زياد سعيد *
تنطوي المبالغة، أي مُبالغة، على كذب مؤكد. المبالغة في السياسة تقود الى التطرف، والتطرف الى إقصاء السياسة، لمصلحة ضروب من اليقين الرث، الذي يظهر في شعائر وطقوس أشد رثاثة من نوع ما تعتمده القوى السياسية الممسكة بالخناق اللبناني، فينأى العقل بنفسه، أو يعتصم بالموت.
ليست الألوان حصراً بين أزرق لبناني وأزرق إقليمي، أو بين أزرق «المستقبل» وأحمر الجماهير «الجنبلاطية»، تلك التي نزلت الى الشوارع المحيطة بـ«جامعة بيروت العربية» وراحت تطلق النار. الألوان الأخرى لها أيضاً حضور ومعنى، ومن الغباء تجاهل وجودها. الممسكون بالسلطة ماضون في تنفيذ مشروع ضرب ما سلم من عناصر الدولة. والإنصاف يُوجبْ القول إن قسط المسؤولية الأوفر في ما يعيشه البلد من أخطار، يقع على عاتق «السلطة» لكونها نظرياً، وعملياً، حاكمة، وفي موقع الفعل، فيما الفريق المقابل، أي المعارضة، هي نظرياً، وربما عملياً أيضاً في موقع المحكوم ورد الفعل.
الانسداد السياسي الحاد، والمعبّر عنه بتعذّر الحلول له صلة وثيقة وأصلية بالمواقف السلطوية التي رافقت وتلت الحرب الاسرائيلية، إذ فضحت طبيعة وخطورة التورط الذي يعيشه بعض «اللبنانيين»، وكشف الوظيفة الحقيقية لهذا الاستئثار، الذي يسعى أساساً الى ضرب الانتصار اللبناني والعربي الذي تحقق. وهنا يكمن المعنى العميق لرفض مطلب المشاركة في القرار عبر صيغة (19 ــ 11)، ولمجمل ما يعيشه البلد من تأزيم مدبّر يُراد منه جرّ المعارضة وفي القلب منها «حزب الله» الى الوقوع في الفتنة، على غرار السيناريو العراقي أو الفلسطيني، بما يمكّن من الوصول الى الهدف الأصلي الذي كمن وراء الحرب الأميركية ــ الاسرائيلية في تموز 2006، أو أقله التخفيف من حجم الضائقة الاسرائيلية التي نتجت من فشل العدوان.
التدقيق في طبيعة السلوك «السلطوي» الذي تلا الحرب، سواء في العمل المباشر على مفاقمة التحريض المذهبي، أو في رفض مطلب المشاركة، والإصرار على الاستئثار الفظّ، أو في المواظبة على عقد جلسات وزارية مطعون في ميثاقيتها، يساعد على تبيّن «القصور» الحكومي الفاضح في التعامل مع اللحظة السياسية التي يعيشها البلد. إن الاستمرار في نسب العجز والفشل الى مسميات لا قيمة فعلية لها من نوع المحور الإيراني ــ السوري، يستبطن دفع البلد الى زيادة تبعيته الأميركية، ما يضاعف من القلق والخوف، بل ان استمرار القول بالخطر السوري وتقديمه على أنه السبب في تعذّر امتلاك المبادرة، يشكل هروباً موصوفاً من مسؤوليات الموقع السلطوي، وهو موقع لا جدال في أنه فاعل ومقرر.
