاهب حفاظاً على تقاسم المصالح في السلطة. تتوهم ان الدولة تبنى على شاكلة الانقسامات العصبية في المجتمع، ولا تصدق ان بناء الدولة تقوم به قوى اجتماعية تملك طموحات تغيير سياسي مغبّة زحف العصبيات على الدولة وحفاظاً على وجودها الطبيعي في المجتمع.
والمفارقة المأساوية ان المعارضة أنجزت عملياً على أرض الواقع السياسي والاجتماعي الشرط الأساس في إعادة بناء الدولة، وهو شرط القدرة على الردع الوطني والسياسة الخارجية المتركّزة على الردع الوطني. لكنها لم توظف هذا الإنجاز في إعادة بناء المصلحة الوطنية، التي تجمع تلاقي مصالح الفئات الاجتماعية في لبنان والمحيط الإقليمي، بل على العكس من ذلك سلّمته الى السلطة في تأجيج الانقسامات العصبية. عملياً، أنجز حزب الله، أثناء مسار المقاومة، «دولة» أعلى من السلطة الطائفية في التنظيم العسكري والرعاية الاجتماعية والأفق السياسي، وأيضاً في تكوين المهارات والطاقة البشرية. لكن هذه «الدولة» لا يمكنها ان تتعايش الى الأبد مع سلطة مركزية هشة، بالحوار والتفاهم «مع الشركاء في الوطن»، فإما أن تتفكّك هذه «الدولة» بالحرب أو السلم، وتنزل الى مستوى السلطة، وإما ان ترتقي الى دولة مركزية أعلى منها بالقدرة على الردع الوطني وعلى السياسة الخارجية وعلى السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية وشكل الحكم، أي بناء مصلحة وطنية حيث تتلاقى المصالح والحقوق بين القوى الاجتماعية المتضررة من انهيار الدولة في استراتيجية «المجتمع الدولي».
ولا يسعى حزب الله للارتقاء بمشروع الدولة بل اختار التفاهم مع زعماء الطوائف على السلطة وسلمهم بذلك شرعية التحدث باسم «جماعاتهم». لكن هذه الآلية جعلته في منظور «الجماعات» متحدثاً باسم «جماعته»، وفي هذا المنطوق تتساوى الجماعات بالقدرة الغريزية على الصراع العصبي، والحال من غير الإنصاف تحميل حزب الله وحده مسؤولية الارتقاء في مشروع الدولة. لكن الأزمة هي ان القوى السياسية الأخرى لا تتكامل مع المقاومة في مسار بناء الدولة اعتماداً على تلاقي مصالح الفئات الاجتماعية، فالتيار الوطني الحر يخوض معركة سياسية لإعادة بناء الدولة، ولكنه يخوضها من فوق عبر تصحيح مسار المؤسسات الدستورية والأسس الأولية الخام. يراهن على تصحيح المسار بالسياسة الوطنية الداخلية والخارجية، من دون اعتماد المصلحة الوطنية على تلاقي مصالح الفئات الاجتماعية. فالتيار مشبع بالثقافة الجمهورية (يمين الوسط) التي ترى الدولة توازناً بين السلطات الدستورية فحسب، وترى الطبقة السياسية مفوضة من الشعب في بناء سياسات الدولة الديموقراطية. ولا يراها، كما هو واقع الدول الديموقراطية، توازناً بين سلطة الدولة والسلطة الموازنة لها في التعبير عن تلاقي مصالح القوى الاجتماعية، والمؤسف ان التيارات السياسية اليسارية والتجمعات الديموقراطية الأخرى، تلتقي على هذه الرؤية العرجاء لإعادة بناء الدولة من فوق، بتصحيح مسار المؤسسات الدستورية (خارج القيد الطائفي)،
وتتجاهل الاعتماد على القوى الاجتماعية في تغيير مسار المؤسسات وتغيير موازين القوى بين الفئات، وتتوخى نشر الثقافة الديموقراطية بين العصبيات تمهيداً للوصول الى «حالة اجتماعية» مفترضة ذهنياً. وترى العلة في وجود الانقسام العصبي بين الطوائف لا في سياسات الطبقة السياسية التي تبني سلطة على شاكلة كونفدرالية الطوائف، ولا في عجز المعارضة السياسية عن بلورة مشروع الدولة مع القوى الاجتماعية.
فالحزب الشيوعي اللبناني المتجدد يدعو الى بلورة مشروع يفترض ان يدعوه الآخرون الى بلورته في: حل المسألة الزراعية، ومشكلة المياه والأرض والبيئة، والتوازن بين الصناعة والحرفيات والزراعة والخدمات، والتبادل المتكافئ في السوق المحلية والدولية، وإعادة تنظيم البلديات والمحليات والتضامن في ما بينها، وترابط القطاعات المطلبية في حراك المجتمع المدني. لكنه بخلاف ذلك ينتظر إصلاح المؤسسات الدستورية من فوق ومن دون تدخّل القوى الاجتماعية في إعادة البناء. ولعل العقدة هي في «النقلة» بين «مجتمع منقسم طائفياً» ودولة مدنية فوق الطوائف. لكن هذه العقدة هي عقدة ذهنية ثقافوية لا تحل مسبقاً بل تحل خلال تكوين الآليات في مسار إعادة البناء والتلاقي بين مصالح القوى الاجتماعية. فالمرء يتعلم السباحة في الماء ووظيفة القوى السياسية اكتشاف الآليات في مسار إعادة البناء لتنظيم القطاعات بل في البدء بتكوين الآليات. وغالباً ما تكون الشياطين في العموميات لا في التفاصيل. فالادعاء بأن الناس طوائف ومذاهب فقط هو ادعاء في العموميات. ففي كل فرد وجماعة عدة انتماءات متداخلة (وطني، عائلي، مناطقي، فردي...) بينها انتماء اجتماعي هو الأعلى والأرقى. وعليه يبنى التغيير السياسي إذا استطاعت القوى السياسية فهم «النقلة» من خلال قراءة تجارب البلدان التي بنت الدولة والتي عجزت عن بنائها. ولعمري ما ضاقت بلاد بأهلها، لكن أحلام رجال الدولة تضيق.
* كاتب لبناني مقيم في باريس