القول إن البلد موقوف على أجندة فريق سياسي لا يملك مشروعاً وطنياً، صحيح جداً. يصعب جداً أن يقوم المشروع الوطني على عناوين ثأرية. إن اختصار «المشروع» أو حتى عنونته بشعارات فضفاضة، من نوع ما هو رائج اليوم، لن يفضي إلا الى مزيد من التخبّط والضياع. إن كل الكلام الرامي الى إقناع الناس بأهمية المحكمة الدولية في كشف حقائق الأحداث والتفجيرات التي ضربت البلد، لا قيمة له، وهو في عمقه يهدف الى المزيد من التجهيل، لكونه يوحي أنه يقول كل شيء، فيما لا يقول شيئاً، أو يقول الشيء ونقيضه في آنٍ. والخلاصة البارزة أن القول بإلزامية القبول بالصيغة الملتبسة للمحكمة الدولية، بعيد جداً عن التأسيس للمشروع السياسي الإنقاذي الذي يحتاج إليه البلد، أو أقلّه يتيح له مداواة جراحه الثخينة، فضلاً عن ان الهدف الفعلي، على ما تقوله سلوكيات أقطاب الأغلبية، وفي مقدمهم وليد جنبلاط، ليس معرفة «الحقيقة» قدر ما هو تركيب حقيقة خاصة تقوم على الاستئثار بالسلطة، وشطب المخالفين، كل المخالفين، الذين لا يرون ما يراه أقطاب الأغلبية النيابية. إنه الوهم الخالص الذي يعيشه هذا الفريق ويطلب من اللبنانيين أن يشاركوه فيه.
إن الفريق الذي ساعدته ملابسات سياسية محددة، على الإمساك بغالبية نيابية ووزارية مؤكدة، يقف اليوم عاجزاً أمام أقل وأبسط الأعمال التي يتطلبها واقع احتلاله الصدارة. فمن العجز عن الإمساك ولو بخيط واحد يقود إلى المسؤولين عن الجرائم التي طالت رموزاً إعلامية وسياسية، والغرق في سياسات انتقامية ضد خصوم اليوم الذين كانوا في الحقيقة حلفاء الأمس، وربما يعودون ويصيرون حلفاء المستقبل، والإصرار على رسم أو اختلاق تفاؤل، مشكوك في واقعيته، حول مستقبل البلد، إلى الامتناع عن مُكاشفة اللبنانيين بحقيقة ما ينتظرهم من مستقبل قاتم، في ما يشبه الأمانة لتقليد طالما اتبعه رجالات النظام الأمني السابق، مروراً باستمرار الرهان على «المساعدات» الخارجية (باريس ــ 3)، مع الإصرار على السياسات السابقة التي أوقعت بالبلد، من دون أي تعديلات، وغيرها من الممارسات، إلى المراهنة المطلقة على الدعم الأميركي والغربي من دون التدقيق في تبعات هذه المراهنات وأثرها في موازين البلد الذي يعيش مخاضاً لا يُحسد عليه. جميعها لا تدل على أننا في صدد أي سلوك مسؤول ومغاير لما اتُّبِع خلال السنوات الماضية التي اتسمت بتجريبية خبيثة أزهقت الاقتصاد ودمرت السياسة. إن الحصيلة الأولى للأداء السياسي للممسكين بالقرار لا يُعبّر عن وعي كامل للمسؤوليات التي بين أيديهم، ولا عن فَهم عميق لحراجة اللحظة السياسية، بل يكشف عن خفّة سوف تكون لها أضرارها الجسيمة على راهن البلد ومستقبله. وقد جاءت أحداث الثلاثاء والخميس لتدلّل على جدية هذه المخاطر، ولولا وعي المعارضة لكان وقع البلد في المحظور.
ما تقدم يقود إلى القول إن الفريق اللبناني النافذ راهناً، هو فريق مُتورّم الدور ليس إلا، ويستمد استمرار تورّمه من استثنائية الأحداث التي يمر بها البلد، وحال الضعف والهشاشة المنتشرة في خلاياه، فضلاً عن كونه لا يملك أي تصور حقيقي للمخارج التي يحتاج إليها البلد، لجعله يقلل من أثر التجاذبات الدولية والإقليمية التي تتناتشه. إن جُلّ ما يقوم به يهدف إلى زيادة انكشاف البلد المحقق أصلاً، لاعتقاده أنه السبيل الوحيد لإحكام قبضته الخاصة، وتمرير ما فاته من سياسات، هي وحدها التي مهّدت الأرض أمام الخراب الذي يتربّص بالبلد.
إن المطابقة بين الشعارات والواقع أصعب وأعقد مما يخطر في البال. لطالما كان مطلب الشيء سبيلاً إلى تحقيق عكسه. ولنتذكر أن مطلب الازدهار الاقتصادي الذي عمّ البلد في مُستهل تسعينيات القرن الماضي، كان يُراد منه ازدهار أصحاب الثروات، وأصحاب الاحتكارات. ومطلب الإعمار أُريدَ منه وضع اليد على ملكيات عامة وخاصة، ولهذه الغاية صيغ قانونٌ خاصٌّ صادَرَ الوسط البيروتي من أصحابه. ومطلب تعزيز السلم الأهلي قام على حساب الفقراء، وصولاً إلى أن مطلب الإصلاح المالي والاقتصادي مُوِّل ويُموّل من ضرائب تستثني أصحاب الثروات وسارقي المال العام. أما اليوم فإن مطلب المحكمة يُراد منه أن يكون عنواناً سياسياً لحملة مفتوحة ضد البلد. ويتّضح من المتابعة المحايدة أن مطلب «المحكمة» بات ستاراً لمشروع سياسي انقلابي يحاول النيل من موقع البلد ودوره كجزء من مُحيط يعيش صراعاً مفتوحاً مع دولة إسرائيل، وذلك عبر الإزالة التدريجية للموانع المادية والنفسية التي تحول دون تلزيمه إلى أميركا. إن الإثارة المشبوهة للحساسيات المذهبية، وأساليب الإثارة المعتمدة، إشارة خطيرة تدفع إلى القلق، وخصوصاً أنها تتزامن مع ازدياد التعثّر الأميركي في العراق، والمسعى الإسرائيلي الهادف إلى هضم الهزيمة الصارخة التي مُنيت بها في لبنان.
يبقى أن المفارقة الأكبر، التي لا علاج لها، تكمن في أن من يُكرّس خطابه في طلب «المحكمة الدولية» إنما يمارس نوعاً صافياً من الكذب. الكذب المبرمج لغايات وأهداف لا علاقة لها بالحقيقة. إنه يكذب على نفسه أولاً ويكذب على الناس ثانياً. إن طريق الحقيقة الأقصر لا يُمكنها أن تمر في دهاليز التسويات والصفقات، وهما سمتان تطبعان الممارسات المتتابعة لفريق الأغلبية النيابية والوزارية. ما معنى مثلاً أن يتواصل الكلام على المحور الإيراني ــ السوري، والتغاضي عن التشهير بالدول الممتنعة عن التعاون مع التحقيق الدولي أو أقله الإشارة إليها بالأسماء. أليس في الأمر استثمار غير نزيه لدماء رفيق الحريري. ألم تؤدِّ التطهيرات التي شملت مواقع أساسية في غير جهاز أمني إلى وضع اليد على مواقع القرار فيها. إن كل الكلام السياسي السلطوي هو لتبرير الارتماء الفاضح في الأحضان الخارجية، ومع ذلك لا يجب أن يَحرف الأنظار عما يُعدّ للبلد من مشاريع كبيرة تتهدد ما تبقى لديه من عناصر الوحدة الشكلية.
إن في الإصرار الحكومي على نسبة أسباب العجز والتقصير في التصدي للملف الأمني وسواه، إلى الغير، ما قد يدفع بالبلد الى الانزلاق في ما هو أخطر. «الخميس الأسود» اختبار كبير لن يكون بلا تداعيات، إلا إذا أُحسن التعامل معه، وهذا يتطلب شفافية، تحتاج بدورها الى جرأة خاصة، تفتقر إليها قوى البلد.
* كاتب لبناني